عظم كلمة الحق: المقال الأول
الحق ما لا يَسع إنكاره، ويَلزَم إثباته والاعتراف به، ووجود الباري أَوْلى ما يجب الاعتراف به، ولا يَسَع جحوده.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين...
أما بعد،،،
فقد طلعت شمس الإسلام على رؤوس أهل الجهالات والضلالات فبدَّدت ظلماتهم في ربوع الجزيرة العربية ثم انتشر نور الإسلام – بحمد الله ومنته- في الأرض كله فسار سيرا حثيثاً حتى دخل على كل بيت حجر أو وبر بعز عزيز يعزه الله أهل طاعته وبذل ذليل يذله الله أهل معاصيه.
ففي صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار عن النّبيّ صلى الله عليه وسلّم: " حدثني أبو غسان المسمعي ومحمد بن المثنى ومحمد بن بشار بن عثمان واللفظ لأبي غسان وابن المثنى قالا حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته «ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا كل مال نحلته عبدا حلال وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن لا يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب وقال إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان وإن الله أمرني أن أحرق قريشا فقلت رب إذا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة قال استخرجهم كما استخرجوك واغزهم نغزك وأنفق فسننفق عليك وابعث جيشا نبعث خمسة مثله وقاتل بمن أطاعك من عصاك قال وأهل الجنة ثلاثة ذو سلطان مقسط متصدق موفق ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم وعفيف متعفف ذو عيال قال وأهل النار خمسة الضعيف الذي زبر له الذين هم فيكم تبعا لا يبتغون أهلا ولا مالا والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك» وذكر البخل أو الكذب والشنظير الفحاش ولم يذكر أبو غسان في حديثه وأنفق فسننفق عليك وحدثناه محمد بن المثنى العنزي حدثنا محمد بن أبي عدي عن سعيد عن قتادة بهذا الإسناد ولم يذكر في حديثه كل مال نحلته عبدا حلال حدثني عبد الرحمن بن بشر العبدي حدثنا يحيى بن سعيد عن هشام صاحب الدستوائي حدثنا قتادة عن مطرف عن عياض بن حمار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم وساق الحديث وقال في آخره قال يحيى قال شعبة عن قتادة قال سمعت مطرفا في هذا الحديث وحدثني أبو مطر عمار حسين بن حريث حدثنا الفضل بن موسى عن الحسين عن حدثني قتادة عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن عياض بن حمار أخي بني مجاشع قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خطيبا فقال «إن الله أمرني...» وساق الحديث بمثل حديث هشام عن قتادة وزاد فيه «وإن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغ أحد على أحد» وقال في حديثه «وهم فيكم تبعا لا يبغون أهلا ولا مالا» فقلت فيكون ذلك يا أبا عبد الله قال نعم والله لقد أدركتهم في الجاهلية وإن الرجل ليرعى على الحي ما به إلا وليدتهم يطؤها " (رواه مسلم رحمه الله برقم: 2865).
فقد قام النبي صلى الله عليه وسلم بأعباء الرسالة ودعا الناس إلى كلمة التوحيد وإلى كلمة سواء حتى لا يُتخذ أرباب من دون الله فنصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده وأبان الحق للناس وكشف الغمة حتى ترك أمته على المجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها هالك.
كما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم – بأبي هو وأمي- بواجب التبليغ وأدَّى مهمته وأشهد الله على ذلك في آخر أيامه في حجة الوداع أنه بلغهم، إذا علمت أن مهمة الداعية أن يبلغ كلمة الحق بطريقة النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه والسلف الصالح سواء اتبعه الناس وقبلوا دعوته أم لم يقبلوا، وإنما على الداعية التبليغ والقبول توفيق من الله فهو بيد الله يوتي نوره من يشاء ولذلك على الداعية أن لا ييأس أبدا ما دام قائم على أمر الله كما كانت الرسل تفعل مثل ذلك ويفوزون بذلك في دنياهم وأخراهم وقد قال تعالى {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 67 ].
فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ:خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا فَقَالَ عُ «عُرِضَتْ عَلَىَّ الأُمَمُ فَجَعَلَ يَمُرُّ النَّبِىُّ مَعَهُ الرَّجُلُ وَالنَّبِىُّ مَعَهُ الرَّجُلاَنِ، وَالنَّبِىُّ مَعَهُ الرَّهْطُ، وَالنَّبِىُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ، وَرَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الأُفُقَ فَرَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ أُمَّتِى، فَقِيلَ هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ. ثُمَّ قِيلَ لِى انْظُرْ. فَرَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الأُفُقَ فَقِيلَ لي انْظُرْ هَكَذَا وَهَكَذَا. فَرَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الأُفُقَ فَقِيلَ هَؤُلاَءِ أُمَّتُكَ، وَمَعَ هَؤُلاَءِ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ فَتَفَرَّقَ النَّاسُ وَلَمْ يُبَيَّنْ لَهُمْ»، فَتَذَاكَرَ أَصْحَابُ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا أَمَّا نَحْنُ فَوُلِدْنَا في الشِّرْكِ، وَلَكِنَّا آمَنَّا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَكِنْ هَؤُلاَءِ هُمْ أَبْنَاؤُنَا، فَبَلَغَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ «هُمُ الَّذِينَ لاَ يَتَطَيَّرُونَ، وَلاَ يَسْتَرْقُونَ، وَلا يَكْتَوُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ فَقَالَ أَمِنْهُمْ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «نَعَمْ» . فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ أَمِنْهُمْ أَنَا فَقَالَ «سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ».
وفي رواية: لَمَّا أُسْرِىَ بِالنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم «جَعَلَ يَمُرُّ بِالنَّبِىِّ وَالنَّبِيِّينِ وَمَعَهُمُ الْقَوْمُ وَالنَّبِىِّ وَالنَّبِيِّينِ وَمَعَهُمُ الرَّهْطُ وَالنَّبِىِّ وَالنَّبِيِّينِ وَلَيْسَ مَعَهُمْ أَحَدٌ حَتَّى مَرَّ بِسَوَادٍ عَظِيمٍ فَقُلْتُ مَنْ هَذَا قِيلَ مُوسَى وَقَوْمُهُ وَلَكِنِ ارْفَعْ رَأْسَكَ فَانْظُرْ. قَالَ فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ قَدْ سَدَّ الأُفُقَ مِنْ ذَا الْجَانِبِ وَمِنْ ذَا الْجَانِبِ فَقِيلَ هَؤُلاَءِ أُمَّتُكَ وَسِوَى هَؤُلاَءِ مِنْ أُمَّتِكَ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ». فَدَخَلَ وَلَمْ يَسْأَلُوهُ وَلَمْ يُفَسِّرْ لَهُمْ فَقَالُوا نَحْنُ هُمْ. وَقَالَ قَائِلُونَ هُمْ أَبْنَاؤُنَا الَّذِينَ وُلِدُوا عَلَى الْفِطْرَةِ وَالإِسْلاَمِ. فَخَرَجَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ «هُمُ الَّذِينَ لاَ يَكْتَوُونَ وَلاَ يَسْتَرْقُونَ وَلاَ يَتَطَيَّرُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ فَقَالَ أَنَا مِنْهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «نَعَمْ » ثُمَّ قَامَ آخَرُ فَقَالَ أَنَا مِنْهُمْ فَقَالَ «سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ». (أخرجه البخاري 1/163(5705) وأحمد 1/271(2448) و\"مسلم\" 1/137(447) والتِّرْمِذِيّ\" 2446 و\"النَّسائي\" في \"الكبرى\" 7560).
فقبل أن نتطرق إلى صلب الموضوع فلنُعرِّف الحق نفسه لنكون على بينة من أمرنا كالتالي:-
تعاريف للحق والتعريف المختار لدي تعريف الحليمي للحق:
نَقَل البيهقي في "كتاب الأسماء والصفات" عن الحليمي قال: "الحق ما لا يَسع إنكاره، ويَلزَم إثباته والاعتراف به، ووجود الباري أَوْلى ما يجب الاعتراف به، ولا يَسَع جحوده؛ إذ لا مُثبت تَظاهَرتْ عليه البيِّنة الباهرة ما تَظاهرتْ على على وجود البَارِي جلَّ ثناؤه "؛ ا.هـ. أنظر (الأسماء والصفات للبيهقي (1/ 45 )
نعريف الراغب الأصفهاني:
قال الراغب الأصفهاني في مُفرداتِه: قوله تعالى: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [الأعراف: 105]، قيل معناه أولا: جَدير، وقُرِئ "حقيق عليّ"، قيل: واجِب. المفردات في غريب القرآن... أنظر ص: 247.
وثانيا: التعريف الثاني للراغب الأصفهاني: والحقيقة تُستعمَل تارة في الشيء الذي له ثبات ووجود؛ كقوله -صلى الله عليه وسلم- لحارثة: «لكلِّ حقٍّ حقيقةٌ، فما حقيقةُ إيمانِكَ؟»؛ أي: ما الذي يُنبِئ عن كون ما تَدَّعيه حقًّا، وفلان يَحمِي حقيقته؛ أي: ما يَحقُّ عليه أنْ يُحمى، وتَارَة تُستعمَل في الاعتقاد كما تَقدَّم.
ثالثا: وتارة في العمل وفى القول؛ فيُقال: فلان لفعْله حقيقة إذا لم يكن مُرائيًا فيه، ولقوله حقيقة، إذا لم يكن فيه مُترخِّصًا ومُستزيدًا، ويُستعمَل في ضدِّه المُتجوِّز والمتوسِّع والمُتفسِّح، وقيل: الدنيا باطِل والآخرة حقيقة؛ تَنبيهًا على زوال هذه، وبقاء تلك"؛ ا.هـ )) أنظر (المصدر السابق).
وهذا التعريف الأخير هو المختار لدي إذ الحقُّ هو الصدق والحقيقة ومُطابَقة الواقع، والباطل هو المُزيَّف والكذِب، ومطابقة خلاف الواقع؛ لذلك قال الله - سبحانه وتعالى -: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق: 19]؛ أي: بالصِّدق والحقيقة ومُطابقة الواقع الذي يَعرِفه كلُّ الناس - مُسلِمهم وكافِرهم - ولكن بعض الناس - هداهم الله - قد يُحاوِل لشدَّة حبِّه للدنيا أنْ يَحيد منه، ويُخادِع نفسَه بالكذب والباطل.
قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [سورة الأنفال:2-4 ].
فقوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} يدل على أنهم كمَّلوا إيمانهم باطناً بوجل قلوبهم وإزدياد إيمانهم إذا تليت عليهم آيات الله مع سائر أعمال القلوب إذ هاتين الصفتين كنموذج لما سواها .
وأيضا كمَّلوا إيمانهم ظاهراً لدليل قوله تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}.
فالصلاة والزكاة من أعظم أركان الإسلام فالصلاة صلة بين العبد وربه كما أن الزكاة صلة بين العبد وإخوانه فإذا حقّقها العبد حقّق كمال الإحسان فهما كنموذج لسائر الأعمال الظاهرة كذلك.
ثم إذا حقّق العبد سائر الأعمال المطلوبة منه فهو المؤمن حقا أي كامل الإيمان ولم ينقص من الإيمان شيء. كما قال الله تعالى { أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا}.
وقد جاء الدليل على ما قلناه آنفاً في آخر سورة الأنفال حيث ذكر الله جلّ شأنه بالتفصيل لمن حقّقوا وكمّلوا إيمانهم بالهجرة والجهاد في سبيل الله والإيواء والنصرة فقال سبحانه {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}.
وإنك ترى أن الله سبحانه لم يذكر لمثل ذلك الثناء لمن لم يهاجروا من أعداء الله وأعداءهم ولم يجاهدوا ولم ينصروا إخوانهم بل خذلوهم.
لذلك لم يجعل الله لهم ولاية مطلقة إلا إذا استنصروا في الدّين فعلى المسلمين أن ينصروهم حينئذ لأجل دينهم كما قال تعالى {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }.
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً}.
قال محمد صديق خان في فتح البيان: قال تعالى {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا}.
{أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} أي الكاملون في الكفر {حَقًّا} مصدر مؤكد لمضمون الجملة أي حق ذلك حقاً أو بمعنى كفراً حقاً، وقال أبو البقاء: كافرون من غير شك، وقد طعن الواحدي في هذا التوجيه فقال الكفر لا يكون حقاً بوجه من الوجوه، والجواب أن الحق هنا ليس يراد به ما يقابل الباطل بل المراد أنه كائن لا محالة وأن كفرهم مقطوع به. أنظر (فتح البيان في مقاصد القرآن (3/ 284)
قلت: - المؤلف- والصواب أن يقال أن كفرهم مقطوع به لا محالة. أما قوله – رحمه الله- أي الكاملون في الكفر فأرى إنه ليس بصواب لكون الكفر لا يتبعض كالإيمان حتى يكون بعضه ناقصا وبعضه كاملا فإذا كفر المرء فقد خرج من دائرة الإسلام وانتهى أمره وإن كنت متأكدا أن الشيخ لم يقصد بهذا المعني لكنه يلزم منه.
فهو إذاَ كما لا يقال صدق الكفر، وإنما يقال مثلا صدق الإيمان إذ الكفر كفر ولو نافق فهو كفر وإنما ينبغي أن يقال كفر بواح أو كفر صريح و يقال أيضا كفر غير بواح وكفر غير صريح إذا لم يكن صريحا وفيه شبهة ولم يوف له الشروط أو لم تنتف منه الموانع إذاً مسألة التكفير خطيرة ليست هينة فليحذر منها.
لذلك جواب الشيخ محمد صديق رحمه الله وجيه ووارد لأنه إنما كره الواحدي – رحمه الله- أن يقال: حق ذلك حقاً أو بمعنى كفراً حقاً كما لا يقال كفر صدقا وإنما المقصود كفرا لا شك فيه، فلا غبار فيه حينئذ كما قاله الله سبحانه في كتابه الكريم أي تحقق منهم الكفر فهم كفار بالحقيقة التي لا لبس فيها.
أما لفظة {حَقًّا} إن بحثناها من حيث اللغة فيقول الفراء في معاني القرآن، وقوله مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ منصوب خارجا «1» من القدر لأنه نكرة والقدر معرفة.
وإن شئت كان خارجا «2» من قوله {مَتِّعُوهُنَّ} متاعا ومتعة.
فأمّا حَقًّا فإنه نصب من نية «3» الخبر لا أنه من نعت المتاع. وهو كقولك فِي الكلام: عَبْد اللَّه فِي الدار حقا. إنما نصب الحق من نية كلام المخبر كأنه قال: أخبركم خبرا حقا، وبذلك حقا وقبيح أن تجعله تابعا للمعرفات أو للنكرات لأن الحق والباطل لا يكونان فِي أنفس الاسماء إنما يأتي بالإخبار «4». من ذلك أن تقول: لي عليك المال حقا، وقبيح أن تقول: لي عليك المال الحق، أو: لي عليك مال حقّ، إلا أن تذهب به إلى أنه حق لي عليك، فتخرجه مخرج المال لا على مذهب الخبر.
وكل ما كان فِي القرآن مما فِيهِ من نكرات الحق أو معرفته أو ما كان فِي معنى الحق فوجه الكلام فِيهِ النصب مثل قوله {وَعْدَ الْحَقِّ} «5» و {وَعْدَ الصِّدْقِ} «6» ومثل قوله {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا} «7» هذا على تفسير الأوّل.
وأمّا قوله {هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} «8» فالنصب فِي الحق جائز يريد حقا، أي أخبركم أن ذلك حق. وإن شئت خفضت الحق، تجعله من صفة اللَّه تبارك وتعالى. وإن شئت رفعته فتجعله من صفة الولاية. وكذلك قوله {وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} «9» تجعله من صفة اللَّه عز وجل. ولو نصبت كان صوابا، ولو رفع على نية الاستئناف كان صوابا كما قال {الْحَقُّ مِنْ رَبِّك فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} «1» وأنت قائل إذا سمعت رجلا يحدث: [حقا أي] «2» قلت حقا، والحق، أي ذلك الحق. وأما قوله فِي ص: {قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} «3» فإن الفرّاء قد رفعت الأول ونصبته. وروى عن مجاهد وابن عَبَّاس أنهما رفعا الأول وقالا تفسيره: الحق مني، وأقول الحق فينصبان الثاني ب «أقول». ونصبهما جميعا كثير منهم فجعلوا الأول على معنى: والحقّ «4» {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} وينصب الثاني بوقوع القول عليه. وقوله {ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ} «5» رفعه حَمْزَةُ والكسائي، وجعلا الحق هُوَ اللَّه تبارك وتعالى لأنها فِي حرف عَبْد اللَّه «ذلك عيسى ابن مريم قَالَ اللَّه» كقولك: كلمة اللَّه، فيجعلون (قال) بمنزلة القول كما قَالُوا: العاب والعيب، وقد نصبه قوم يريدون: ذلك عِيسَى بْن مريم قولا حقا. أنظر (معاني القرآن للفراء (1/ 154- 155 ).
وسأتكلم إن شاء الله تعالى في المقال القادم سمات وعلامات يعرف به الحق ويميز به عن الباطل ومعاني أخرى تشتمل به كلمة الحق.
والله أعلم.
- التصنيف: