(3) الغلام والملك
محمود العشري
العذاب، وأخاديد النيران بشَرَرها المتطاير، ولَهيبها ترتفع ألْسِنته بأجساد المؤمنين الطاهرة، ويبقى أثرُ تلك النار في قلب كل مؤمن: استضعافًا في الأرض، وجاهلية في الحياة، ترتفع ألْسِنتها كلما اسْتُشْهِد شهيد في سبيل تلك الدعوة
- التصنيفات: التاريخ والقصص -
نعود إلى القصة وإلى الغلام والملك؛ يقول -صلى الله عليه وسلم-: {فَسِمع جليسٌ للملك كان قد عَمِي، فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: ما ها هنا لك أجمَع إن أنت شَفيتني}.
فهؤلاء لا يعرفون إلا لُغة المال، ولكنَّ الداعية الصادق لا يضعُ قَدمًا أو يَرفعها إلا وهو يبتغي بذلك الأجر والمثوبة من الله - سبحانه وتعالى - فلا تَشغله الدنيا بكلِّ ما فيها؛ لأنه يعلم يقينًا أنَّ الدنيا لا تساوي عند الله جَناح بعوضة، ولو كانت تساوي جَناح بَعوضة، ما سقى كافرًا منها شَرْبة ماء؛ ولذلك فالداعية الصادق يقدِّم كلَّ ما يستطيع أن يقدِّمه للناس من حوله؛ طلبًا لِمَرضاة الله - سبحانه وتعالى.
فجليس الملك يقول له: "ما ها هنا لك أجمع إن أنت شفيتني"، فيَرد الغلام على الجليس مُبينًا له أنه ليس هو الذي يَشفي، ولكنه الله - سبحانه وتعالى - فيقول: "أنا لا أشفي، ولكن الله هو الذي يشفي".
من هنا يبدأ الغلام غَرْسَ بذرة التوحيد في قلب جليس الملك؛ ليعلم أنَّ الله وحْده هو النافع الضار، وأنه بيده وحْدَه مقاليد السموات والأرض، وأنه هو وحْدَه الذي يَملِك الشفاء.
فالغلام تجاهَل الفكرة التي عرَضها الجليس - فكرة الهدايا - والتي لَم تنلْ من إحساسه شيئًا، وقال له: "إن أنت آمنتَ بالله، دعوتُ الله فشفاك".
وهنا ترتفع قيمة الأمر بالإيمان الذي طلبَه الغلام في تصور الجليس؛ لأنَّ شفاءَه سيكون بهذا الإيمان، ولأن الأمر بالإيمان كان بديلاً للهدايا والمادة التي تَنال من نفوس الناس تقديرًا واعتبارًا، فانعكَس هذا التقدير والاعتبار على الأمر الذي طلبَه الغلام، "فآمَن الجليس، فشفاه الله".
وعندما قال الغلام: "أنا لا أشفي أحدًا، ولكنَّ الله هو الذي يشفي"، إنما أكَّد بذلك عقيدته من خلال المنفعة التي قدَّمها للجليس، وهذا هو الأساس الأول الذي تقوم عليه فكرة تأليف القلوب في الدعوة؛ إذ إنه يجب أن ترتبطَ المنفعة المقدَّمة بالعقيدة المعروضة، وهذا الارتباط هو الذي سيعطي لتلك العقيدة قيمتَها في نفوس الناس ابتداءً،فهناك فارِق بين تقديم المنفعة لمجرَّد المنفعة، والمنفعة لتأكيد العقيدة.
وهذا موقفٌ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- رواه لنا الإمام مسلم، يوضِّح لنا هذا الفارق، حين جاء إليه رجل يطلب مالاً، فقال له -صلى الله عليه وسلم-: «خُذ ما بين هذا الوادي» وفي رواية لمسلم: "أعطاه غنمًا بين جَبلين"، فقال الرجل: أتَهْزأ بي؟ قال: ((لا))، فأخَذ الرجل كلَّ الإبل التي كانتْ عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولَم يترك شيئًا، دون أن يَمنعه أحدٌ، فلمَّا اقترَب من قبيلته، قال: "يا قوم، أسْلِموا؛ فقد جِئتكم من عند مَن لا يخشى الفقر".
فهنا قصَد الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يُعطيَه المال كله، ففكَّر الرجل في هذا التصرُّف، ففَهِمَ أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يخشى الفقر، وكان هذا الفَهم هو الدافع الأوَّل لإسلامه، ودعوة قومه بعدَه إلى الإسلام.
والواقع أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- اختار قضيَّة عقَديَّة حيَّة في واقع المجتمع الجاهلي؛ ليعالجها في صورة المنفعة المادية، وهي مشكلة خشية الفقر؛ ولذلك كان الأسلوب مؤثرًا، والتأثير بالغًا في نفس الرجل الذي كان يُعاني - مع غيره - من تلك المشكلة.
وعندما قال الغلام: "إنْ أنت آمنت بالله، دعوتُ الله فشفاك"، فإنه يكون قد استغلَّ حاجة الجليس إلى الشفاء، فعرَض عليه الإيمان قبل أن يدعوَ الله فيَشفيه،وهذا أساس آخرُ في تأليف القلوب؛ لأن الإنسان عندما يضطرُّ ويحتاج، يكون أقربَ إلى الله - سبحانه وتعالى - من أن يكون مستغنيًا.
ولقد سار يوسف - عليه السلام - بهذا الأسلوب في دعوته، عندما احتاج إليه صاحباه في السجن لتفسير رؤيتهما، فعرَض دعوته عليهما قبل تلبية حاجتهما؛ ليبثَّ بذلك عقيدته الصحيحة بين السجناء، ويعرِّفهم بالله - سبحانه وتعالى -: {قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} [يوسف: 37 - 38]، ثم بدأ يُفصح عن عقيدته إفصاحًا كاملاً، ويَكشف لهما عن فساد اعتقادهما واعتقاد قومهما، فقال: { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [يوسف: 39 - 40].
لقد رسَم يوسف - عليه السلام - بهذه الكلمات القليلة الناصعة الحاسمة المنيرة - كلَّ معالم هذا الدين، وكل مقومات هذه العقيدة، كما هزَّ بها كلَّ قوائم الشِّرك والطاغوت والجاهلية هزًّا شديدًا عنيفًا.
وهكذا يَبِينُ لنا كيف أن يوسف - عليه السلام - استغلَّ حاجة الناس إليه في دعوتهم إلى توحيد الله - عز وجل - وهذا ما ينبغي أن يَفعله كلُّ داعية صادق، فلو كان طبيبًا، فهو يستطيع أن يستخدمَ مِهنته في الدعوة إلى الله - مع مكاسبه الدنيوية - وذلك بأن يَربط قلب المريض بأن الشافي هو الله، وإنِ استطاع أن يكشِفَ على مريض فقير، ويُعطيه الدواء من عنده، ثم يَطلب منه أن يُقابله في المسجد؛ ليطمئنَّ على أحواله، فيكون بذلك قد استطاع أن يضمَّ رجلاً شاردًا إلى قافلة المؤمنين، وهكذا في كلِّ مجال من مجالات العمل، يستطيع المسلم أن يخدمَ الناس، ويقدِّم لهم يدَ العون وهو يدعوهم إلى الله - سبحانه وتعالى.
بدأ يوسف - عليه السلام - بعد ذلك يفسِّر لهما الرؤيتين: ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ﴾ [يوسف: 41].
وبذلك تكلَّم يوسف - عليه السلام - مع صاحِبَيْه عن دعوته في لحظة الاحتياج الكامل لسماعه، وهذه هي لحظة التأثير التي صَنَعها الغلام مع الجليس، فكانت التنيجة أن آمَن الجليس.
"فآمَن الجليس، فشفاه الله"، هكذا في بساطة "آمن الجليس"؛ وذلك لأن حقيقة الإيمان كامِنة في نفس كلِّ إنسان، ولا يَنقص إلاَّ أسلوب الدعوة الصحيح الذي يتعامَل به الدُّعاة مع الإنسان؛ لتتكشَّف تلك الحقيقة بإذن الله - سبحانه وتعالى.
فهذا هو الجليس يؤمن بمجرَّد أن يطلبَ منه الغلام ذلك، وإذا كان إيمان الجليس مثالاً عجيبًا في بساطة الاستجابة للدعوة الصحيحة، فإن هناك مثالاً أعجب، وهذا المثال هو إسلام ملكة سبأ مع سليمان، والذي سيؤكِّد لنا أنَّ أساس الدعوة ليس بالكلام الذي تُعرَض به القضية فقط، بل بصحة الأسلوب العملي الذي ينجحُ في كَشْف حقيقة الإيمان الكامنة في كِيان الإنسان، حتى دون الطلب الصريح أو الدعوة المباشرة، ولو بكلمة واحدة، فكلُّ ما حدَث من سليمان مع ملكة سبأ أنه أدْخَلها في تجربتين: الأولى لإثبات قوة العقل، وكانت بأخْذِ العرش وتنكيره، ثم عَرْضه عليها وسؤالها: ﴿ فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ﴾ [النمل: 42]، فأجابَت أمثلَ إجابة، فقالت: ﴿ كَأَنَّهُ هُوَ ﴾، ولَم تقل: هو؛ لأنه مُنكَّر، ولَم تقل: ليس هو؛ لأنه هو.
فأدْخَلها في التجربة الثانية - وكانت لإسقاط الغرور عن نفسها -: ﴿ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ ﴾ [النمل: 44]، وبإثبات الذكاء وإسقاط الغرور تمَّت الدعوة للملكة، وعندئذٍ قالت: ﴿ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [النمل:44].
وبمثال دعوة الغلام، ودعوة الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- ودعوة يوسف لصاحِبَيه في السجن، ودعوة سليمان لملكة سبأ، نريد أن يعلمَ الدُّعاة أنَّ التعامل مع الإنسان بصورة صحيحة هو الذي سيُعطي للكلمة في الدعوة الإسلامية قيمتها، ويُحقِّق أثرها؛ ولذلك نلاحِظ أنَّ الغلام لَم يَنطق في تبليغه لقضيَّة الدعوة إلاَّ بثلاث عبارات في القصة كلها، قوله: "إنما يشفي الله"؛ ردًّا على الجليس عندما طلَب الشفاء، وردًّا على الملك عندما ادَّعى أن ما يفعله الغلام إنما هو سحر، وقوله: "كَفانيهم الله"؛ ردًّا على الملك بعد نَجاته من الموت فوق الجبل وفي السفينة، وقوله: "وأن تقول: باسم الله ربِّ الغلام"، عندما دلَّ الملك على الكيفيَّة التي يستطيع أن يقتلَه بها، ولكن هذه العبارات الثلاث تمثِّل في الحقيقة ثلاث نقاط في خطٍّ واحد، وهو خطُّ الإثبات العقدي لقضايا الدعوة من خلال الواقع، فالله الشافي، والله الكافي، والله المحيي المُميت.
حقائق لَم يردِّدها الغلام كقضايا جدليَّة وكلاميَّة، ولكنَّه ذكَرها كحقائق نهائيَّة ثابتة في واقع قائم؛ حيث لا يُمكن ردُّها، أو حتى مناقشتها.
والحقيقة أنَّ البداية لهذا الخطِّ - كما جاء في القصة - ترجِع إلى إيمان الغلام نفسه، وذلك عندما طَلَب الغلام اليقين من خلال الواقع، فدعا الله - سبحانه وتعالى - أن يقتلَ هذه الدابَّة إذا كان أمرُ الراهب أحبَّ إليه - سبحانه وتعالى - من أمْر الساحر، وهذا يعني أنَّ طبيعة التلقي لحقائق هذا الدين واليقين به هي التي تحدِّد طبيعة الدعوة إليه في خطٍّ واحد.
والملاحظة الدقيقة في تحرُّك الغلام أنه لَم يقل للجليس: فلا تدلّ عليّ، مثلما قال له الراهب؛ وذلك لأنَّ الغلام انتقَل بالدعوة من مرحلة السريَّة إلى المرحلة العلنيَّة بهذا التحرُّك العلني العام، وبدليل أنه كان: "يداوي الناس من سائر الأدواء"، كل الناس.
وانتقال الدعوة من السريَّة إلى العلنيَّة يدعونا إلى المقارنة بين المرحلتين، من خلال أربعة نواحٍ: أسلوب الارتباط، البناء التنظيمي، نظام التحرُّك، مدى الإمكانيَّات.
• أمَّا أسلوب الارتباط، فإننا نجده في المرحلة السرية ارتباطًا فرديًّا، مثلما كان بين الراهب والغلام، ونجده في المرحلة العلنية ارتباطًا عامًّا، مثلما كان بين الغلام والجليس، الذي عرَف الغلام لَمَّا سَمِع عنه كما في النص: "فسَمِع جليس الملك".
• وأمَّا أُسس البناء التنظيمي، فقد كانت واضحة في ممارسة كلِّ فرد للدعوة حسب كفاءته؛ فالراهب لَم يدخل مجال الدعوة العلني؛ لأنه لَم يكن يملك إمكانيَّة التأثير العلني، ولَم يبقَ الغلام في مرحلة السريَّة؛ لأنه لو فعَل ذلك، لأفقَد الدعوة إمكانية هذا التأثير العلني.
ولهذا وضَع الراهب فاصلاً تنظيميًّا بين الممارسة السريَّة والعلنية عندما قال للغلام: "فلا تدلَّ عليّ"، وهذا الحد الفاصل الذي وضعَه الراهب للغلام يُشبه إلى حدٍّ كبير الفاصل الذي وضعَه الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأبي ذرٍّ الغفاري عندما قال له بعد إسلامه: ((لا تتكلَّم؛ حتى يُظهرنا الله))؛ لأنه لَم يَزَلْ بعدُ مُستضعفًا، وفي مرحلة السريَّة بدار الأرْقم بن أبي الأرقم.
ورغم أنَّ أبا ذرٍّ الغفاري لَم يتحمَّل معرفة الإسلام والسكوت عليه، فذهَب إلى بيت الله الحرام، وقال: أشهد أنْ لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، وأخَذ المشركون يَضربونه، حتى كادوا يَقتلونه.
أقول: فبرغم هذا، فإنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- لَم يستطع فِعْل أيِّ شيء لأبي ذرٍّ، وترَكه يُواجه الموقف بنفسه، ولَم تتورَّط الدعوة في مواجهةٍ لَم يأتِ وقتها؛ حيث إنَّ أبا ذرٍّ كان يُعلن، ولَم يأتِ بعدُ وقتُ الإعلان.
• وأمَّا عن نظام التحرُّك، فإنه في المرحلة السريَّة كان محدودًا؛ ولهذا نجد أنَّ اللقاء بين الراهب والغلام كان بمرور الغلام على الراهب، وهذا يُشبه إلى حدٍّ كبير وجود الرسول -صلى الله عليه وسلم- في دار الأرقم بن أبي الأرقم في مكة، عندما كانت الدعوة في عهْدها السِّري، وكان كلُّ مَن يريد اعتناق الإسلام، يذهب إليه في تلك الدار؛ حيث لا يعلم أحدٌ مكانه.
ولعلَّ أبرز الأحداث التي تُحدِّد أسلوب التحرُّك في تلك المرحلة، هو حادث إيمان أبي ذرٍّ الغفاري الذي رواه البخارى ومسلم؛ فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لَمَّا بلَغ أبا ذرٍّ مَبعثُ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأخيه: "ارْكَب إلى هذا الوادي، فاعْلَم لي علمَ هذا الرجل الذي يَزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء، واسْمَع من قوله ثم ائتني، فانطلق الأخ حتى قَدِمه، وسَمِع من قوله، ثم رجَع إلى أبي ذرٍّ، فقال له: "رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلام ما هو بالشعر"، فقال: "ما شفيتني مما أردتُ"، فتزوَّد وحَمَل شَنَّة فيها ماء، حتى قَدِم مكة، فأتى المسجد - يعنى البيت الحرام - فالْتَمَس النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- ولا يَعرفه، وكَرِه أن يسألَ عنه، حتى أدْرَكه بعضُ الليل، فرآه عليّ، فعرَف أنه غريب، فلمَّا رآه تَبِعه، فلم يسأل واحدٌ منهما صاحِبَه عن شيءٍ حتى أصبَح، ثم احتمَل قِرْبته وزادَه إلى المسجد، وظلَّ ذلك اليوم، ولا يراه النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى أمسَى، فعاد إلى مَضجعه، فمرَّ به عليّ، فقال: أما آن للرجل أن يعلمَ منزله؟! فقام فذهَب به معه لا يسأل واحدٌ منهما صاحبه عن شيءٍ، حتى إذا كان اليوم الثالث، فعاد على مثل ذلك، فأقام معه، ثم قال: ألا تُحدِّثني ما الذي أقْدَمك؟ قال: إن أعطيتني عهدًا وميثاقًا لتُرشِدني، فعلتُ، ففعَل، فأخبَره، قال: فإنه حقٌّ، وهو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإذا أصبَحت فاتْبَعْني، فإني إنْ رأيتُ شيئًا أخاف عليك، قمتُ كأني أُرِيقُ الماء، فإن مَضيت، فاتْبعْني حتى تدخل مدخلي، ففعَل، فانطلَق يقفوه، حتى دخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- ودخل معه، فسَمِع قوله، وأسلم مكانه".
أما التحرُّك في المرحلة العلنيَّة، فهو تحرُّك عام، مثلما كان الغلام يتحرَّك بين الناس: "يُبرئ الأكْمَه والأبرص، ويُداوي الناس من سائر الأدواء".
ومثل تحرُّك الغلام في المرحلة العلنيَّة، كان تحرُّك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المدينة، فكان يَغشى الناس في مجالسهم، حتى إنَّ عبدالله بن أُبيّ بن سلول - رأس المنافقين - أرادَ أن يحدِّد تحرُّك الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقال له: لا تَغْشنا في مجالسنا، ولكن إذا أتى أحدٌ إليك، فتحدَّث معه، فكان عبدالله بن رَواحة - رضي الله عنه - جالسًا مع القوم، فقال: لا يا رسول الله؛ بل اغْشَنا في مجالسنا، والحديث رواه البخاري.
وبذلك يُريد رأس المنافقين أن يرجِع بأسلوب وتحرُّك الدعوة إلى ما كانت عليه في مكة، وهذا ما رفضَه أنصار المدينة - رضي الله عنهم.
• أمَّا من ناحية الإمكانيَّات، فالمقصود بها القدرة على التأثير العلني العام، مع القدرة على مواجهة السلطة الجاهلية التي تحاول القضاء على هذا التأثير العَلني، وهذا ما حقَّقه الغلام عندما كان يُبرئ الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء، وعندما كانت عنده القُدرة على مواجهة الملك منذ لحظة الانتقال إلى المرحلة العلنية إلى نهاية القصة؛ حيث نكتشفُ أنَّ الغلام كان على يقينٍ بأنَّ الملك كان لا يستطيع قتْلَه؛ حيث قال له في النهاية: "إنَّك لن تستطيع قتلي، إلاَّ إذا فعلتَ ماآمُرك به".
وبعد المقارنة بين المرحلة السرية والعلنيَّة، نعود إلى القصة، فنجد الجليس قد أتى إلى الملك، فجلَس إليه كما كان يجلس من قبلُ، فقال له الملك: "مَن ردَّ إليك بصَرَك؟ قال: ربي، قال: أوَلك ربٌّ غيري؟ قال: ربي وربُّك الله"، وهذا دليل على أنَّ الإيمان بالله وحْدَه يَصنع العجائب، وأنَّ العقيدة الصحيحة هي التي تجعل المؤمن يَقف أمام أعتى البشر بقلبٍ ثابت لا يَضطرب، ولا يخشى أحدًا إلاَّ الله - سبحانه وتعالى.
فها هو جليس الملك الذي يعلم يقينًا أنَّ هذا الملك الظالِم قد ادَّعى الربوبيَّة، وزعَم أنه إلهٌ من دون الله، وكان يقتل مَن لَم يُقرَّ له بذلك، وعلى الرغم من كلِّ ذلك يَجهر جليس الملك - بعد أنْ لامَس الإيمان شَغافَ قلبه - بكلمة التوحيد، ويُعلنها في وجْه الملك، ويقول: "ربي وربُّك الله".
وفظيع جدًّا أن يدَّعي الإنسان الربوبيَّة لنفسه، ولكن كيف يكون هذا الادِّعاء؟!
إنه من خلال دراسة هذه الظاهرة البشعة، نجد أن القرآن الكريم قد سجَّلها على فرعون، وعلى الملك النُّمرود الذي حاجَّ إبراهيم في ربِّه، وهذان يتفِقان مع هذا الملك في أمرين، هما: الكفر بالله - سبحانه وتعالى - والمُلك على الناس.
فبدأ الأمر بكفر الإنسان بالله - سبحانه وتعالى - ومنه الكفر بقضائه وقَدَره، ومنه ظنَّ الكافر أنه هو الذي يَصنع حياته ويُصرِّفها برغبته، وإن كان مُتسلطًا على الخَلْق، ظنَّ أنه يؤثر بذاته في معيشتهم، ويَصنع حياتهم، فهو يأمر فيُطاع، ويَحكم فيَستبد، ويتصرَّف بالهوى دون معارضة أو مُراقبة، وهو الذي يتصرَّف في مُقدرات الناس دون منازعٍ، وهو الذي يعلو في الأرض، ويستكبر على الأتباع؛ كما قال فرعون: ﴿ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الزخرف: 51]، وقال: ﴿ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾ [غافر: 29]، ثم قال: ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [القصص: 38].
ولكنَّ المؤمن لا يُبالي بمثْل هؤلاء الناس، فيُواجههم بقوَّة وبصراحة؛ كما فعَل الجليس مع الملك، فقال له: "ربي وربُّك الله"، فنجد في ردِّه نَفيًا لربوبيَّة الملك المُدعاة من خلال إثبات ربوبيَّة الله وحده على الملك؛ حيث إنه ليس هناك ربٌّ لربٍّ، وبذلك يكون الجليس قد سوَّى بين الملك والناس في عبوديَّتهم لله - سبحانه وتعالى - ولَم يكن الجليس ليستطيع هذه المواجهة، إلاَّ إذا خالطَت قلبَه بشاشةُ الإيمان؛ لأنه حينما يكون ذلك، تكون الثقة والطَّلاقة والقوَّة.
وهؤلاء هم سَحَرة فرعون، يسجدون لله - سبحانه وتعالى - بعد أن عَلِموا أن موسى - عليه السلام - رسول الله وليس ساحرًا، فيهُدِّدهم فرعون قائلاً: ﴿ قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ﴾ [طه: 71]، فيَردون عليه قائلين: ﴿ قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾ [طه: 72].
وهكذا أيضًا تعامَل الملك مع الجليس: "فأخَذه، فلم يزَلْ يُعذِّبه؛ حتى دلَّ على الغلام"، لَم يقتله فورًا؛ حتى يكشفَ بقيَّة الجماعة.
ومع أنَّ هذا الرجل كان جليسًا للملك، إلاَّ أنَّ الملوك ليس عندهم وفاءٌ لِمَن حولهم، فما أن تعارَضت وجهة الجليس مع وجهة الملك، فإذا به يأمُر بتعذيبه في التَّوِّ واللحظة.
وفي هذا دليلٌ على أنَّ المُكرَه إذا دلَّ على أحدٍ من المؤمنين، فلا إثم عليه؛ لأن النبى -صلى الله عليه وسلم- قال فيما رواه الطبراني: ((رُفِع عن أُمَّتي الخطأ والنِّسيان، وما استُكرهوا عليه))، والحديث صحَّحه الألباني بلفظٍ: "وُضِع"، وجليس الملك هنا لَمَّا دلَّ على الغلام، كان مُكرَهًا.
"فجيء بالغلام، فقال له الملك: "أي بُني، قد بلَغ من سحرك ما تبرئ الأكْمَه والأبرص، وتفعل ما تفعل".
الملك الطاغوت يقول: "أي بُني"، كلمة كلها مَكْر وخُبث وضَغْط على نفس الغلام، وإغراء له بالقُرب منه بما يتضمَّن هذا القرب من مستقبل زاهرٍ وحياة مُترَفة، ويقول الملك: "قد بلَغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص، وتفعل ما تفعل".
وقد حاوَل الملك بهذه العبارة أن يسرِقَ ما كسَبه الغلام من تقدير في نفوس الناس، بأن يعود بتفسير أعمال الغلام إلى السحر الذي تعلَّمه من ساحر الملك، الذي أتى الملك إليه بالغلام، وهذا ما يَصنعه الذين لا يريدون الاعتراف بالحقِّ، فيُفَسِّرونه بأي شيء غير الحقِّ، وهذا ما فعَله فرعون لَمَّا هزَمه موسى - عليه السلام - فقال: ﴿ قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ﴾ [طه: 71].
مع أنه يعلم كَذِب ادِّعائه، وإلاَّ فكيف يأتي بتلامذته - مع العلم بأن أي تلميذ يَستميت في نُصرة مُعلِّمه - في هذا الجمع المَهيب والموقف المصيري الرهيب؟! ولَمَّا ناقشَه موسى - عليه السلام - في قضاياه ومسلَّمات حياته بجرأة وحَزم: ﴿ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ﴾ [الشعراء: 27].
وهذا ما فعله أيضًا المشركون مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه - رضي الله عنهم - لَمَّا رأوه ينفي الألوهية عن أصنامهم بجرأة وقوة، قالوا: ﴿ مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ ﴾ [الدخان: 14]، ولَمَّا رأوه يواجِههم بالبلاغة القرآنية، قالوا: ﴿ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ﴾ [الطور: 30]، ولَمَّا رأوا الصحابة واثقين في دعوتهم، قالوا: ﴿ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ ﴾ [الأنفال: 49].
والملاحظة الدقيقة في تفسير أصحاب الباطل للحقِّ بغير الحق، هي شرط أن يكون هذا التفسير مَقبولاً عند الناس، ومن هنا كان تفسير المعجزة بالسِّحر، والجرأة بالجنون، والبلاغة بالشعر، والثقة بالغرور؛ ولذلك عقَدت قريش مؤتمرًا نراها فيه تحاوِل محاولة دقيقة للاتِّفاق على الوصف الذي سيصفون به الرسول -صلى الله عليه وسلم- والقرآن؛ بحيث تراعى فيه هذه الشروط.
قالوا: نقول: كاهن؟ فقال قائلهم: لا والله، ما هو بكاهنٍ، لقد رأينا الكُهَّان؛ فما هو بزمزمة الكاهن، ولا سَجْعه، قالوا: نقول: مجنون؟ قال: ما هو بمجنون؛ لقد رأينا الجنون وعرَفناه، فما هو بخَنْقه ولا تَخَالُجه، ولا وَسوسته، قالوا: فنقول: شاعر؟ قال: ما هو بشاعر، لقد عرَفنا الشعر كله، قالوا: فنقول: ساحر؟ قال: ما هو بساحر؛ لقد رأينا السحار وسِحرهم، فما هو بنَفْثهم ولا عَقْدهم، قالوا: ما نقول يا أبا عبدشمسٍ؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصْله لعَذْق، وإن فرْعَه لجناة، ما أنتم بقائلين من هذا شيئًا إلا وعُرِف أنه باطلٌ، وإن أقربَ القول فيه لأن تقولوا هو ساحر جاء بقول هو سحر، يفرِّق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته، فتفرّقوا عنه بذلك.
عَلِم الملك أنَّ الغلام وراء هذه الدعوة الجديدة على مملكته: دعوة التوحيد وإنكار ربوبيَّة الملك، فماذا يفعل الطاغية لاحتواء هذه الدعوة؟!
إنَّ بَطْشه بالغلام الذي أحبَّه الناس وعرَفوا إحسانه إليهم، وأنه هو الذي قتَل الدابَّة، وأنه يبرئ الأكمه والأبرص، ويُداويهم من سائر الأدواء، سوف يزيد من محبَّته ويَجعله بطلاً أو شهيدًا، ويُصبح موته وقودًا دافعًا لاستمرار دعوته، فلا بدَّ من محاولة الاستمالة أولاً، فهو يعرف جيدًا حقيقة دعوة الغلام، وأنها تَهدف إلى تحقيق العبودية لله وحْده، ونَبْذ عبوديَّة الملك.
ومع كل هذا يقول له: "أي بُني"، وهذا النداء بالبنوَّة هو أوَّل محاولات الاستمالة والتلطُّف، فهو يقول له: أنت ابني، وأنا الذي تولَّيت تربيتك، ثم يقول له: "قد بلَغ من سحرك ما تُبرئ الأكمه والأبرص، وتفعل وتفعل"، فهو يريد أن يقول له: لا مانِع عندي من استمرارك فيما تفعل، بشَرْط أن تقول للناس: إنَّ هذا سحر تعلَّمته في مدرسة الملك، وأنَّ ما تدعو إليه هو بتوجيهات الملك، وتحت إشرافه وبرعايته.
يقول له ذلك وهو على يقينٍ من أنه هو الذي قال لجليسه ولغيره: ربي وربُّك الله، وأنه - سبحانه وتعالى - الذي يَشفي الناس، فهذه المحاولة الخبيثة لطَمْس ضوء الدعوة ونورها، إذا قبل أصحابها أنْ يَلبسوا ثوب الباطل، ويَعملوا تحت رايته، ويَصبغوه بصبغة "الشرعيَّة" في عُرف الملك والمجتمع.
رفَض الغلام إذًا أن يُسمّي ما يفعله سحرًا، وأبى إلاَّ أن يُجابه الملك بأنَّ دعوته هي دعوة التوحيد الخالص بمقولته العظيمة: "إني لا أشفي أحدًا؛ إنما يشفي الله - سبحانه وتعالى".
وفَشِلت محاولة الاحتواء وإلْباس الحقِّ ملابسَ الجاهليَّة، فانكشَف الملك على حقيقته، ولَجأ إلى الأسلوب المعتاد: البَطْش والتنكيل، فمنذ لحظة كان الغلام "بُنَيَّه" الذي يتلطَّف معه، فإذا هو الآن يقع تحت أنواع التعذيب؛ ليعترفَ على إخوانه، وقد يسأل سائل ويقول: ألَم يقل الراهب للغلام: "فإن ابتُليت، فلا تدلَّ علىّ"؟! أقول: عند المِحن تَنفسخ العزائم، فلا يستطيع إنسان مهما كانت قوَّته أن يقول: سأفعل كذا وكذا إذا جاء البلاء والمِحن والفِتن؛ لأن الذي يُثَبِّتُ الإنسانَ في هذه الفتن هو الله - سبحانه وتعالى - فماذا كانت نتيجة فَشَلِ الملك في استمالة الغلام؟! كانت النتيجة كما جاء في الحديث: "فأخَذه، فلم يزَلْ يعذِّبه؛ حتى دلَّ على الراهب"، وهذه في الحقيقة ليستْ خيانة ولا عمالة، ولكنَّها الطاقة البشريَّة المحدودة.
هذه حقيقة يجب الاعتراف بها، وأي إنسان يقفُ موقف الغلام عندما دلَّ على الراهب، يتألَّم ألمًا أكبرَ من ألَم التعذيب، ثم يتضاءَل أمام نفسه، ينطوي عليها، يحتقرها، يكرهها، ثم يَظل يرقُب من بعيد نظرة فيها الرحمة، وطلاقة وَجْه فيها الإعذار، ويدًا فيها العون، ويكون هذا واجبَ الجماعة في ذلك الموقف.
ولكنَّ حدوث هذه النتيجة التي انتهى إليها الغلام، لا يكون إلاَّ بعد بلوغ حدِّ الاستطاعة في الصبر والتحمُّل والثبات، وهذا هو الحدُّ الفاصل بين أن يكون المتكلِّم في مِحنة التعذيب معذورًا أو مقصِّرًا، وبلوغ حد الاستطاعة في الصبر والتحمُّل والثبات، لا يكون إلا بمعرفة إمكانيَّة المواجهة الصحيحة لمحنة التعذيب، وأهم عناصر هذه الإمكانيَّة هي دخول المِحنة بالعَزْم المُسبَق على مقاومة الانهيار؛ حيث إنَّ دخول مرحلة التعذيب تجعل الفرد في حالة شبه لا إراديَّة، والعزم المُسبق هو الذي يحقِّق المقاومة - بإذن الله سبحانه وتعالى - وهذه الحالة أقربُ ما تكون شَبهًا بحالة النوم، فإذا أراد إنسان أن ينامَ وهو عازم على فِعْل شيءٍ، فإنَّ هذا العزم يكون مؤثرًا في حالة نَوْمه، فيَجعله نومَه منشغلاً بالموضوع الذي عقَد العزمَ عليه، وكذلك الأمر في التعذيب؛ حيث يُنْشِئ العزمُ المُسبق نوعًا من الإرادة ومقاومة الانهيار، ومع العزم المُسبق على مقاومة الانهيار، فقد تُراود الإنسانَ نفسُه بأن يَستسلم، وحدوث هذه المراودة لا يَعني فُقدان هذا الإنسان ثقته في نفسه، بل عليه أن يؤجِّل قراره الداخلي بالكلام أطول فترة مُمكنة، وحتى إذا وصَل الفرد الممتَحَن إلى مرحلة الانهيار، فيجب ألاَّ يتوقَّف عن مقاومة الوصول إلى مرحلة الانهيار النهائي، والمقاومة الدائمة هي أكبر إمكانيَّات المواجهة، وأهم العوامل المساعدة على المقاومة هي المتابعة الذهنيَّة عند الفرد لمراحل التعذيب، والغرض المحدَّد لكلِّ مرحلة، فمثلاً مرحلة بَدء تعذيب الفرد برؤيته لتعذيب الآخرين - كما فعَل الملك مع الغلام - يكون الغرض منها تحطيم العَزم المُسبق بعدم الكلام، وجَعْل الفرد يدخل مِحنة التعذيب بلا عزمٍ على الصبر والتحمُّل والثبات، وذلك من خلال استغلال الخوف الذي يَسبق الدخول في التعذيب، وهذا الخوف أشدُّ من آثار التعذيب ذاته، وإدراك مثل هذه الأغراض هو الذي يُمَكِّن الفرد من تفادي الأثر المطلوب منها.
كما أنَّ وصول الفرد الممتحَن إلى مرحلة الانهيار، لا يعني هَدْم كلِّ خطوط الدفاع النفسيَّة؛ حيث إنَّ هناك خطًّا قويًّا يجب الانتباه إليه، وهو خَطُّ العلاقة النفسيَّة بين الفرد الواقع تحت التعذيب والأفراد الذين سينالهم الأذى بانهياره؛ فكلما كان الحبُّ قويًّا وشديدًا، كانت إرادة الصبر والتحمُّل قوية وشديدة أيضًا، وأساليب التعذيب لا تتجاوز في مجموعها غرضَ سَلْب الإرادة.
ولعلَّ أخطر هذه الأساليب المحقِّقة لهذا الغرض هو الإهانة النفسيَّة؛ لإفقاد الفرد كرامته؛ لأنَّ العلاقة بين الكرامة والإرادة علاقة مُطردة، بدليل أن حدَّ الزاني للعبد نصف حَدِّ الحُر؛ لأنه لا يَملِك من الإرادة إلا بقَدْر ما يَملك من الكرامة، فإذا قَوِيت كرامة الفرد وعزيمته، قَوِيَت إرادته.
ومن هنا، فإنَّ الشعور بالاستعلاء والعِزَّة من أهم موانع فَقْد الإرادة والانهيار، فلا يؤثر السبُّ والبصق والرَّكل بالقدم على الاستعلاء والعِزة، بل واليقين بأنَّك تَمتلئ عِزَّة واستعلاءً بالقدر الذي يَمتلئ فيه مَن يُعذبك حقارة ومهانة.
والفزع والترويع هما أخطر آثار التعذيب، ولا يُبطل هذا الخطرَ إلا الطمأنينةُ والسكينة، ولا يُحقِّق الطمأنينةَ والسكينة إلا الذِّكرُ: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28]، وعلى أن يكون الذِّكر هو الواجب الأوَّل والدائم على مَن يقع في مِحنة التعذيب، كما أنَّ الصِّيغ المُتعددة للذِّكر تعالج بصورة مباشرة الآثار المتعدِّدة التعذيب.
فدعاء الدخول على ذَوِي السلطان الظالمين يكون عند لحظة المواجهة الأولى، والاستغفار يرفع الذنوب التي قد تكون سببًا في وقوع المِحنة، وعندما تُرفَع الذنوب تذهب أسباب المحنة وتتحقَّق العافية، ومع الاستغفار يكون دعاء تفريج الكَرب.
وكذلك التكبير الذي يُحقِّق الشعور بإكبار الله - سبحانه وتعالى - فيَهون التعذيب والقائمون عليه، وكذلك يهون التعذيب والقائمون عليه برضا الله - سبحانه وتعالى.
وهذا المعنى مأخوذ من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- في الطائف، وفي نهايته: "إن لَم يكن بك غضبٌ عليّ، فلا أُبالي، ولكنَّ عافيتك أوسعُ لي"؛ والحديث رواه الطبراني في الكبير؛ كما في مَجمع الزوائد، وقال الهيثمي: "رواه الطبراني، وفيه ابن إسحاق وهو مُدلِّس ثِقة"، وقال الألباني في فقه السيرة: أخرَج هذه القصة ابن إسحاق بسند صحيحٍ عن محمد بن كعب القُرظي مُرسَلاً، ولَم أجده في الطبراني الكبير مسندًا لعبدالله بن جعفر.
قلت: ذهب الدكتور العمري إلى تضعيف الحديث في كتابه السيرة النبوية الصحيحة (1/ 186)، وذهَب إبراهيم العلي إلى صحَّته، وبيَّن أنَّ للحديث شاهدًا يقوِّيه؛ ولذلك اعتبره صحيحًا، وذكَره في كتابه صحيح السيرة النبوية ص136، وذهَب الدكتور عبدالرحمن عبدالحميد البَر - مدرس الحديث وعلومه في جامعة الأزهر - أنَّ الحديث بطريقَيْه قويٌّ مقبول، وخرَّج طُرقه في كتابه الهجرة النبوية المباركة ص 38.
ولعلَّ مِن صِيَغ الأذكار المناسبة لمِحنة التعذيب هي الاستعاذة الواردة في قول النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الترمذى: ((أعوذ بك أن أقترفَ على نفسي سوءًا، أو أجرَّه إلى مسلم))؛ لأن الانهيار هو الذي يجرُّ السوء على النفس وعلى المسلمين.
وفي النهاية، فإنَّ ما يذهب بمحنة التعذيب وكأنها لا تكون هو تذكُّر عذاب الله - سبحانه وتعالى - وعدم المقارنة بين فتنة الناس وعذاب الله؛ كما في قوله - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ ﴾ [العنكبوت: 10]؛ حيث لا وجْه للمقارنة؛ فعذاب الله - سبحانه وتعالى - يلازمه سخطُ الله والمهانة الحقيقيَّة، كما أنه يتضاعَف ولا ينفع معه الصبر، وليس له نهاية، وليستْ منه نَجاة، وفتنة الناس والإيذاء في الله يحقِّق رضا الله والعزة لمن يُؤذَى في سبيل الله، كما أنَّ فتنة الناس تَضْعُف، وينفع معها الصبر، ولها نهاية، ومنها النجاة - بإذن الله سبحانه وتعالى.
وبعد معالجة مشكلة التعذيب، تتقرَّر حقيقة في غاية الأهميَّة، وهي: أن التوكُّل على الله - سبحانه وتعالى - هو الشعور الذي يدخل به المسلم تلك المِحنة، وأنًّ التسليم بقَدر الله - سبحانه وتعالى - هو الشعور الذي يتقبَّل به المسلم نتيجة تلك المحنة؛ حيث إنَّ محنة التعذيب مع ما ذُكِر من عناصر لمعالجتها، هي في النهاية بيد الله - سبحانه وتعالى - وحْده.
ولعلَّنا نفهم من هذا الموقف أنَّ ما بين التوكُّل الذي ندخل به المحنة والرضا بالقَدر الذي نَخرج به منها، تكون ضرورة التفكير العملي للمحافظة على واقع الدعوة في المرحلة السريَّة، وعدم الارتكاز في ذلك بصفة كليَّة على إيمان الأتباع، فقد كان من الممكن أن يُغَيِّر الراهبُ مكانَه؛ حتى إذا ضَعُف الغلام وأراد أن يدلَّ عليه، لا يَجده، ولكن قدر الله وما شاء فعَل.
"جيء بالراهب، فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فدُعي بمنشار، فوُضع المنشار في مَفْرِق رأسه، فشقَّه؛ حتى وقع شِقاه".
هنا وصَل الملك إلى النَّبع الذي استقى منه الغلام وجليس الملك الإيمانَ والتوحيد، فأراد الملك أن يُجفِّف هذا النبع، وذلك بأن يتخلَّص منه ويقتله؛ ولذلك لَم يتكلَّم معه بنفس اللطف الذي قابَل به الغلام في البداية، بل قال له بكلِّ صراحة ووضوح: "ارجعْ عن دينك".
"فأبى"، والفاء تدلُّ على سرعة الردِّ؛ أي: إنه لَم يُفكِّر لحظة واحدة، هل يرجع عن دينه؛ لينجوَ من بَطْش الملك، أو يبقى ثابتًا على عقيدته؟ بل إنه أبى أن يرجِع عن دينه، ولَم يُفكِّر لحظة واحدة في البلاء الذي سيتعرَّض له ما دام ذلك في سبيل الله - سبحانه وتعالى.
وكان الذي شجَّع الملكَ على قتْل الراهب أنه لَم يكن مشهورًا ومعروفًا بين الناس؛ ولذلك لن يعترِض أحدٌ لقتْله.
وقتَله الملك أبشعَ قِتْلة؛ وذلك بأن أمَر أن يُنشَر بالمنشار نصفين، وكما أتخيَّل أن هذا الشقَّ لَم يكن مرة واحدة؛ وذلك حتى لا يستريح المعذَّب، وإنما يذهبون بالمنشار مرة، ثم يعرضون عليه الأمر، فيأبى، فيعودون بالمنشار مرة أخرى، ويَعرضون عليه الأمر، فيأبى، وهكذا حتى يُنتهى إلى شَقِّه نصفين، وكل ذلك أمام بقيَّة الأتباع، والغرض - بالطبع - معلوم، وهو أن تَنفسخ عزائم الجميع.
لكن سبحان الله العظيم، على الرغم من كل ذلك صبَر الراهب على هذه القتلة البشعة؛ لأنه يعلم يقينًا أنَّ موت الجسد أفضلُ بكثيرٍ من موت الإيمان والتوحيد في قلب العبد؛ لأن صاحب التوحيد لو قُتِلَ عشر مرات فإنه سيحيا في جنات النعيم، وسيَجبر الله - سبحانه وتعالى - كسْرَه في تلك الجنة التي فيها ما لا عين رأتْ، ولا أُذن سَمِعت، ولا خطَر على قلب بشر، بل إنه سيَنسى كلَّ شقاءٍ مع أول غمسة في جنة الرحمن!
روى الإمام مسلم وأحمد والنسائي عن أنس - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((يُؤتَى بأنْعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيُصبغ في جهنم صبغةً؛ ثم يقال: يا بن آدمَ، هل رأيت خيرًا قط؟ هل مرَّ بك نعيمٌ قطُّ؟ فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشدِّ الناس بؤسًا في الدنيا من أهل الجنة، فيُصبغ في الجنة صبغة؛ فيقال له: يا بن آدم، هل رأيت بؤسًا قط؟ هل مرَّ بك شِدَّة قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ما مرَّ بى بؤسٌ قط، ولا رأيت شِدَّة قط)).
فإن قيل: ألَم يكن يسع الراهبَ وهو يُكرَه على الكفر بمثْل هذه القتلة البشعة الفظيعة، أن يأخُذ بالرُّخصة، ويوافق ظاهرًا على الرجوع عن دينه مع طمأنينة القلب بالإيمان؟!
والجواب من وجهين:
الأول: أنَّ الأخذ بالعزيمة أفضل باتفاق العلماء.
الثاني: أنَّ الإكراه عذرٌ يَخص أهل الإسلام، وأما الأُمم السابقة، فلم يكن الإكراه عذرًا لهم في إظهار الموافقة على الكفر، كما قاله بعض أهل العلم؛ احتجاجًا بمفهوم الحديث المشهور: ((رُفِع عن أُمَّتي الخطأ والنسيان، وما استُكْرِهوا عليه))، فهو يدلُّ على أن غير أُمَّته لَم يوضع عنها ذلك، والأول أظهر؛ فإن موسى - عليه السلام - قال للخَضِر: ﴿ قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ﴾ [الكهف: 73]، فلم يؤاخذه، والله - سبحانه وتعالى - أوْلَى بعدم المؤاخذة، والله أعلى وأعلم.
ثم إني أرى شيئًا آخرَ، وهو أنه لا يجوز الأخْذ بالرخصة إذا كان الإنسان رأسًا يُقتدى به؛ لأن أخْذه بالرخصة يعني فتنة بقية الأتباع؛ ولهذا كان العلماء الذين يحملون راية الدعوة، يتحمَّلون أقسى درجات التعذيب، ولا يأخذون بهذه الرخصة، وأذكر من ذلك ثلاثة أمثلة فقط من قرون مختلفة:
1- الإمام أحمد - رحمه الله -: فقصة ما لَقِيه من الأذى والتعذيب في سبيل عقيدته، لا تخفى على أحد، تُخلع يداه، ويُجلَد بالسِّياط الكثيرة، يختار الظالمون له عددًا من قُساة القلوب وغِلاظ الأفئدة؛ ليَجلده كلُّ واحد منهم سوطين بكلِّ ما أُوتي من قوَّة، يتعاقبون عليه - رحمه الله - وهو ثابت كالطَّود الأشمِّ، ولا يتراجَع أبدًا، يُغمى عليه من شدَّة التعذيب، ثم يفيق، فيَعرضون عليه الأمر، فلا يتراجع، حتى يَنصره الله - سبحانه وتعالى - في النهاية، ويَنصر عقيدته التي كان يدافع عنها، وكان هذا الانتصار دليلاً على الإخلاص والعزم والقوة.
لقد خرَج الإمام من المحنة خروج السيف من الجلاء، والبدر من الظلماء، أُدخِل الكير، فخرَج ذهبًا أحمرَ، وتواطَأت القلوب على مَحبَّته، حتى صار حبُّه شعارًا لأهل السُّنة!
فأين الذين عارَضوه؟! وأين الذين عذَّبوه؟! وأين الذين نالوا منه؟! ذهبوا إلى ما قدَّموا، وبَقي حيًّا بذِكره، والذكر للإنسان عمرٌ ثانٍ، والبغي مهما طال عُدوانه، فالله من عدوانه أكبر!
2- الإمام أبو بكر محمد بن سهل، المعروف بابن النابلسي: قال عنه أبو ذرٍّ الحافظ: سجَنه بنو عُبيد - وهم المسمَّون كذبًا وتضليلاً بالفاطميين - على السُّنَّة، سَمِعت الدارقطني يذكره ويبكي، ويقول: كان يقول وهو يُسْلَخ: ﴿ وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ﴾ [الإسراء: 58].
وفي السِّيَر: "قال أبو الفرج بن الفرج: أقام جوهر القائد لأبي تميم صاحب مصر أبا بكر النابلسي، فقال له: بلغني أنك قلت: إذا كان مع الرجل عشرة أسْهُم، وجَب أن يرمي في الروم سهمًا وفينا تسعة، قال: ما قلت هذا، بل قلتُ: إذا كان مع الرجل عشرة أسهْم وجَب أن يرميَكم بتسعة، وأن يرمي العاشر فيكم أيضًا؛ فإنكم غيَّرتم المِلة، وقتلتُم الصالحين، وادَّعيتم نورَ الألوهيَّة، فشهَره ثم ضرَبه، ثم أمر يهوديًّا فسلَخه!
قال مَعْمَرُ بن أحمد بن زياد الصوفي: أخبرني الثقة أنَّ أبا بكر سُلِخ من مَفرِق رأسه، حتى بلَغ الوجه، وكان يذكر الله ويَصبر حتى بلَغ الصدر، فرحمه السَّلاخ، فوكَزه بالسكين موضعَ قلبه، فقضى عليه، وأخبرني الثقة أنه كان إمامًا في الحديث والفقه، صائم الدَّهر، كبير الصولة عند العامة والخاصة، ولَمَّا سُلِخ كان يُسمَع من جسده قراءة القرآن".
نعم: لَمَّا أطعَم القرآنَ لحمَه، وأسْقاه دمَه، لَمَّا اختلَط القرآن بلحْمه ودمه، فجرى في عروقه، ونبَض به حِسُّه، وظلَّ عُمره إلى لحظة سَلْخه يُدافع عنه وعمَّا يدعو إليه، نطَق جسده الطاهر بالقرآن؛ كرامةً ظاهرة له من الله الكريم الرحمن، وتثبيتًا لكلِّ مَن حوله على الحقِّ والإيمان.
3- شيخ من المجاهدين في سبيل العقيدة والإيمان؛ شُهرته تُغني عن ذِكره - رحمه الله - يصدعُ بكلمة الحقِّ، فيَشرَق بها المنافقون والظالمون، ويُذيقونه في سبيلها ألوانًا شتَّى من التعذيب في السجن، لا تُضاهيها إلا ألوان التعذيب في محاكم التفتيش في القرون الوسطى.
كانوا يسلطون عليه الكلاب بعد تجويعها، فتُطارده الساعات، ثم تَنقضُّ على لَحْمه تَنهشه نهشًا إذا عجَز عن الجري، كلُّ ذلك وهو صابر مُعتصم بالله - سبحانه وتعالى - لَم يردَّه ذلك عن هدفه، ولَم يصدَّه عن بُغيته وغايته، فأغاظَهم ذلك فماذا يفعلون؟! حَكموا عليه بالقتل، وتلك - والله - فتنة أيَّما فتنة، ثم جاءه الإغراء: أن اسْتَرْحِم ذلك الظالم؛ ليُخفف عنك الحُكم! فقال في إباء واستعلاء: لئن كنتُ حُوكِمت بحقٍّ، فأنا أرتضي الحق، وإن كنتُ حُوكِمت بباطلٍ، فأنا أعلى من أن أسترحِمَ الباطل، إن يدي التي تَشهد لله بالوحدانيَّة كلَّ يوم مرات، لتأبى أن تقرَّ حُكم ظالم أيًّا كان ذلك الظالم!
ثم يُقاد إلى حَتْفه ولسان حاله:
اللهُ أَسْعَدَنِي بِظِلِّ عَقِيدَتِي ♦♦♦ أَفَيَسْتَطِيعُ الْخَلْقُ أَنْ يُشْقُونِي؟!
ويأتي أحد علماء السوء - الذين باعوا دينَهم بعرَضٍ من الدنيا - ليُلقِّنه كلمة التوحيد التي يُقاد إلى الموت من أجْلها، فيقول له: قل: لا إله إلا الله، فيَتبسم تبسُّم المُغْضَب، ويقول: يا مسكين؛ أنا أُقاد إلى الموت من أجْل لا إله إلا الله، وترجع أنت لتأكُل فتات الموائد بلا إله إلا الله! لا نامَت أعيُن الجُبناء.
وهكذا على مدار التاريخ الإسلامي كله تجد أنَّ رؤوس العلماء لا يأخذون بهذه الرُّخصة؛ لأنَّ أخْذَهم بها يعني ضياع أتْباعهم، وخذلان الحقِّ بسببهم، وإن الحق لا بدَّ أن يَنصره الله ولو بعد حين، والله المستعان.
"ثم جيء بجليس الملك، فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فوُضِع المنشار في مَفرِق رأسه، فشقَّه حتى وقَع شِقاه".
إنَّ قضية الإيمان من أعظم القضايا التي يَعجِز عنها أيُّ منهج علمي أو تربوي، فمنهج الإسلام، ونور الوحي، وقوَّة العقيدة، هي التي تَصنع الرجال والأبطال، وكل ذلك بتقدير الكبير المتعال - سبحانه وتعالى.
فهذا جليس الملك الذي عاش حياته كلها غارقًا في الكفر، منغمسًا في الشهوات والملذَّات، وعلى الرغم من ذلك ما أن لامَس الإيمان شَغاف قلبه، حتى أصبَح إنسانًا آخر؛ يضحي بدُنياه وبشهواته وبكلِّ شيء من أجْل عقيدته وإيمانه، ويَصبر على القتل من أجْل أن يَلْقى الله - سبحانه وتعالى - على نعمة التوحيد.
وهذا يذكِّرنا بسحرة فرعون الذين لَم يكن لهم أيُّ مطمعٍ سوى بعض الدراهم، وما أنْ لامَس الإيمان شَغاف قلوبهم، حتى قاموا وقالوا لفرعون: ﴿ قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾ [طه: 72].
ورأينا الكثير من أصحاب النبى -صلى الله عليه وسلم- الذين ضحَّوا بالغالي والنفيس من أجْل إيمانهم وعقيدتهم، فهذا مصعب بن عمير - رضي الله عنه - الذي ضحَّى بكلِّ شيء من أجْل إيمانه وتوحيده.
فقد كان مصعب - رضي الله عنه - من أنْعَم الناس عيشًا قبل إسلامه، فلمَّا أسلمَ زَهِد في الدنيا وترَك زينتها، وتفرَّغ للعبادة وطلبِ العلم، ولقد منعتْه أمه من ثروتها، وأبتْ أن ينالَ منها درهمًا واحدًا بعدما ترَك عبادة الأصنام، وسجَد لله الواحد الدَّيان.
يقول عليّ - رضي الله عنه - فيما رواه عنه الترمذي: جِئت المسجد، فطلَع علينا مصعب بن عمير في بُردة له مرقوعة بفَرْوٍ، وكان أنعمَ غلام بمكة وأرْفَهه، فلمَّا رآه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذكَر ما كان فيه من النعيم، ورأى حاله التي هو عليها، فذرَفت عيناه عليه، ثم قال: ((كيف بكم إذا غَدَا أحدُكم في حُلَّةٍ ورَاحَ في حُلَّةٍ، ووُضِعَتْ بين يدَيْه صَحْفَةٌ، ورُفِعَتْ أخرى، وستَرتُم بيوتَكم كما تُستَر الكعبةُ؟))، فقلنا: نحن يومئذٍ خير، نُكفَى المؤنة، ونتفرَّغ للعبادة، فقال: ((بل أنتم اليوم خير منكم يومئذٍ)).
وخرَج مصعب من النعمة الوارفة التي كان يعيش فيها، مؤثِرًا الشظَفَ والفاقة - الفقر - وأصبَح الفتى المتأنِّق المعطَّر، لا يُرى إلا مرتديًا أخشنَ الثياب، يأكل يومًا ويجوع أيامًا، ولكن رُوحه المتأنِّقة بسمو العقيدة، والمتأنقة بنور الله - سبحانه وتعالى - كانت قد جعَلت منه إنسانًا آخر يملأ الأعين جلالاً، والأنفس رَوعةً.
قال خبَّاب بن الأرت - رضي الله عنه - فيما رواه عنه البخاري: هاجَرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نُريد وَجْه الله، فوقَع أجْرنا على الله، فمنَّا مَن مضى لَم يأخُذ من أجْره شيئًا، منهم مصعب بن عمير، قُتل يوم أُحد وترَك نَمِرَة، فكنَّا إذا غطَّيْنا بها رأسه بدَتْ رِجلاه، وإذا غطَّيْنا رِجليه بدا رأْسُه، ونجعَل على رجليه شيئًا من إِذْخر، ومنَّا مَن أيْنَعت له ثمرته، فهو يَهدِبُها.
وظل أصحاب الحبيب -صلى الله عليه وسلم- يذكرون مصعبًا في كلِّ وقت، ولَم يَغِب وجْهه عنهم لحظة؛ روى الإمام البخاري عن عبدالرحمن بن عوف - رضي الله عنه - أنه أُتِي بطعام وكان صائمًا، فقال: قُتِل مصعب بن عمير، وهو خير مني، كُفِّن في بُردة إن غُطِّي رأسه، بدَت رجلاه، وإنْ غُطِّي رِجلاه، بدَت رأسه، وأراه قال: وقُتِل حمزة، وهو خير مني، ثم بُسِط لنا من الدنيا ما بُسِط، أو قال: أُعطينا من الدنيا ما أُعطينا، وقد خشينا أن تكون حسناتنا عُجِّلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترَك الطعام.
وهذا الذي حدَث من الملك مع الراهب والجليس، هو الذي أخبَر به الرسول -صلى الله عليه وسلم- عندما شكَوا إليه الاستضعاف؛ فقد روى البخاري وأبو داود والنسائي وغيرهم عن خبَّاب بن الأرت - رضي الله عنه - قال: شكَونا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو متوسِّد بُردة في ظلِّ الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: ((قد كان مَن قبلكم يؤخذ الرجل، فيُحفر له في الأرض، فيُجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار، فيُوضع على رأسه، فيُجعل نصفين، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعَظْمه، ما يُبعده ذلك عن دينه، والله ليُتِمَّنَّ الله هذا الأمر؛ حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، فلا يخاف إلا الله والذئبَ على غنمه، ولكنَّكم تستعجلون)).
وفي ذِكر الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذا الحديث للصحابة دليلٌ على أنه أشد ما يتعرَّض له الدعاة إلى الله - سبحانه وتعالى - من عذاب، وهكذا يتعامل الظَّلمة مع دعاة الحق؛ فلا فرصة للمناقشة، ولا سبيل إلى الإقناع، ولئن كان الملك ظالمًا وسبيل بقائه في الحكم هو السحر، إذًا فلا قضيَّة عنده ولا مَبدأ؛ ولهذا لَم يجد وسيلة في مواجهة الموقف إلا التعذيب والتقتيل.
ونلاحظ أنَّ الملك كان حريصًا على أن يرتدَّ الراهب والجليس قبل أن يَقتلهما؛ لأن ارتدادَهما قتْلٌ للدعوة، وقتلهما حياة لها؛ ولهذا لَم يقتلهما إلا بعد أن عرَض عليهما الارتداد، ويَئِس من الاستجابة.
"ثم جيء بالغلام، فقيل له: ارجِع عن دينك، فأبى، فدفَعه إلى نفرٍ من أصحابه، فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا، فاصْعَدوا به الجبل، فإذا بلغتُم ذِروته، فإن رجَع عن دينه، وإلاَّ فاطْرَحوه، فذهبوا به إلى الجبل، فقال: اللهم اكْفِنيهم بما شئتَ، فرجَف بهم الجبل، فسقطوا".
لقد كان الملك حتى هذه اللحظة لا يريد أن يقتلَ الغلام؛ لأنه ما زال عنده بريقُ أملٍ في أن يستخدمَه في السحر، ويستفيدَ من مواهبه وإمكانياته.
والملاحظة الواضحة هنا هي حِرص الملك الشديد على ارتداد الغلام؛ حتى لا يُسبِّب قتلُه حرَجًا للملك، وبَلْبَلة في عقول الناس؛ لأن الغلام كان معروفًا لهؤلاء الناس بأعماله الطيِّبة، وبحبِّه للخير، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى، فإن الملك أرادَ أن تَخسر الدعوة هذا الداعية، ويتحدَّث الناس أنَّ الغلام لَم يكن على شيء؛ لأنه ارتدَّ عن دعوته.
ومن ناحية ثالثة، فإن الملك - كما ذكرت - كان طامعًا في أن يستفيدَ من هذا الغلام في تثبيت موقفه، بجَعْله ساحرًا له، وداعيًا إلى مُلكه، طالما أن عنده هذه القدرة العجيبة على أن يَشفي الناس من أدوائهم.
والذي يؤكدِّ لنا حِرص الملك على ارتداد الغلام هو الأسلوب الذي تعامَل به معه، فقد أخَّره عن الراهب والجليس؛ حتى يشهدَ مَصرعهما، فيتأثَّر ويَضْعُف.
وكذلك فإن الملك اختارَ وسيلة غير الوسيلة التي قتَل بها الراهب والجليس، وسيلة فيها فرصة للتردُّد والتفكير أثناء المسافة بين القصر والجبل، ثم صعود الجبل، والذي يؤكِّد لنا أنَّ الملك كان يفعل ذلك بقصْد رِدَّة الغلام؛ حيث إنه طلَب من أصحابه أن يَعرضوا عليه الارتدادَ في ذِروة الجبل، وقبل أن يَقذفوه.
وابتداءً من تعذيب الجليس، ثم تعذيب الغلام، ثم قتْل الراهب والجليس قبل الغلام، ثم قول الملك للغلام: "أي بني"، ثم تحديد كيفيَّة معيَّنة لقتْل الغلام، تجدها كلها تصرُّفات محسوبة ومدروسة متى يكون التعذيب؟ ومتى يكون اللين؟ ثم متى يكون القتل؟ وكيف؟ ولهذه التصرُّفات دائمًا هدف واحد محدَّد، هو: التخلص من الدعوة؛ إما بارتداد الدعاة، أو قَتْلهم.
بَيْدَ أنَّ أهم ملاحظة في تجربة القتل والتعذيب واللين، هي التعبير عن طلب الرجوع عن الدِّين أو المساومة فيه بصيغة المبني للمجهول: "فقِيل: ارجع عن دينك"؛ كذا قيل للراهب والجليس الغلام، وأمَّا القتل فعلاً، فجاء بصيغة الفعل المبني للمعلوم، وهو الملك: "فوَضَع المنشار في مَفرِق رأسه، فشقَّه حتى وقَع شِقاه"، والسبب في ذلك هو أنَّ المساومة مع أصحاب الدعوة لا تتناسب مع الإرادة السياسية العليا، ولكنَّ الجاهلية عندما ترغَب في المساومة، فإنها توكل بها مجهولاً يساوم خُفْيَة؛ لكي لا يؤثر على مهابة الدولة، أمَّا القتل والتعذيب، فهو الأمر الذي يتَّفق مع تلك المهابة، بل يَزيدها.
طلب الملك من زَبانيته أن يذهبوا بالغلام إلى أعلى الجبل، ويَعرضوا عليه أن يرجِع عن دينه أو يُلقوه من قمة الجبل، ومن المعلوم أنهم سيسيرون مسافات طويلة؛ وذلك لكي يفكِّر الغلام مرة بعد مرة.
ولكن الإيمان في قلب الغلام كان ثابتًا ثباتَ الجبال الراسيات، فلم يَضْعُف قلبه، ولَم تَرتعِد فرائصه لحظة واحدة، بل كان يتمنَّى الشهادة في سبيل الله - سبحانه وتعالى - من أجْل أن تحيا الأمة كلُّها على التوحيد والإيمان.
ولَمَّا صَعِدوا به فوق الجبل، ما كان من الغلام إلاَّ أنْ لَجَأ إلى الله - سبحانه وتعالى - وتوكَّل على الحي الذي لا يموت، فقال بقلبه ولسانه داعيًا ربَّه فوق الجبل: "اللهم اكْفِنيهم بما شئتَ"، ولَم يَختر الطريقة التي يُنجيه الله - سبحانه وتعالى - بها من كَيْد هؤلاء، بل ترَك الأمر لمالك الملك ومَلك الملوك - جل جلاله - ليدبَّر له الأمر، ويُنقذه بالطريقة التي يراها هو - سبحانه وتعالى.
"اللهم اكْفِنيهم بما شئتَ"، بأي كيفيَّة يرضاها الله، وبأي سببٍ يختاره - سبحانه وتعالى - فليس التوكُّل على الله عند المؤمن محدودًا بخبرة الواقع ودراسة الظروف؛ لأنه لو كان الأمر كذلك، لمَا استطاع الغلام أن يدعو بهذا الدعاء؛ لأن الواقع لَم يكن يحتمل أيَّ تفكيرٍ، ولكنَّه التوكُّل بكامل حقيقته وجوهر معناه، انطلاقٌ إيمانيّ، لا يتقيَّد بضيق الواقع، وارتفاع وجداني، لا يَهبط بشدَّة الظروف، وعندما يتحقَّق التوكُّل، تتحقَّق الاستجابة - بإذن الله -: "فاهتزَّ الجبل، فسقطوا" هم - وهم الرجال الأشداء الأقوياء - وبَقي الغلام الصغير، الضعيف في جسده، القوي في إيمانه، وعاد الغلام سالمًا بأمر الله - سبحانه وتعالى - وجاء يمشي إلى الملك، وقد يسأل سائل: ما الذي جعل الغلام يعود إلى الملك مرة أخرى، ولَم يَهرب، مع أنه على يقين من أنَّ الملك يريد أن يقتلَه؟!
والجواب: أنَّ الغلام لا يريد النجاة لنفسه، بل يريد الحياة لأُمَّته، فهو يريد أن تَنتصر العقيدة مهما كان الثمن؛ ولذلك رجع ليعلِّم الكون كله أنه لن يكون إلا ما قَدَّره الله - سبحانه وتعالى - قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أحمد والترمذي والحاكم، وصحَّحه الألباني: ((واعْلَم أنَّ الأمة لو اجْتَمَعت على أن ينفعوك بشيء، لَم ينفعوك إلا بشيء قد كتبَه الله لك، ولو اجْتمَعوا على أن يضرُّوك بشيء، لَم يضرُّوك إلا بشيء قد كتَبه الله عليك، رُفِعت الأقلام وجَفَّت الصُّحف)).
فكان الغلام يريد أن يرجِع إلى الملك؛ لأنه حريص على هداية الأمة، وهذا هو شأن الدعاة المخلصين الذين يتحمَّلون كلَّ أنواع الأذى والبلاء؛ من أجْل أن تَحيا الأُمة في ظلال التوحيد والإيمان.
فإذًا، سبب عودته إلى الملك هو سببُ طلبه للنجاة من أصحاب الملك فوق الجبل؛ وهو أنَّ الدعوة لَم تتمَّ، وليست الحياة هدفًا يحرص عليه الدعاة، إلاَّ من خلال كونها ضرورة من ضرورات الدعوة؛ سواء أكان تحقيق هذه الضرورة يتطلَّب الحِرص على الحياة، أم الحرص على الموت.
والذين يفسِّرون مصلحة الدعوة بالحِرص على حياة الدعاة فحسب، هم أصحاب التصوُّر الناقص الذي لا يَعدو أن يكون فلسفة للجُبن أو للارتداد عن سبيل الله، والذين يَندفعون إلى الموت برغبتهم النفسيَّة دون اعتبار لمصلحة الدعوة إنما يُبدِّدون بذلك الاندفاع والتهورِ طاقةَ الدعوة وإمكانيَّاتها.
وكما أن مصلحة الدعوة هي الحدُّ الفاصل بين الجبن والشجاعة، فهي أيضًا الحدُّ الفاصل بين الشجاعة والتهور، فالجبن هو عدم الاستعداد للتضحية، والتهور هو التضحية بلا ضرورة أو مَنفعة، والشجاعة هي التضحية الضرورية النافعة، وعلى هذا لَم يكن طلب الغلام للنجاة جبنًا، ولَم تكن عودته إلى الملك تهوُّرًا، بل كان في كلا الموقفين شجاعًا حكيمًا.
"جاء يمشي إلى الملك"، ولك أن تتصوَّر كم كانت دَهْشة الملك وهو يرى الغلام الصغير حيًّا يمشي إليه، وقد ذهَب الأصحاب من الجنود - الأشداء الأقوياء الأوفياء لِمَلكهم - إلى غير رجعة.
سبحان الله، لَم تؤثِّر مِحنته على منهجه، لَم يحدث التصرُّف الذي غالبًا ما يتصرَّفه بعض الدعاة، بعد أن يعيشوا مرحلة من مراحل الخطر، يخرجون من هذا الخطر وقد قرَّروا تفادِيه في كلِّ مواقفهم، ويُصبح هذا القرار أساسًا في تحديد تصور جديد ومنهج جديد.
لَم يفعل الغلام ذلك، بل عاد متمسكًا بمنهجه بصورة كاملة ودقيقة، عاد إلى نفس النقطة التي كان عليها، نفس الموقف الذي كان فيه، موقف المواجهة مع الملك، فقد تحقَّق للغلام إمكانيَّة تلك المواجهة، فلا يجوز التراجُع، ولا حتى التأجيل.
ولَمَّا ذهبَ الغلام إلى الملك سأله: "ماذا فعل أصحابك؟"، ولا يريد الملك أن يَنسب الأصحاب إليه؛ لأنهم منهزمون أمام الغلام؛ حتى لا يكون لهزيمته بأصحابه أمام الغلام حساسية تؤثِّر على ادِّعاء الربوبيَّة لنفسه، فقال: "ماذا فعَل أصحابك؟"، ولَم يقل: ماذا فعَل أصحابي؟ رغم أنهم أصحابه، كما قال النص: "فدفعَه إلى نفرٍ من أصحابه"، فقال الغلام الذي لا يعبأ كثيرًا بالوسائل والكيفيَّات: "كفانِيهم الله"، فلم يُخبره بما جرى، ولا كيف جرى، ولَم يجعل ما حدَث من كرامة جديدة مادة الحديث حوله، بل جابَه الملك مرة أخرى بما يقضُّ مَضجعه، ويُزلزل ادِّعاءَه الربوبيَّة؛ بأنَّ الله ربَّه وإلهه قد كفاه إيَّاهم؛ ليكون ذلك مزيدًا من الحُجَّة على ذلك الملك المغرور الذي لو عَقَل وفكَّر وتدبَّر ما حدَث، لعَلِم أنَّ الغلام محفوظ منه، وأنه لا سبيلَ له إليه، فيعلم إذًا حقيقة عَجزه ويتوب إلى ربِّه، ولكنَّ القلب إذا عَمِي وطُبِع عليه، فما تُغني النُّذر؟! ﴿ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴾ [يونس: 96- 97].
ولعلنا نلاحظ أنَّ قول الغلام للملك بعد النجاة: "كفانيهم الله"، كان مثل قوله قبل النجاة: "اللهم اكْفنيهم"، نفس الكلمة التي قالها عند الضُّر فوق الجبل، قالها بعد كَشْف الضر واهتزاز الجبل، بلا زيادة ولا تغيير.
فقد يَنطلق لسان الإنسان عند الضُّر بكلمات اللجوء إلى الله والاستغاثة به، فإذا ما انكشَف الضُّر، تتغيَّر الكلمات والألفاظ، ويدخل فيها إحساس الإنسان بنفسه وعمله، ويُفسِّر الكشف الإلهي لضُره بمجهودٍ بَذَله، أو تصرُّفٍ تَصَرَّفه، ويُحاول الملك قتْلَه مرة ثانية: "فدفَعه إلى نفرٍ من أصحابه، فقال: اذهبوا فاحْمِلوه في قرقور - أي: سفينة - وتوسَّطوا به البحر، فإن رجَع عن دينه وإلاَّ فاقْذِفوه، فذهبوا به فقال: اللهم اكْفِنيهم بما شئتَ، فانْكَفَأت بهم السفينة، فغَرِقوا وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ماذا فعَل أصحابك؟ فقال: كفانِيهم الله.
وهنا لَجَأ الملك إلى حيلة أخرى لقتْل الغلام، ولكنَّه اختار مرة أخرى طريقة تجعل الغلام يفكِّر مرات ومرات، وكأن الملك - المسكين - حتى تلك اللحظة لَم يعرف أنَّ الغلام لو عُرِض على القتل كلَّ يوم مائة مرة، فلن يرجع عن دينه أبدًا.
فأمَر الملك زبانيته أن يأخُذوا الغلام إلى البحر، ويُهدِّدوه بالرجوع عن دينه، أو أن يَقذفوا به في وسط البحر، فأبى الغلام.
وبنفس الثقة في الله - سبحانه وتعالى - والتوكُّل عليه - سبحانه وتعالى - لَجَأ الغلام إلى الحق - جلَّ جلاله - وقال: "اللهم اكْفنيهم بما شئتَ"، فما كان من أمواج البحر إلاَّ أن تفاعَلت مع تلك الكلمة بأمر الله؛ ﴿ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ﴾ [المدثر: 31].
فانْكَفأت السفينة وغَرِقوا جميعًا - وهم الرجال الأشداء الأقوياء - وحَمَلت مياه البحر هذا الغلام الصغير؛ ليصلَ إلى الشاطئ سالِمًا غانمًا، ومع ذلك لَم يُفكِّر أبدًا في الهرب، بل عاد إلى الملك؛ ليعطي الكون كله درسًا في الثبات على الدين، والإصرار على انتصار الإيمان والعقيدة.
لكنَّ الملاحظة الأساسية هنا أن اختيار الملك لأسلوب القذف بالغلام في وسط البحر بعد محاولة القذف به من فوق الجبل، يُعتبر نموذجًا لطبيعة تطور المواجهة الجاهلية المادية البحتة في مواجهة دعوة قائمة بقدر الله وحده، تلك المادية البحتة التي أعْمَت أصحابها عن قدر الله السافر فوق ذِروة الجبل؛ حيث اهتزَّ الجبل، فسقطوا هم، وعاد هو سالمًا، والتي أوْدَت بأصحابها إلى اتِّباع الأساليب التافهة الناتجة عن النظر القاصر في المسافة اليابسة بين الجبل والقصر، كيف لو كانت بحرًا، وكما اهتزَّ الجبل فسَقطوا، انْكَفأت السفينة، فغَرِقوا، وعاد هو سالمًا، أحداث ناشئة بطبيعة واحدة، ناشئة عن إرادة إلهية غالبة بتمام الدعوة.
أدْرَك الغلام هذه الحقيقة، فجاء يمشي إلى الملك، ويقين الغلام بعَجْز الملك عن قتْله وإن كان موقفًا خاصًّا، إلاَّ أنه تضمَّن حقيقة عقَديَّة مطلقة، قالها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس في حديثه: ((واعْلَم أنَّ الأمة لو اجْتَمَعت على أن ينفعوك بشيء، لَم ينفعوك إلا بشيء قد كتبَه الله لك، ولو اجْتمَعوا على أن يضرُّوك بشيء، لَم يضرُّوك إلا بشيء قد كتَبه الله عليك، رُفِعت الأقلام وجَفَّت الصُّحف))، وقد سبَق منذ قليل.
ولن تكون الحركة صحيحة إلاَّ إذا تحقَّق في ضمير كلِّ داعية هذا الاطمئنان الذي كان عند الغلام، عاد الغلام إلى الملك، فتعجَّب الملك كيف يعود الغلام هذه المرة أيضًا سالمًا؟! وقد كان الملك يظن أن ربَّ الغلام الذي نجَّاه من على الجبل، لن يستطيع أن يُنجيَه من البحر، فسأل الملك الغلام: "ماذا فعل أصحابك؟"، فقال الغلام بثقة ويقين: "كفانيهم الله".
لقد أحسَّ الملك بعجزه الشديد، وأنه لا يستطيع أن يقتلَ هذا الغلام الصغير، ولا حتى أن يكون سببًا في هروب الغلام وخروجه من مملكته؛ ليحفظَ الملك ماء وجْهه أمام رعيَّته الذين عَلِموا بعَجْزه عن قتْلِ غلام صغير، مع أنه يدَّعي أنه إلهٌ من دون الله! وهنا يتحول الغلام الصغير من مأمورٍ إلى آمر؛ فيقول للملك:
"إنك لن تستطيع قتلي، إلاَّ إذا فعلتَ ما آمُرك به"، الله أكبر! يا لها من كرامة أن يتحوَّل الغلام من مأمور إلى آمر، بل ويُخبر الملك بعَجْزه وضَعْفه عن قَتْله؛ حتى يفعلَ الأمر الذي يوجِّهه الغلام إليه.
ولَمَّا كان الملك قد أحسَّ بأن وجودَ هذا الغلام أصبَح خطرًا على مُلكه، قال له بلَهفة وشوق: "وما هو؟"؛ أي: ما هو الطريق الذي يجعلني أستطيع أن أقتلك؟!
لقد وضَح تمامًا في كلمات الغلام شيئان: إثبات عجز الملك، والأمر الذي سيأمر الملك به، ولعل هذا أوَّل أمر يتلقَّاه الملك في حياته، ويَجد نفسه مضطرًّا إلى تنفيذه، وبذلك يُنهي الغلام ادِّعاء الربوبيَّة الذي يَدَّعيه الملك بإثبات عجزه واضطراره إلى تنفيذ الأمر الذي يَصدُر إليه، ولقد حرَص الغلام على إنهاء هذا الادعاء في ذلك الموقف؛ لأنه الموقف الأخير الذي يجب أن ينتهي معه هذا الادعاء الفظيع، ويكون الأمر من الغلام الذكي هو: "أن تَجمع الناس في صعيد واحد"؛ وذلك ليرى الناس جميعًا هذا المشهد، ويَعلموا الحقيقة كلها، ويعرِفوا أنه لا شىءَ يَحدث في الكون إلا بأمْرٍ من الله - سبحانه وتعالى - فيَجتمع الناس؛ حتى يَشهدوا الأحداث، ويفهموا معناها، ولقد بدأ الغلام أوامرَه بهذا الأمر؛ لأنه يعلم أن مثلَ هؤلاء الحُكَّام يُخفون الحقائقَ التي تُفيد الناس، وتساعدهم على الإيمان ومعرفة الحقِّ، وهذا هو ما قصَده موسى - عليه السلام - عندما طلَب من فرعون أن يكون موعد المواجهة بينه وبين السحرة يوم اجتماع الناس؛ ﴿ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ﴾ [طه: 59].
ويستمر الغلام في إصدار الأوامر إلى الملك العاجز: "وتَصلبني في جِذع شجرة"؛ حتى يكتملَ ضَعْف الغلام في إحساس الناس؛ فيكون غلامًا صغيرًا مصلوبًا في جِذع شجرة، حتى يَسهُل على الناس الانطلاق بإحساسهم نحو الإيمان بالقوة التي قهَرت الملك، والتي تَقف مع ذلك الغلام الصغير المصلوب، قوة الله ربِّ الغلام!
وأيضًا: ليَظهر للجميع الظلم الواقع على الغلام من دون جريمة ارْتَكَبها إلاَّ أن يقولَ: ربي الله، وهذا بالتأكيد من أسباب مَيْل الناس إليه وتعاطُفهم معه ومع دعوته؛ فقد فطَر الله - سبحانه وتعالى - العبادَ على كراهية الظلم وعَداوته، والمَيْل إلى المظلوم ومُناصرته.
فإذا أُضيف إلى ذلك أنهم يعلمون عن المظلوم حبَّه للخير وحِرصَه على الإحسان إلى الناس، وجرَّبوه من قبل في قضاء حوائجهم، وكوْنه كان دائمًا مستشعرًا لمشاكلهم، في حين غابَت مشاكلهم عن الملك وحاشيته؛ بداية من الدابة التي قتَلها، وانتهاءً بأمراضهم المستعصية التي كان لا يستطيع، بل ولا يَلتفت أصلاً إلى محاولة مُداواتها، فلا شكَّ أن هذه الأمور مجتمعة تَجعل هذا الجمْعَ كله يعلم الظلم الواقع على الغلام، وعندما يتساءلون: ما جريمته؟! يُقال: لا شيء، إلا أنه يقول: ربي الله!
فهكذا ينبغي أن يكون الدُّعاة إلى الله - سبحانه وتعالى - حريصين على ألاَّ يكون لهم تُهمة إلاَّ أن يقولوا: ربُّنا الله، مع إحسانهم إلى الناس، وعليهم ألاَّ يَحزنوا من الظلم الواقع عليهم؛ فإنه قَدَّره الله - سبحانه وتعالى - لحِكَم عظيمة؛ لانتشار دينه وقَبول الناس له، كما أنه سَرعان ما يزول، فيكون لهم الأجر الجزيل عند ربِّهم وإلههم، وكما أُكرِّر دائمًا: يذهب الألَم ويبقى الأجر - إن شاء الله.
"ثم تأخذ سهمًا من كِنانتي"، واشتراط أن يكون السهم من كنانته هو، فيكون سببُ القتل من عنده، وتتأكَّد رغبته في القتل، وفي ذلك مزيد من إظهار عجْز الملك، وأنه ليس بيده الأمر، فلو أخَذ سهمًا من كنانة الملك، لَم يَقتل الغلام حتى يأخُذه من كنانة الغلام؛ ليعلم الناس أنَّ الأمر أمرُ ربِّ الغلام، وأنَّ قتْلَ الغلام كان بإرادته لا إرادة الملك.
"ثم تضع السهم في كَبِد القوس"، ولقد كان من الطبيعي أن يوضَع السهم في كبد القوس، ولكن الغلام جعَل التصرُّف الطبيعي تنفيذًا لأمر منه؛ حتى لا يتحرَّك الملك أيَّ حركة من تلقاء نفسه؛ ليكون خضوعه كاملاً ونهائيًّا لأوامر الغلام التي جعَلها الله صياغة لإرادته هو - سبحانه وتعالى.
"ثم قل: بسم الله ربِّ الغلام"، وفي هذا إعلان بالعجز التام والافتقار القهري الاضطراري إلى الله - سبحانه وتعالى - وهو افتقار لا يَنفعه ولا يُثاب عليه؛ لأن المطلوب شرعًا هو الافتقار والعبوديَّة الاختياريَّة لا الاضطراريَّة، وبهذا يكون الغلام قد أعطى للناس تفسيرًا للموقف؛ فيكون قتْلُه رغبةً منه، وسببًا من عنده، يتحقَّق بقدر الله - سبحانه وتعالى - بعد أن عجَز الملك، ومن المعلوم أن المصلحة العامة مقدَّمة على المصلحة الخاصة؛ ولذلك آثر الغلام مصلحة الأُمَّة على حياته؛ قال شيخ الإسلام: وقد روى مسلم في صحيحه عن النبى -صلى الله عليه وسلم- قصة أصحاب الأخدود، وفيها أنَّ الغلام أمَر بقتل نفسه لأجْل ظهور الدين؛ ولهذا جوَّز الأئمة الأربعة أن ينغمسَ المسلم في صفِّ الكفار - وإن غلَب على ظنِّه أنهم يقتلونه - إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين.
ويَستجيب الملك المهزوم لأوامر الغلام استجابة الضعيف المضطر، فجمَع الناس في صعيد واحدٍ، وصَلَبه على جِذعٍ، ثم أخَذ سهمًا من كِنانته، ثم وضَع السهم في كَبِد القوس، ثم قال: "بسم الله ربِّ الغلام".
وفي نُطق الملك أمام الجموع بهذه العبارة من وصول الدعوة إلى مَن رأى ومَن لَم يَرَ، أخذ الملك السهم من كنانة الغلام؛ فمَن لَم يَرَ، فليسمع، ومَن رأى، فليَزْدَدْ يقينًا بقُدرة الله - سبحانه وتعالى - ربِّ الغلام وعَظمته ووحْدانيَّته، استجاب الملك لأوامر الغلام؛ لأنه وجَد نفسه أمام ثلاثة أمور؛ إمَّا أن يترك الغلام يدعو بدعوته كيفما شاء، وهذا الحال سينتهي حتمًا بإيمان الناس، وإمَّا أن يستمرَّ في تأكيد عَجْزه عن ذلك، وتتأكَّد للناس قوة الله الذي يحمي الغلام، وكان هذا الحال أيضًا سينتهي بإيمان الناس.
والأمر الثالث وهو ما اختاره الملك، والذي انتهى بقتْل الغلام، وأيضًا آمَن الناس؛ فقد أراد الله - سبحانه وتعالى - أن يؤمن الناس، وأن تَعلوَ كلمته، وقضى بذلك - سبحانه وتعالى - وحكَم، ولا رادَّ لقضائه، ولا مُعقِّب لحُكمه، وعلى أساس هذا الموقف نَفهم قول الله الذي جاء في سورة البروج: ﴿ وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ ﴾ [البروج: 20].
"ثم رماه في صُدْغه - وهو من العين إلى شَحْمة الأذن - فوضَع يده في صُدغه، فمات"، وهذه العبارة تتضمَّن حقيقة قدَرية هائلة، حقيقة الرَّبط بين السبب والنتيجة، وهي لحظة الفَرْق بين الضَّرب بالسهم، وموت الغلام؛ حيث تقول العبارة: "ثم رماه، فوقع السهم في صُدغه" فلم يَمُت، لَم يتحقَّق رَبْط السبب بالنتيجة: "فوضَع يده في صُدغه"، "فمات".
وقد كانت هذه الحقيقة القَدرية الأخيرة التي تتحدَّد بها علاقة السبب والنتيجة، وقد سبَقها عدة حقائق:
• ففي القصة النتيجة التي تتحقَّق بعكس مقصود البشر من السبب، فنفس الغلام الذي أراد البشر أن يكون داعية للضلال، يريد الله أن يكون داعية للحق، وفي نفس طريق الغلام إلى الساحر يلتقي بالراهب، ويجلس إليه، ويسمع منه، ويُعجبه كلامه.
• وفي القصة النتيجة الهائلة بالسبب البسيط، مثلما قتَل الغلام الدابة التي كانت تسدُّ على الناس الطريق بحجرٍ صغير، وهو المعنى المتحقق كذلك بهزيمة الملك، ووقوع ما كان يَحذره بسبب هذا الغلام الصغير.
• وفي القصة النتائج المختلفة بالسبب الواحد؛ وذلك عندما كان الغلام وأصحاب الملك فوق الجبل، فرجَف بهم الجبل وجاء إلى الملك، وكذلك عندما كان الغلام وأصحاب الملك في السفينة، فانْكَفأت بهم السفينة، فغَرِقوا وجاء يمشي إلى الملك.
ومن مجموع هذه الحقائق نَفهم من سورة البروج قول الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ ﴾ [البروج: 20]؛ لأن هذه الآية هي حقيقة كل الحقائق.
ولقد كان آخر ما قاله الغلام هو أمره للملك بأن يقول: "بسم الله ربِّ الغلام"، وبهذه الكلمة فتَح الغلام للناس باب الإيمان، فقد كانوا يعرفونه محبًّا لهم، وساعيًا لمنفعتهم، ومداويًا لأدوائهم، وما بَقِي إلاَّ أن يعرِفَ الناس أنَّ للغلام ربًّا هداه إلى محبَّتهم وأذِنَ له بشفائهم، باسْمه تحقَّق عجزُ الملك، وباسْمه سيموت الغلام راغبًا من أجل إيمانهم، وهنا نشعر بمدى القهر الذي انتهى إليه الملك، فبعد أن كان يدَّعي الربوبيَّة، ويعذِّب ويقتل مَن لا يدَّعيها له، يقول في النهاية بنفسه: "باسم الله ربِّ الغلام"؛ ولذلك لَم يكن الغلام خائفًا من أن تنعكس رؤية الناس له وهو يموت خوفًا من الملك بعد قهْره بهذا الموقف، كما أن الغلام لَم يكن خائفًا؛ لأنه استطاع أن يُنشئ تعاطفًا كاملاً له في نفوس هؤلاء الناس بسلوكه معهم قبل ذلك، وبموقف الموت ذاته؛ حيث تحدَّد الفارق بينه كغلام صغير مصلوب على جِذع شجرة، وبين الملك الظالم، وعندما انتهى الخوف من الملك المقهور، وبدأ التعاطُف مع الغلام الداعية، بدأ الناس في الإحساس الصحيح بالموقف، غلام صغير يحب الناس ويقدِّم لهم المنافع والخير، يموت برغبته من أجلهم، بعد أن أثبتَ عجز الملك وضَعْفه من أجْل أن يؤمنوا بالله ربِّ الغلام، واستجاب الناس، فاندفَعوا من كلِّ مكان بلا خوف يردِّدون نداءات الإيمان: "آمنَّا بربِّ الغلام، آمنَّا بربِّ الغلام"، ففي لحظة الانطلاق من قيود الوهم والجهل، وفي لحظة العزة بعد القهْر والذُّل، وفي لحظة القوة بعد الوَهَن والضَّعف يؤمن الناس، فعَل الملك كلَّ ما أمَره به الغلام، وكان هذا الملك في غاية الغباء؛ لأنه لو ترَك الغلام يدعو الأمة إلى توحيد الله - سبحانه وتعالى - لَمَا آمَن معه إلا القليل، ولكنَّه لَمَّا قتَل الغلام، آمنَت الأمة كلُّها، وقاموا جميعًا على قلب رجل واحد، فقالوا: آمنا بربِّ الغلام.
ورحَل الغلام الشهيد عن دنيا الناس عزيزًا كريمًا، وهو الذي صدَق الله فصدَقه الله، وآمنَت الأُمة كلُّها؛ لتأتي يوم القيامة في ميزان حسنات الغلام، ومِن قبله الراهب الذي علَّم الغلامَ التوحيدَ لله - سبحانه وتعالى - وقُتِل قبل أن يرى ثمرة دعوته، وهذا أمر يحفِّز الدعاة على بَذْل وُسْعهم في الدعوة - وإن لَم يروا ثمرة دعوتهم في حياتهم؛ لأنه رُبَّما تأتي الثمرة بعد موت الداعية؛ ولذا قال الله - سبحانه وتعالى - لحبيبه -صلى الله عليه وسلم-: ﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ ﴾ [الشورى: 48].
"فأتى الملك فقيل له: أرأيتَ ما كنت تحذَر؟قد والله وقَع بك حَذرك"، وتغيَّرت ملامح المجتمع، وأنْهَت الجماهير ادِّعاء الحاكم الكاذب، فجاء إلى الملك مَن يقسم له بالله على هزيمته وعَجْزه، ويقول له: "قد والله وقَع بك حَذَرك"، قامت البطانة السيئة لتُخبر الملك بأنَّ الأُمَّة قد آمنَت بالله - سبحانه وتعالى - فما كان من الملك الذي لا يَملك الحُجَّة ولا الإقناع، إلاَّ أن لَجَأ إلى البطش والعُنف؛ فأمَر زبانيته أن يَحفروا الأخاديد في أفواه السِّكك؛ حتى لا يتركوا مكانًا يستطيع الناس أن يَهربوا منه.
وجِيء بالموحِّدين الذين ذاقوا حلاوة الإيمان منذ ساعات معدودة، وخيَّروهم بين الكفر وبين دخول نار الدنيا، فاختاروا جميعًا أن يموتوا على التوحيد والإيمان، وأن يَدخلوا نار الدنيا، على ألاَّ يكفروا بالله - سبحانه وتعالى - ويَدخلوا - بهذا الكفر - نار الآخرة، التي هي أشدُّ من نار الدنيا سبعين مرة؛ كما في الصحيح.
وهكذا تستعلي قلوبهم على تلك الفتنة، ويُلقون بأنفسهم في تلك الأخاديد التي اشتعَلت نارًا؛ ليكونوا في زُمرة الشهداء، وليكونوا أحياءً عند ربِّهم يرزقون.
"فأُمِر بالأخاديد في أفواه السكك، فَخُدَّت، وأُضْرِم فيها النيران"، ورغم هذا لَم يتوقف اندفاع الناس من كل طريق، وفي كلِّ السكك، وواصَلوا الاندفاع حتى أخاديد النيران، وواصل الملك مواجهة الجماهير المندفعة فقال: "مَن لَم يرجع عن دينه، فأقْحِموه فيها، أو قيل له: اقْتَحم"؛ ليقاوِمَ كلُّ إنسانٍ بنفسِه حبَّ البقاء في نفسِه، فيكون أقلَّ مقدار للضَّعف كافيًا وسببًا للارتداد، وقد كانتْ هذه الفكرة آخر ما أفْرَزتْه رأس هذا الملك المهزوم من سموم المكر، ولكنَّ الإيمان أبطَلَ أثرها - بفضْل الله - وعالَجت قوةُ الاندفاع الأصيل إلى الموت أثرَ أيِّ ضَعْف كان كامنًا في النفوس.
ويلتقط لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مشهدًا لمعالجة الإيمان لإحساس التعلُّق بالحياة فيه: ((جاءت امرأة ومعها صبي لها، فتقاعَسَت أن تقعَ فيها، فقال لها الغلام: يا أُمَّه، اصبري؛ إنَّك على الحق)).
يا له من مشهد مَهيب، أن يُنطق الله - سبحانه وتعالى - هذا الطفلَ الصغير؛ ليَربط على قلب أُمِّه، ولتَعلم يقينًا أنها على الحقِّ، وأنا أقول لشباب الأمة الملتزم بما كان عليه النبى -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام - رضي الله عنهم -: اصبروا؛ فإنكم والله على الحق، وسوف يَجبر الله كَسْركم، ويَمسح همومكم وأحزانكم في جنته التي فيها ما لا عين رأتْ، ولا أُذن سَمِعت، ولا خطَر على قلب بشر.
جاءت الأم بولدها متمسكة به إلى النهاية، لَم تَفصلها أهوال الأحداث عنه، حتى جاءت إلى حافَّة الأخدود، واشتعَلت مشاعر الأمومة وكراهية الموت فيها، فتردَّدت أن تقعَ بابنها، ولكنَّ الطفل يطفئ في إحساس أُمِّه لهيبَ النار ذات الوقود؛ لتُلقي بنفسها وتنجوَ من الضَّعف والتقاعس، وكان حديث هذا الصبي هو آخرَ كلمات القصة عند حافَّة الأخدود، قصة الانتصار للحق.
وتبقى مشاهد العذاب، وأخاديد النيران بشَرَرها المتطاير، ولَهيبها ترتفع ألْسِنته بأجساد المؤمنين الطاهرة، ويبقى أثرُ تلك النار في قلب كل مؤمن: استضعافًا في الأرض، وجاهلية في الحياة، ترتفع ألْسِنتها كلما اسْتُشْهِد شهيد في سبيل تلك الدعوة، من أجل التمكين لها في الأرض وفي هذه الحياة، وفي ذلك جاء قول الله - سبحانه وتعالى -: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [البروج: 1 - 8].
وبعدُ: فتبقى كلمة: يُتبع - إن شاء الله تعالى.