التابعى الجليل سعيد بن جبير: شهيد كلمة الحق
ممدوح إسماعيل
سعيد بن جبير الأسدي تابعي، كان تقياً وعالماً بالدين، درس العلم عن عبد الله بن عباس حبر الأمة وعن عبد الله بن عمر وعن السيدة عائشة أم المؤمنين في المدينة المنورة.
- التصنيفات: التصنيف العام - أخبار السلف الصالح -
قصة عظيمة فيها عبرة لمن يعتبر:
رفض سعيد بن جبير ظلم الحجاج فخرج عليه مع عبد الرحمن بن الأشعث ولم يكن الحجاج مبدلا لشرع الله، ولا مواليًا لليهود والنصارى، ولا مفرطا فى أراضى المسلمين، ولا تابعا للصليبين فى البيت الأبيض، بل كان تابعا لخليفة فى خلافة إسلامية تجاهد فى سبيل الله، انتصرت، وحققت فتوحات كثيرة وهزمت أعداء الله ونشرت العلم وأقامت دولة للإسلام.
ولكن الحجاج كان ظالما قاتلا أسرف فى ظلم الأبرياء وسفك الدماء المعصومة بغير حق، وكان هذا كافيا العالم التابعى الجليل سعيد بن جبير ليخرج على الحجاج ويرفض ظلمه ، فهذه مهمة العالم الربانى، أن يقوم لله بكلمة الحق أمام الطغاة والظالمين.
((إنه الإمام الحافظ المقرئ المفسر الشهيد، أبو محمد، ويقال: سعيد بن جبير الأسدي تابعي، كان تقياً وعالماً بالدين، درس العلم عن عبد الله بن عباس حبر الأمة وعن عبد الله بن عمر وعن السيدة عائشة أم المؤمنين في المدينة المنورة، روى له البخارى ومسلم وأبو دواد والترمذى وابن ماجة..)).
وعندما انهزم عبد الرحمن بن الأشعث ومن معه أمام الحجاج لم يتراجع سعيد أمام قوة عسكر ودبابات الحجاج، ولم يسارع بتقديم الولاء للحجاج تحقيقا للمصلحة ودرءا للمفسدة، ولم يظهر فى مؤتمر يُطالب الناس بتأييد الحجاج ويصرخ فى الناس أن لا يتحرّجوا من تأييد السفاح، ولم يقل للناس أن الحجاج له نهضة وفتوحات!!!
لم يفعل، لأن رسالته هى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وليس الأمر بالنفاق والنهى عن الثبات.
اختبأ سعيد بن جبير 10 سنوات فى مكة يتعبد إلى الله ويُعلّم أصحابه سرا حتى تم القبض عليه وقيّدوه وذهبوا به للحجاج فعلم أنه ميّت فاستعد لذلك بالعبادة وسهر الليل فى القيام والدعاء حتى وقف بين يدى الحجاج ودار هذا الحوار الذى سجّله التاريخ:
فقال: ما اسمك؟ (تحقيقات أمن الدولة)
قال: سعيد بن جبير؟
قال: أنت شقي بن كسير.
قال: بل أمي كانت أعلم باسمي منك، قال: شقيت أنت وشقيت أمك.
قال: الغيب يعلمه غيرك.
قال: لأبدلنّك بالدنيا نار تلظى.
قال: لو علمت أن ذلك بيدك لاتخذتك إلهًا. (ثبات وقوة فى الحق رغم أنه يعلم أحكام الإكراه، ولكنه العالم الربانى الذى لا يترخص بل يثبت حتى يكون منارة لغيره).
قال: فما قولك في محمد (صلى الله عليه وسلم)؟
قال: نبي الرحمة إمام الهدى.
قال: فما قولك في علي في الجنة هو أم في النار؟
قال: لو دخلتها فرأيت أهلها عرفت.
قال: فما قولك في الخلفاء؟
قال: لست عليهم بوكيل.
قال: فأيهم أعجب إليك؟
قال: أرضاهم لخالقي.
قال: فأيهم أرضى للخالق.
قال: علم ذلك عنده.
قال: أبيت أن تصدقني.
قال: إني لم أحب أن أكذبك.
قال: فما بالك لم تضحك.
قال: وكيف يضحك مخلوق خُلق من الطين، والطين تأكله النار؟
قال: فما بالنا نضحك؟
قال: لم تستو القلوب.
قال: ثم أمر الحجاج باللؤلؤ والياقوت والزبرجد وجمعه بن يدي سعيد. (عرض الفتن والمناصب والهدايا)
فقال: إن كنت جمعته لتفتدي به من فزع يوم القيامة فصالح، وإلا ففزعةٌ واحدة تذهل كل مرضعة عما أرضعت، ولا خير في شيء جُمع للدنيا إلا ما طاب وزكا.
ثم دعا الحجاج بالعود والناي فلما ضرب بالعود ونفخ في الناي بكى. (محاولة فتنته بالشهوات)
فقال الحجاج: ما يبكيك، هو اللهو؟
قال: بل هو الحزن أما النفخ فذكرني يوم نفخ الصور، وأما العود فشجرة قطعت من غير حق، وأما الأوتار فأمعاء شاة يبعث بها معك يوم القيامة.
فقال الحجاج: ويلك يا سعيد!
قال: الويل لمن زحزح عن الجنة وأدخل النار.
قال: اختر أي قتلة تريد أن أقتلك؟
قال: اختر لنفسك يا حجاج فوالله ما تقتلني قتلة إلا قتلتُك قتلة في الآخرة؟
قال: فتريد أن أعفو عنك؟ (عرض التراجع من كلمة الحق مقابل عفو الظالم وكان الحجاج مشهورا عنه أنه من يتراجع عن قوله أمامه يصفح عنه ولكن سعيد لم يفعل لأنها أمانة الله ثم رسول الله، فاصدع بما تؤمر)
قال: إن كان العفو فمن الله، وأما أنت فلا براءة لك ولا عذر؟
قال: اذهبوا به فاقتلوه.
فلما خرج من الباب ضحك فأُخبر الحجاج بذلك فأمر برده.
فقال: ما أضحكك؟
قال: عجبت من جرأتك على الله، وحلمه عنك فأمر بالنطع فبُسط فقال: اقتلوه.
فقال: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ}.
قال: شدوا به لغير القبلة.
قال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}.
قال: اكفوا وجهه للأرض.
قال: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ}.
قال: اذبحوه.
قال: إني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، خذها مني حتى تلقاني يوم القيامة، ثم دعا الله سعيدٌ وقال: اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي فذُبح على النطع.
(كان قتل سعيد بن جبير سَنة أربع وتسعين وكان يومئذ ابن تسع وأربعين سنة.)
قال عنه الإمامُ أحمد بن حنبل: لقد قتل سعيد بن جبير، وما على الأرض أحد إلا ومحتاج إلى علمه.
فلم يمضِ على مصرع سعيد بن جبير غير خمسة عشر يوماً، حتى حُمَّ الحجاج، واشتدت عليه وطأةُ المرض، فكان يغفو ساعة ويفيق أخرى، فإذا غفا غفوة، استيقظ مذعوراً، وهو يصيح: هذا سعيد بن جبير آخذٌ بخناقي، هذا سعيد بن جبير، يقول: فيمَ قتلتني؟ ثم يبكي، ويقول: مالي ولسعيد بن جبير، رُدّوا عني سعيد بن جبير.
فلما قضى نحبه، ووُرِي في ترابه، رآهم بعضهم في الحلم، فقال له: ما فعل الله بك فيمن قتلتهم يا حجاج؟
قال: قتلني اللهُ بكل امرئ قتلة واحدة، وقتلني بسعيد بن جبير سبعين قتلة.
{وَسَيَعْلَمْ الذين ظلموا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}.
وأخيرا، ظللت أبحث فلم أجد فى كتب التاريخ والعلم التى اطلعت عليها ولو في كتاب واحد فقط عالم من السلف الصالح ينتقد موقف سعيد بن جبير، (ثبات سعيد بن جبير ومواجهته للحجاج ثابتة فى كل كتب التاريخ بغض النظر عن بعض تفصيلات الاسناد فى الرواية)، واليوم يخرج المضلون اللابسون ثياب العلم زورا يمجدون فى الظالمين والطغاة!!، ولا يستحيون، ويعدون خيانة أمانة كلمة الحق فقه وذكاء!!!
كأنهم يقولون أن إمام الفقهاء والتابعين سعيد بن جبير لم يكن فقهيا ولا ذكيا، وأنهم أدركوا فقها لم يدركه!! ألا شاهت وجوه الخونة فى كل زمان ومكان.