من مقامات النبوة - مقام التعبد (14)
لقد ربّى نفسَه على تلك الحَال فَتربى عليها أصحابه -رضوان الله عليهم- فهذا فاروق هذه الأُمة عُمر بن الخطَاب يقال له: ألا تَنام؟! بعد أن تولى الخِلافة فيقول: إن أنا نمِت في النًهار ضيّعتُ رعيتي، وإن أنا نمِت في الليل ضيّعتُ نَفسي! فكان إذا جنَّ الليل أصبحَ كالعصفور المُبلل باِلماء.
حينما تعيْش مع سِيرَة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتتنَقل بين رياضهَا وحُقولهَا، وترى جهَاده وبذلَه وتضحيتَه، ثم تقَلب صفحَات دعوَته وهمِّه وتعليْمه، ثم تتَمَعن في قيامه بأموْر الناس وقضَاء حاجَاتهم وحَل مشَاكلهم، ثم تنظر في مقَامه مع أهله وقضَاء حَاجَاتهم والقيَام بخدمَتهم، وكل واحدٍ منها لَو أنيطَت على شُم الجبَال، وكَرام الرجَال لما أطَاقوا حملَها، فتَظن عند ذلك أنه قد مَضى وقتُه للناس فلم يبق منْه شَيء، وتنسَى عندها أبرَز صفَة كانت تعيش بين جنبَيه من النسُك والتعَبد والافتقَار والإلحَاح والتضَرع إلى ربه، فقَد كان يَجد في العبَادة قُرة عينه، وطمَأنينة نفسِه، "وإنك لتَقف مشدُوهاً أمام ذلك الجَمع العجيْب بين النسُك الذي بلَغ أرقَى مَراتب التعَبد، وبين القيَام على أمُور الدنيَا التي كان يعيْش فيها بكَده، ويعُول كثيراً من الأهْل والفقَراء، وينَاضل أمة بكَاملهَا، ويسُوس دولةً فتيةً في وجه العَالم، يوفِد إلى المُلوك ويدعوهم، ويستَقبل الوفُود ويكرِمهم، ويبعَث السرايا ويقُودها، ويجَادل من حَوله من أهْل الأديَان وأهل السلطَان، ويهيء للنصْر، ويحتَاط للهَزيمة، ويبعَث العمَّال، ويجبي الأموَال، ويقسمها بنَفسه ويشرع للناس دين الله فيفصِّل المجمَل من الوَحي، ويوضح الغَامضَ، ويرسُم السنَن، وهو في كل ذلك يؤدي عَمَله اليَومي، وبين هذه الهمُوم والمشَاغل يتجَلى محمدٌ الناسِك العَابد الذي هو أعظَم انقطَاعاً إلى الله واتصَالاً به ممن انقطعوا إليه في رؤوس الجبَال"، كانَت الصلاة أنسَه وميدَانه، وروحَه وريحَانته، ونزهَتَه وبستَانه،ونعيمَه وعُنوانَه، فكان إذا حَزبه أمرٌ صَلى، وكان يقُول: "جُعلت قُرة عَيني في الصَّلاة"، ويقول لبلال: "أقِم الصَّلاة أرحْنَا بها ".
دخَل عَطَاء وابن عمَر على عَائشَة رضي الله عنها فقال ابن عمَر: حدثينَا بأعجَب شيء رأيتِه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبَكَت وقالت: كُل أمره كان عجبَاً دخل علي ليْلةً من الليَالي فقال: "يا عائشَة ذريني أتعَبد لرَبي" فقلت: والله إني لأحِب قُربَك، وأحب أن تعَبد لرَبك، فقَام إلى القِربة فتَوضأ ولم يكْثر صَب الماء، ثم قام يصَلي، فبكى حتى بل لحيتَه، ثم سجَد فبكى حَتى بلَّ الأرض، ثم اضطَجع على جنبِه فبكَى، حتى إذا أتى بلال يؤذنه بصَلاة الصبْح، قال: يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ذنبَك ما تقدم وما تأخَّر فقال:"ويحَك يا بلال وما يمنَعني أن أبكي وقد أُنزل علي الليْلة{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ} الآيات، ثم قال: "وَيل لمن قَرأَها ولم يَتفَكر فيهَا" [1].
صَلى مَرةً في قيام الليل فافتَتَح البقَرة يقول حُذَيفة: فقُلت يركَع عند المائة فمَضَى، فقلت: يصَلي بها في ركعَة فمَضَى، فافتتَح النسَاء فقلت: يركَع بها فافتتَح آل عمران حتى ختَمَها، يقرأ متَرسِّلاً إذا مَر بآية سُؤال سَأل، وإذا مَر بآية تعَوذ تعَوذ، ثم رَكَع فكَان ركوعُه نحواً من قيَامه، ثم سَجَد فكان سجُوده نحواً من ركوعِه [2].
وهذا ابن مَسعود يقول: صَليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاتَ يومٍ حتى همَمت بأمر سُوء! فقالوا له: وبماذا همَمت؟ فقال: هممت أن أقعُد وأدَعَه [3].
نَفْس المحِب إلى الحَبيْب تطَلع *** وفُؤَاده من حُبه يتقَطَّعُ
عزُّ الحَبيب إذا خَلا في ليلِه *** بحَبيبه يَشْكو إليْه ويضرَعُ
وَيقُوم في المحْرَاب يشْكُو بثَّه *** والقَلْب منْه إلى المحَبَّة يَنزعُ
ولقَد سرَت نسَمَات الإيمَان في كل ذَرةٍ من جسَده – عليه الصَّلاة والسَّلام – فعَلق قلبَه بالله في كل شيء، فَهو يذكُره على كل أحيَانه، واثقٌ بوَعده، مرَاقبٌ له، مُطيعٌ، خَائف، مُحب، خَاشِع آناءَ الليل وأطرَاف النهَار، معَظم لحُرماته، فإذا جاءه أمْر يحبُّه قال: "الحَمد لله الذي بنعْمته تَتم الصَّالحَات" [4]، وإذا أرَاد الأكل والشُّرب قال: "بسْم الله" [5]، وإذا فرَغ منه قال "الحَمد لله كَثيرا طيباً مباركاً فيه غيرَ مكفيٍ ولا مُودع،ولا مسْتغنى عنْه ربنَا" [6]، وإذا أوَى إلى فرَاشه قال: "اللهم أسلَمْت نفسي إليك ووجَّهت وجهِي إليْك، وفوَّضت أمري إليْك، وألجَأت ظَهري إليك، رَغبةً ورهبةً إليْك، لا ملجَأ ولا منجَى منك إلا إليْك، آمنت بكتَابك الذي أنزَلت، ونبيك الذي أرسَلت" [7]، وإذا استيقَظ قال: "الحَمد لله الذي أحيَانا بعدَما أماتَنَا وإليه النشُور" [8]، وإذا لبسَ ثوباً جديداً قال: "الحَمد لله الذي كسَاني هذا الثَّوب ورزقَنيه من غَير حَولٍ مني ولا قُوة" [9]، "وإذَا عطَس قال: "الحَمد لله" [10]، وكان إذا استوَى على بَعيره خَارجاً إلى سفَر كبر ثلاثاً ثم قال: "سبحَان الذي سخَّر لنَا هذا وما كنا له مقْرِنين...." [11]، وإذا رَأى مبتَلى قال: "الحَمد لله الذي عَافَاني مما ابتَلاك به، وفضلَني على كَثير ممن خَلَق تفضيْلا" [12]، وكان إذا عَلا ثنيةً كبَّر الله، وإذا هبَط سبَّح. وإذا نزَل منزلاً قال: "أعُوذ بكلمَات الله التامَّات من شر ما خَلق"[13]، وإذا سمع المؤذن قال مثْل ما يقُول فإذا فرَغ قال: "أشهَد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شَريك له، وأن محمداً عبْده ورسُوله، رضِيت بالله رباً، وبمحمدٍ رسولاً، وبالإسلام ديناً" [14]، وإذا حَزبَه أمرٌ صلى [15]، وإذا قَام من الليْل قرَأ الإحدَى عشْرة آية الأخِيرة من سُورة آل عمرَان "إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب" [16]، وإذا أصبَح قال: "اللهم بك أصبَحنَا وبك أمسَينا، وبك نحيَا وبك نمُوت، وإليك النشُور "وإذا أمسَى قالهَا كذلك: "اللهم بك أمسَينا..." [17]، وإذا كَرَبه أمرٌ قال: "يا حَي يا قَيوم، برحمَتِك أستَغيْث" [18]، وإذا رأى ما يكْره قال: "الحَمد لله على كل حَال" [19]، وهكذا كان – عليه الصَّلاة والسَّلام – في جَميع أحوَاله وأوقَاته، يتَنقَّل في ريَاض الذكْر وبسَاتين المعْرِفة، فإذا فرَغ من عبَادة شرَع في ذكْر، فإن فرغَ منه وجَدته في برٍ وصدقةٍ وإحسَانٍ، وهو في سفَره وجهَاده يُعلم ويدعوا إلى الله، فإذا لم يكن في هذه وجَدته مع أصحَابه يمازحُهم ويحُل مشكلاتهم، فإذا قَام منهم دخَل فكان في خدمَة أهله، فلم تَمض لحظَة ووَمضَةٌ من حياته إلا في خَير وطَاعَة وقربةٍ من الله – عز وجَل – ويصف عبدالله بن رواحة ليله فيقول:
يبيْت يُجافي جَنبه عن فرَاشِه *** إذا استَثقَلت بالمشْركين المضَاجعُ
لقد ربّى نفسَه على تلك الحَال فَتربى عليها أصحابه -رضوان الله عليهم- فهذا فاروق هذه الأُمة عُمر بن الخطَاب يقال له: ألا تَنام؟! بعد أن تولى الخِلافة فيقول: إن أنا نمِت في النًهار ضيّعتُ رعيتي، وإن أنا نمِت في الليل ضيّعتُ نَفسي! فكان إذا جنَّ الليل أصبحَ كالعصفور المُبلل باِلماء.
إذا قُلتَ ليْث فهو أمْضَى عزيمةً *** وإن قلتَ غَيثٌ فهو أندَى وأجوَدُ
هُو المقتَفي أمرَ الإلَه وإنَّه *** ليَصدُر عن أمرِ الإلَه ويُوردُ
منَاقب تحصَى دونَها عَدد الحَصَى *** بهَا يغبَط الحُر الكَريم ويحسَدُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] أخرجه ابن حبان (260)،وقال المنذري: إسناده صحيح أو حسن. الترغيب والترهيب (2/316).
[2] أخرجه مسلم (772).
[3] أخرجه البخاري (1084) مسلم (373).
[4] أخرجه ابن ماجه (3803) وصححه الألباني.
[5] أخرجه البخاري (557).
[6] أخرجه البخاري (5142).
[7] أخرجه البخاري (244) مسلم (2710).
[8] أخرجه مسلم (2711).
[9] أخرجه أبو داود (4023) وحسنه الألباني.
[10] أخرجه البخاري (3115) مسلم (2162).
[11] أخرجه البخاري (1342) مسلم (532).
[12] أخرجه الترمذي (3431) وصححه ابن القيم في الزاد (2/418).
[13] أخرجه مسلم (2708).
[14] أخرجه مسلم (386 ).
[15] أخرجه أبو داود (1319) وحسنه ابن حجر في الفتح (3/205).
[16] أخرجه البخاري (1200) مسلم (620).
[17] أخرجه أبو داود (3868) وصححه ابن القيم في زاد المعاد (2/337).
[18] أخرجه الترمذي (3524)، وصححه المنذري في الترغيب والترهيب (1/313).
[19] أخرجه ابن ماجه (3803)وجود إسناده النووي في الأذكار (ص399).
- التصنيف:
- المصدر: