(4) مضى عهد النوم!
تتابع مشْوار الأذى والسُّخرية حتى مشى أُبي بن خلف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظم بال قد أرْفت، فقال يا محمد أتزعُم أن الله يبعث هذا بعد ما أرِم؟
- التصنيفات: السيرة النبوية -
مع أول ندَاءٍ علويٍ رَبَّاني {قم فأنذر}، قام -عليه الصلاة والسلام- فلم يعرفِ الرَّاحة ولم تعرفه، وحمل هم إبلاغ الأمانة التي تعجز عن حملها الجبال الرواسي، فبدأ بأقاربه ومن حوله، ووطن نفسه على تحمل الأذى، واحتمَال المكاره، "إنه صلى الله عليه وسلم يريد أن يُنشئ من الأمة المُشركة المُتفرقة الجاهلة أمةً واحدةً مؤمنةً عالمةً، فليَصنع كما يصنع البناء: يَضع الحَجر على الحَجر فيكون جِداراً، وكذلك فعل محمد صلى الله عليه وسلم: بنى أُمّةً صغيرة من ثلاثة، من رَجل وامرأة وصبي، من أبي بكر وخديجة وعلي، فكانت نَواة هذه الأمة الضخمة التي ملأت -بعدُ- الأرضَ، وكان أسلوباً يخَلق احتَذاؤه بكل مصلح.
ثم صَار المُسلمون عشرة، ثم تمَوا أربعين، فَخرجوا يُعلِنون الإسلام بمُظاهرة لم تكن عَظيمة بِعددها، ولا بأعلامِها وهِتافها، ولكنها عظيمة بِغايتها ومعنَاها، عَظيمة بأثرِها، عَظيمة بمن مَشى فيها، محمد وأبو بكر وعمر وعلي وحمزة، أربعون لولا كرم الله بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم لعَاشوا ولمَاتوا منُكرين مجهُولين، فلما لاَمسوه وأخذوا من نُورِه، وسَرت فيهم روح من عَظمتِه صاروا من أعلام البَشر، وأصبحت أسماؤهم مَناراً للسَالكين.
فلما كانوا ثلاثمائة خاضوا المعركة الأولى في الدِفاع عن الحَق، مَعركة بَدر. فلما بَلغوا عَشرة آلاف فَتحوا مَكة وطهّروا الجزيرة العربية.
فلما بَلغوا مائة ألف فَتحوا الأرض!
نعم! فَتحوها، وفَتحوا معها القُلوب بالعَدل، والعُقول بالعِلم، فما عَرفت هذه الدُنيا أنبَل ولا أكرَم، ولا أرأف ولا أرحَم، ولا أرقَى ولا أعلَم، ولا أجَل ولا أعظَم منهم" [1].
لقد قاَمت جاهلية قُريش أمامه وواجَهوه بالسُخرية والأذى، ووقفوا حَجر عَثرة في طرَيق دعوتِه، وحَذروا الناس مِنه، ووصفوه بأبشَع الأوصاف والألقَاب، حتى كان الرجُل إذا أرادَ الحَج حذَّره قومُه من فتى قُريش أن يسحَره ويغَير قلبه، فهَذا الطُّفيل بن عَمْرو كان من سَادات دَوس وعقَلائهم يقول: لما قَدمت مَكة تلقَّاني رجال قُريش وحَذروني من محمد! وقالوا: إن له قَولاً يسحَر به الناس، حتى يفَرق بين الرجُل وولده والمرْأة وزوجهَا، فما زالوا بي يحذرونَني حتى وضَعت في أذُني الكُرسُف - وهو القُطن - لئَلا أسمَع كلامه فيسْحَرني!.
وهذا أبو لهَب يتبَعه ويلحَقه وهو يدعُوا إلى الله - عَزَّ وجَل - ويعْرض نفسَه في الموَاسم وفي أسوَاق مِجنة وعُكاظ وذي المجَاز فيحثو عليه الترَاب ويقول: يا أيها الناس إن هذا قد غَوى فلا يُغوينكم عن آلهة آبائكُم.
وكَانت أم جميْل بنت حَرب بن أمَية تحمِل الشَّوك في طريقه، حتى إذا خَرج تَعثر به وهي حَمالة الحطَب.
وكان أمية بن خلف يلمزه ويهمزه وهو " الهُمزة اللُّمزة "، وبلغ الأمر أن جاء عقبة بن أبي معيط بسلا جزور فألقاه فوقه وهو ساجد.
وكان النضر بن الحَارث كلمَا قام من محله قعَد مكانه وحَدثهم من حديث مُلوك فارس وقال: حديثي والله أحسَن من حديث محَمد.
ولما نزلَت عليه {لَوّاحَةٌ لّلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} قال أبو جَهل ضاحكَاً ساخرَاً: يا معشر قريش، زبانية جهَنم التي يخوفكم بها محَمد تسعَة عشر فهل يعجز كل مائة منكم عن رجُل منهم!!!
فلم تؤثر هذه الأهوَال كلها في عزيمته، ولم تنقص من إيمانه بدعوته، والصدع بها والثبَات عليها، فلما يئسوا من رده عن تبليغ هذه الرسالة عن طريق الأذَى والسخْرية والتهكم والاستهتَار، لجؤوا إلى الوسيلة المقابلَة لثنيه وصده عن دعوته، وهي التي قل أن يثبت أمامها ويصمُد تجاهها أحد، وهي وسيلة الإغراء!! وشراء تلك المبادئ بحطَام دنيء من الدنيا، فأرسلوا له عتبة بن ربيعة وهو جَالس عند الكعبة ليفَاوضه، فلما جلس إليه قال: يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من البسطَة في العشيرة، والمكان في النسَب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جمَاعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتَهم ودينهم، وكفرت من مضى من آبائهم، فاسمَع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها، لعلك تقبَل بعضَها. فقال صلى الله عليه وسلم: " قل يا أبا الوليْد "، فقال عتبة: إن كنت إنما تريد بما جئت به مالاً جمعنا لك من أموَالنا، حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفاً، سَودناك علينا، حتى لا نقطَع أمراً دونك، وإن كنت تريد به ملكاً، ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رِئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا، حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجُل حتى يداوى منه!!... "عجَباً لقريش! يدعوهم محمد صلى الله عليه وسلم ليعطيهم سيادة الأرض وزعَامة الدنيا، ويضَع في أيديهم مفاتيح الكنوز، كُنوز المال وكُنوز العلم، ويمنحهم ما يملك كسرى وقيصر، وهم يدعونه ليعطُوه إمارة هذه القَرية النائمة بين جبَلين وراء رمال الصحرَاء؟!" [2].. فلما فرغ عتبة قال له صلى الله عليه وسلم: أفرَغْت يا أبا الوَليْد؟ فقال نعم. فقال: اسمع، ثم قرأ عليه سورة فصِّلت فقام وقد أيس منه!
ولم تنته هذه المحاولات والإغرَاءات والتهديد، بل جاؤوا إلى عمه أبي طالب، وقالوا له: إن ابن أخيك سفّهَ أحلامنا، وذم آلهتنا، وعاب ديننا، فإما أن تكفه عنا وإما أن تخَلي بيننا وبينه؟ فدعَاه أبو طَالب، وأخبَره بما قاله سادة قريش ثم قال له: فأبق علي وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر مالا أطيق، فظن صلى الله عليه وسلم أنه خَاذله ومُسلِمُه، ولكن هذا لم يجعله يتردد في الإجابة أو يتلكأ في الرد، وإنما قال في الحال: "والله ما أنا بأقدر أن أدع ما بعثت به من أن يشعل أحدكم من هذه الشمس شعلة من نار" فقال أبو طالب: والله ما كذب ابن أخي قط، ارجعوا راشدين.
فلما رأى صناديد قرَيش مناصَرة أبي طالب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم تسليمه لهم، اجتمعوا واتفقوا على أن يقاطعوا بني هاشم، فلا ينَاكحوهم، ولا يبايعوهم، وحصَروهم في الشعب، فجَلسوا فيه ثلاث سنوات حتى أكلوا فيها ورق الشجر، وكان الصبيَان يتضَاغون في الليل من الجوع ما يجد أحدهم ما يأكل، فلما مضَت السنون الثلاث أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمه أبو طالب فقال: إن الله قد بعَث الأرضَة على الصحيفة التي تعاقدوا فيها فأكَلَت كل ما فيهَا من شركٍ وظلمٍ وأبقَت ما فيها من اسمٍ لله، فانطَلق أبو طالب بعصَابة من بني عبد المطلب إلى المسجِد وهو حَافل من رجَال قريش، فقال لهم: إن ابن أخي أخبرني أن الأرضَة أكلت كل اسم لله في الصحيفة وبقي فيها غدركم وقطيعتكم، والثَّواقب ما كذبني! فإن كان ما قال صحيحَاً فو الله لا نسلمه أبداً حتى نُقتل عن آخرنا، وإن كان باطلاً دفعناه إليكم فصَنعتم فيه ما بدا لكم، فرضوا بذلك؛ فلما فتحوا الصحيفَة وجدوها كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فرفعوا الحصر ومزقوا الصحيفَة.
ثم تتابعت الأحزَان على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذاك العام الذي أطلق عليه عام الحزن، فتوفي فيه أبو طالب عضُده وساعده وأعظَم الناس مناصرة له، ثم بعده بثلاثة أيام لحقته أول مؤمنة ومصدقة ومتبعة للرسالة، فتوفيت خديجة -رضي الله عنها- فاغتنم ذلك كُفار قريش فصَبوا جام غضبهم من السخرية والأذى برسول الله صلى الله عليه وسلم وبأصحابه، حتى كانوا يخرجون ببلال - رضي الله عنه - إلى رمضَاء مكة في شدة وهَج الظهيرة في حمأة القَيض فيجردونه من ثيابه ويضعون ظَهره على الأرض ويضعون صخرة على صَدره وهو يهتف ويقول:" أحَدٌ أحَد.. والله لو أعلم كلمة تغيظهم غير هذه الكَلمة لقلتها"، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر بسُمية وزوجها ياسِر وابنهما عَمار وهم يعذبون فلا يستطيع أن يقدم لهم إلا قول: صَبراً آل ياسر فإن موعدَكم الجنة! [3]فلما أيس أبو جَهل من ردهم عن دينهم أخذ الحربة فطَعن بها سمية في فرجهَا فماتت، فحَازت على وسَام " أول شَهيدَة في الإسْلام "، وكل ذلك بمرأى زوجها، ولم يهُد شيئاً من ثباته وإيمانه، ولم ينقِص ذرةً من إرادَته وعزيمته.
وفي يوم اجتمَع فيه كفار قريش فذكَروا ما أصابهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيبه لآلهتهم وسَب دينهم، فقام أبو جَهل زعيم القَوم فأعلن أمام الملأ: أنه قاتل محمداً إن صلى ثانية بجوار الكَعبة!، فلما كان الغَد اجتمعت قريش في مجالسهَا ونواديهَا وكان يوماً مشهُوداً وهم ينتظرون تلك اللحَظات الحاسمَة في هذه القضية التي طالما أرقتهم، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد ثم توجه للحِجر فاستلمه، ثم أقبل يصَلي فلما سجَد أقبل أبو جهل بصَخرة عظيمَة في يده فاشرَأَبت أعناق القوم وخَيم الصمْت وأطبق على الجميع، وحَانت ساعة الصفر، وأصَاخ الكون، وانتَظر التاريخ نهاية تلك اللحظَة ليسَطرها في سجِل أوراقه، فلما وقف خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه صخرته ورفعها وأراد قذفهَا انتفَض منتقعاً لونه مرعوباً قد يبست يداه على حجره حتى قذف الحجَر من يده، فقام إليه كفار قريش يقولون: مالك يا أبا الحكم؟ فقال: قمت إليه فلما دنوت لأقتله عرَض لي دونه فَحل من الإبل، والله ما رأيت مثل هَامته ولا أنيابه لفَحل قط، فهم بي أن يأكلني!! فذُكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ذاك جبريل لو دَنا لأخَذه!.
ثم تتابع مشْوار الأذى والسُّخرية حتى مشى أُبي بن خلف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظم بال قد أرْفت، فقال يا محمد أتزعُم أن الله يبعث هذا بعد ما أرِم؟ ثم فته في يده ثم نفخَه في الريح نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أقول ذلك، يبعثه الله وإياك بعد ما تكونان هكذا ثم يدخلك النار!، فأنزل الله: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي ٱلْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِيۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ }، وكان أبي بن خَلف هذا صَاحباً وصديقاً حميماً لعقبة بن أبي مُعيط، وكان عقبة قد جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع منه فعَلم بذلك أُبي فقال له: وجهي من وجهك حَرام إن أنت جالسْت محمداً أو سمعت منه، أولم تأته فتَتفل في وجهه. فَفَعل ذلك عدو الله عقبة فأنزل الله فيهما {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولا}..
"ولما انتَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مصَاولة أهل مكة ودعوتهم، فلم يستجيبوا وآذوه أشد الإيذاء، وحارَبوه، وبلغ الأذى غَايته، وقد أوصَدوا أبواب الهداية عن نفوسهم في طَريق الرسول صلى الله عليه وسلم وهو حَريص عليهم، وعلى نجاتهم وفَوزهم، فلا القَريب يرحَم، ولا البَعيد يستَجيب، ولا صاحب الرأي يحمله رأيه ليفاوض هذا النبي الأمي. فماذا يفعَل؟! وهو لا يعرف اليأس والإحبَاط، وهذا شأن الداعيَة الناجح، كلما أغلق باب يلج في باب آخر، وإذا لم يستجب له شخص بحَث عن غيره، وإن أعرضَت عنه قبيلة توجه إلى أخرى، وإن طُرد من قرية انتقل إلى ثانية، فلا يضعف أو يتخَاذل بل يستمر ويواصِل، ولما لم تستجب مكة لهذا النور، ولم تقبل هذه الهداية، ورَدت أمر الله ونداءه، انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، حيث إنها أقرب القُرى إلى مكة"!
يا طَريدَاً مَلأ الدُّنيا اسمُه *** وغدَى لحْناً على كُل الشِّفَاه
وغَدَت سِيرته أنشُودةً *** يتَلقَّاهَا رُواة عَن رُواة
ليتَ شعْري هل درَى من طَارَدوا *** عَابدوا اللاتِ وأتبَاع مَنَاة
ليتَ شعْري هل درَى من طَارَدوا *** عَابدوا اللاتِ وأتبَاع مَنَاة
هل درَت من طَارَدتْه أمَّة *** هُبلٌ معبودهَا شَاهَت وشَاه
طَاردت في الغَار من بوأهَا *** سُؤدَدَاً لا يبلُغُ النَّجم مَدَاه
طَاردَت في البِيد من شَاد لهَا *** دينُه جَاهاً أي جَاه
سُؤدد عَالي الذُّرى ما شَاده *** قيصَرٌ يوماً ولا كِسْرى بَنَاه
"ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحيداً بلا خدم، ولا حشَم، ولا قافلَة، ولا مرَاكب، ولا موَاكب، ولا رفاق، إلا الواحِد الأحَد، ذهب يمشي على قدميه الشريفتين، وهذا والله غاية الجهَاد، وغاية البذل، والتضحيَة والعطاء للدعوة والمبدأ الحق، ولكنه في نهاية المرحلة وآخر المطَاف، نصره ربه وآزره وأيده، وانتَشَر نوره وهداه في العالمين، ومن حكمة الله - جَل وعَلا - أنه لم يُنزل معه جنوداً من السماء، ولا جَيشاً عرَمرَماً يحميه، ليلقى الأذى بشخصه الكريم، وليكون قُدوةً لكل داعية، وإمَاماً لكل مجاهد، ومثالاً لكل عَالم، فيدعو ويصبر، ويتحَمل ويواصل" [4] ويعطي في سبيل الله وطاعته ومرضَاته ورضوَانه..
فلما وصَل إلى الطائف، ودخل على سَادة ثقيف لينير قلوبهم بعد ظلامها، وليحيي أرواحهم بعدَ موتها، وليُسلِمَهم سعَادة الدنيا والآخرَة، فما حُيي بحفاوة، ولا قُوبِل بتكريم، بل ما إن عرَض عليهم دعوته ورسالته حتى قام أحدهم فقال: أما وجَد الله أحداً يرسله غيرك؟، وقال الآخر في ازدراء واحتقَار: والله لا أكلمك أبداً!، لئن كنتَ رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظَم خطراً من أن أرد عليك كلام!، ولئن كنت تكْذب على الله، فما ينبغي لي أن أكلمك!، وقال الثالث: أنا أسرق ثياب الكَعبة إن كان الله بعثك بشيء قط!.
فقام صلى الله عليه وسلم ولهيْب الحزن في كبده، وحاله تتفَطر لها القلوب، أحزان تثيرها جدران مكة وطرقاتها.. تُذكره بخديجة وأبي طالِب، ودعوةٍ مطاردةٍ!! وأتباع تتخَطفهم أيدي الطغاة!! وقلوب أمامه قاسية لا تحمل معناً من معَاني الإنسَانية.. فلما أراد الخروج من الطائف، وسلك طريق العودة إلى مكة، لم ينته مسَلسَل الأذى والإهانة بعد! بل أغرَوا صبيانهم وغلمانهم بمطاردته، فصَفوا له صفين ورموه وأذلقُوا عقبيه بالحجارة، حتى خرج من حدود وربوع الطائف، فيا لله ما أعظَم ذلك الموقف، وما أجَل ذلك الخطب، رسول رب العالمين وخليله، وأشرَف مخلوق وأزكى مرسَل، يسب ويؤذى ويدمى ويهان!! فو الذي نفسي بيده: إن القَلم ليعجز عن تسطير ذلك المشهد، وإن اللسَان ليعيى أن يجلي تلك التضحيَة وذلك البذل وذاك الثبَات!!.. خرج صلى الله عليه وسلم كسيراً حزيناً فما يفيق إلا على أبعد من (50 كيلومتراً) وذلك في قرن الثعَالب، فيرفع في تلك الحال يديه إلى ربه وخَالقه في أجَل صُور الانكسَار، وأقصى حالات الافتقَار، وأسمَى حالات الذل والخضُوع فيقول:" اللهم إليْك أشكو ضَعف قوتي، وقلة حيْلتي، وهَواني على الناس، يا أرحَم الراحمين، أنت ربُّ المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى عَدو يتجهمني! أم إلى قريب ملكتَه أمري؟ إن لم يكُن بك سخَط عليَّ فلا أبالي، غير أن عافيتَك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرَقت له الظلمَات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي غضَبك أو يحل بي سخَطك، لك العتبى حتى ترضَى، ولا حَول ولا قوة إلا بك" [5].. وفي هذه الأثناء يرسِل الله - عز وجَل- ملك الجبَال يستأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُطبق عليهم الأخشَبين -وهما الجبَلان المطبقان على مكة-! فقال وهو يبعث رسالة إلى أمته أن الدعوة ليسَت عبئاً ثقيلاً على ظهر الداعي يريد أن يرميه، بل هو همٌّ يخالج النفس، ويخالط القَلب في إخراج الناس من الظلمات إلى النور:
" بَل أستأني بهم لعَل الله أن يُخرج من أصْلابهم من يعبد الله لا يشرك به شَيئاً " [6].
"أمرٌ عجيب! الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الحال من الشدة، وفي هذا الموقف الذي يقنط أجلد الرجَال بسببه، رأى بادرة قبول للدعوة عند عبد ضعيف يقال له "عدَّاس"، فلم يمنعه كل ما لقي من أن يبلغه دعوة الله، وينصَرف إليه، وينسى ألمه وتعبه، فما زال به حتى أسلم! هذا موقف صغير بالنسبَة للرسول العظيم، ولكنه عظيمٌ عَظيم بالنسبة إلى دعَاة البشر في كل تواريخهم!!، ولا يستطيع باحث أن يلقى في الإخلاص لله في الدعوَة ونسيان الذات في سَبيلها، موقفاً مثله لرجُل آخر غير محمد صلى الله عليه وسلم "..
وصَل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، فطاف بالكعبة وهو في جوار المطْعم بن عَدي، وقد رفضته مكة بأشرَافها وسَادتها، ورفضته الطائف بعظمَائها وزعمَائها، ورفضَه أهل الأرض، فاستَقبَلته السمَاء وتلقاه الملأ الأعلى، رفضه الناس فاستقبله ربُّ الناس، وكل يوم يمر عليه يكون أحسَن وأفضَل وأعز وأجَل وأكرَم من اليوم السابق.. وفي هذه الليالي شرف صلى الله عليه وسلم بحال أرفَع، ومآل أفضَل، ومنزلة أعظَم، حيث أُسري به إلى المسجد الأقصَى فأمّ النبيين فيه ثم عُرج به إلى السمَاء، فصعد فوق أطباق السمَاوات حتى بلغ سدرة المنتَهَى، وفي تلك الحال رأى جبريلَ -عليه السَّلام- على صورته التي خلقه عليها.
أسْرَى بك الله ليلاً إذ مَلائكُه *** والرُّسل في المسْجد الأقصَى على قَدمِ
كنتَ الإمَام لهم والجَمع محتفِل *** أعظِم بمثلك من هَادٍ ومُؤتممِ
لما حَضَرت به التفوا بسَيدهم *** كالشُّهب بالبَدر أو كالجُند بالعَلمِ
وقيْل كل نَبي عنْد رُتبتِه *** ويا محمَّد هذا العَرش فاستَلمِ
حَتى وصَلت مكَاناً لا يُطار له *** على جَناحٍ ولا يُسعَى على قَدمِ
ثم رجع صلى الله عليه وسلم من ليلته تلك إلى مكة، فلما أصبح مر به أبو جهل، فسأله عن الجديد من أمره فقال: أُسري بي البَارحة إلى بيت المقْدس، فضحك أبو جَهل وقال: إن أنا دعيت قريشاً تقول لهم ما ذكرت لي؟ فقال:نعم! فدعَاهم فلما أخبرهم سَخروا وضَحكوا!، وارتد قومٌ ممن كان أسلم معه، ثم جعلوا يسألونه عن أشياء في بيت المقدِس، فجلّى له الله بيت المقدس، فجعلوا لا يسألونه عن شيء إلا أخبَرهم به.. وفي غُضون هذا التعجب والسخرية أتوا أبا بكر صدّيقَ هذه الأمة فقالوا له لعله يرجع عن إيمانه: إنّ صاحبك يزعُم أنه ذهب البارحة لبيت المقدس ورجع من ليلته؟ فقَال: أَوقَد قال ذلك؟! فَفَرحوا بسُؤاله وظنوا أنها فرصَتهم السَّانحة لرده عن دينه وإسْلامه فأجَابوا: نعَم لقد قال ذلك! عندها قال في ثبَاتٍ ويقين: إن كان قاله فقَد صَدق!! فبُهتوا وبهذا استَحق شرف هذا اللقَب فلا يصْدق على أحَد سواه –رضي الله عنه-..
وبدأت إرهاصَات الهجرة بعد ذلك، وسمعَت قريش قائلاً يقول في الليل على أبي قيس:
فإن يُسلم السَّعدَان يُصبِح محمَّدٌ *** بمَكةَ لا يخشَى خِلاف المُخَالفِ
فلما أصبَحوا قال أبو سفيان: من السَّعدان؟ سعد بن بكر وسعد تميم؟ فلما كان في الليلة الثانية سمعوا الهاتف يقول:
أيا سَعْد سَعْد الأَوس كُن أنتَ ناصِراً *** ويا سَعْد سَعْد الخَزرَجَين الغَطَارفِ
أجيبَا إلى دَاعي الهُدَى وتمنَّيَا *** على الله في الفِردَوس مُنيةَ عَارفِ
فإن ثَوابَ الله للطَّالب الهُدَى *** جِنَانٌ من الفِردَوس ذَات رَفَارفِ
فقال أبو سفيان: هما والله سعد بن معاذ، وسَعد بن عبَادة!
بعد هذا التقَى النبي صلى الله عليه وسلم بالأنصَار فآمنوا به وصدقوا، فكان لقَاء العقبة الأولى والثانية، وأظهَروا استعدادهم لاستقباله، ووعَدوه بنصرته، فأمر أصحابه بالهجرة إلى المدينة، فخرجُوا زرافات ووحدَاناً، فكان أول من هاجَر أبو سَلمة بن عبد الأسد المخزومي، ثم تتابع بعده الصحَابة – رضوان الله عليهم أجمعين –
وبهَذا ابتَدأت مرحَلةٌ أخرَى ورحْلةٌ مبَاركة.. إنهـَا..
بقلم/ نايف بن محمد اليحيى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] سيد رجال التاريخ (ص51).
[2] سيد رجال التاريخ (ص59).
[3] أخرجه الحاكم (3/ 388)، وصححه، وصححه الألباني في (فقه السيرة).
[4] سيد رجال التاريخ (ص60).
[5] رواه الطبراني في " المعجم الكبير " (13/73/181)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (6 / 487).
[6] أخرجه البخاري (3059) مسلم (1795).