رحم الله الروائي الكبير: أحمد خالد توفيق
محمد علي يوسف
استطاع د. أحمد تجاوز جزء مهم من أزمة الخطاب الإصلاحي المعاصر، أزمة تتمثل في الإصرار على عزل الخطاب الإصلاحي عن فهم حقيقة الجيل المتلقي وكيفية التعامل معه
- التصنيفات: التصنيف العام - الشعر والأدب -
استغربوا حزننا... أدهشتهم دمعاتنا... سخر بعضهم من صدمتنا...
لا عجب...
هم لم يعرفوه مثلنا...
لم يلتهموا في صباهم كل حرف كتبه ولم يعاينوا في شبابهم كل مبدأ غرسه ولم يعاصروا في نضوجهم كونه لم يبع تلك المباديء التي غرسها.
لذلك فهم ببساطة لا يدركون...
لا يدركون أسباب تلك الصدمة التي يشعر بها أبناء جيلي لفقده، لا يفهمون الفارق الذي صنعه العراب في هذا الجيل جيل الثمانينات، لا يصل إليهم ذلك الارتباط بين صبانا ومطلع شبابنا وبين هذا الرجل، وأخيرا لا يستوعبون أنه ظل حتى النهاية عند حسن ظننا في زمان تفنن فيه آخرون أن يتجاوزوا أسوأ ظنوننا إذ أدمنوا السقوط والتهاوى... بينما أبى هو..
ربما يفهمون ويدركون ويستوعبون لو عاينوا ما عايناه ويعايشوه كما عايشناه منذ عشرين عام تقريبا وتحديدا في منتصف التسعينيات صدرت أولى أعمال الدكتور #أحمد_خالد_توفيق الروائية وكانت باكورة سلسلة "ما وراء الطبيعة" الشهيرة صدرت أولى تلك الروايات صغيرة الحجم جديدة الأسلوب لتمثل بالنسبة لي ولكثير من أبناء جيلي نوعا من الصدمة!
ولقد كانت صدمة مبهرة..
صدمة في واقع روائي كانت روايات الدكتور نبيل فاروق وسلاسله البوليسية تسيطر على ساحة روايات الجيب الشبابية منذ الثمانينات حيث كان النموذج السائد فيها هو نموذج الضابط الوسيم الذي لا يهزم أبدا ولا يخطىء قط، الرائع على طول الخط، المتكامل لدرجة مذهلة (دائما مذهلة.. سرعته، جاذبيته، قوته، دائما مذهلة).
لكن ماذا لو قررت ألا أذهل؟!
ماذا لو قررت أنه من غير المنطقي وجود هذا الكم من الكمال في البشر؟!
ماذا لو قررت ألا أسلم دماغي؟!
ماذا لو قررت أن أقرر؟!
هنا لن يكون للرواية معنى ولا داعي إذا لمتابعة رجل المستحيل أو ملف المستقبل فالقرار قد تم اتخاذه مسبقا والرأي قد تمت سقياه لعقلك من خلال السطور وبين أحرف الكلمات.
أدهم صبري دوما مذهل ونور الدين محمود مثالي على طول الخط ومنى توفيق رائعة وفاتنة وقدري بدين للغاية وبدانته علامة طيبة قلبه المفرطة كما أنه أمهر الخلق في مهنته هو مثالي كالجميع، وهكذا اتخذ القرار عنك.
من أنت لتقرر أصلا؟!
من أنت لتكون لك عقلية نقدية تكون بها رأيا أو تقيِّم بها عملا؟
لذلك – في تقديري - نجح أحمد خالد توفيق في هز عرش من سبقوه في قلوب هذا الجيل ليس فقط على المستوى الأدبي ولا حبكة القصة ومستوى إثاريتها وبنائها الدرامي والمنطقي ولا لخفة دمه الظاهرة ودعاباته اللطيفة التي كانت تبعث ضحكات مجلجلة أثناء القراءة وذلك لعمري في الكتابة ليس بيسير ؛ لكن ثمة شيئا آخر كان المرء به يسعد وله قلبه يطرب...
إنه القرار... واحترامه
لقد صار القرار أخيرا في أيدينا نحن المراهقون البسطاء الذين يخطون أولى خطواتهم في دنيا الثقافة والفكر والأدب.
د.أحمد ببساطة تركنا نختار، واحترم اختيارنا... أعطانا مساحة لنقرر هل ستعجبنا القصة أم لا؟
هل سنتعامل مع البطل على أنه بشر نكره عاداته السيئة ونغضب لأخطائه المتكررة أم لن يسعنا إلا أن نحبه ونتعلق ببطولاته المبهرة وكماله المذهل الذي يكاد يبلغ حد العصمة؟
هل سنشفق على كهولته المتهالكة ونتعاطف مع أمراضه المزمنة وضعفه الإنساني أم سننبهر قصرا بروعته الدائمة ونعجب جبرا بمثاليته اللامعة؟
هل ستضحكنا إفيهاته الساخرة وتململه -من كل شىء حتى من نفسه أحيانا- أم سنضطر لتكلف الابتسام مجاملين سخريته النمطية؟
وهل سيكون هناك احتمال طبيعي للفشل كما هو حال الدنيا أم لابد من الانتصار الدائم والنجاح المستمر الذي لا يحويه إلا الخيال؟
كان هذا في رأيي منبع النجاح ومربط الفرس.
الأديب الناجح لا يتظاهر بالنجاح والأعمال المثالية لا تدعي المثالية لا تقرر نيابة عنك لا تزكي نفسها ولا تتكلف الثناء الضمني على أحداثها وتوجيهاتها، بل هي تنساب إلى عقلك دون أن تشعر وتتسلل إلى وجدانك وتسكن قلبك بهدوء ودون تكلف دون فوقية أبوية أو تعالٍ نخبوي.
الأديب والكاتب والمفكر ليسوا آلهة وكلامهم ليس مقدسا لأصدقه دائما وبشكل مباشر كما أصدق كلام الله ولله المثل الأعلى.
القرآن يقرر أن سيدنا إبراهيم قد وفَّى وأنه قد ابتُلي بكلمات فأتمهن وأنا أصدق ذلك، أصدقه لأن ربي الذي أؤمن بربوبيته وبأنه الحق وقوله الحق - هو من قال عنه ذلك فسمعا وطاعة وتصديقا وإقرارا وسلاما على إبراهيم؛ لكن الكاتب أو المفكر أو العالم المجتهد والواعظ الداعي ليسوا كذلك ولست مضطرا لقول آمين على كل رأي أو فكرة أو اجتهاد بشري يتفضلون به وليس علي أن أفترض المثالية الدائمة والكمال المطلق في أطروحاتهم.
من هذا المنطلق استطاع د. أحمد تجاوز جزء مهم من أزمة الخطاب الإصلاحي المعاصر، أزمة تتمثل في الإصرار على عزل الخطاب الإصلاحي عن فهم حقيقة الجيل المتلقي وكيفية التعامل معه، جيل صار الوعظ المباشر والتوجيه الأبوي الاستعلائي والبث النمطي التقليدي للأفكار والقيم من أقل الأمور تأثيرا فيه، جيل ثائر على كل شىء، ساخر سخرية مريرة من كل شىء متزعزع الثقة في كل شىء.
جل الآراء عنده سطحية وجل العاملين في نظره مقصرون وكل التحليلات جوفاء والمواعظ ركيكة هروبية وكل محاولة للحل مصيرها الفشل وكل نكتة قديمة وكل طرفة بايخة فقد رأى كل شىء وسمع كل النكات واطلع على كل الأخبار والأحداث واستطاع الوصول لأي معلومة بمجرد ضغطة زر أو تمرير إصبع على شاشة لوحية حساسة وتعود التكنولوجيا منذ نعومة أظفاره وشهد اندلاع ثورات وحراكات وصراعات وعاين سقوط حكام وخلع طغاة - هو جيل لم يعد ينبهر بسهولة، ولم يعد هينا أن تقنعه بشىء.
د. أحمد لم يفكر يوما في التعامل مع هذا الجيل بفوقية أو إملاء واستعلاء أو فرض رأي حتى آراءه نفسها وبعض كلماته كان ينتقدها ويسخر منها بقسوة ليعلمنا ضمنيا ذلك المبدأ البسيط، مبدأ أن الاختلاف ممكن، وأنك تستطيع أن تختلف معي إن شئت.
لذلك اختلفنا معه أحيانا، وظل الحب، وظل الاحترام، لم يتكلف الأبوية ورغم ذلك اعتبر أبا روحيا لكثير من أبناء هذا الجيل وأجيال بعده.
إن من أصر على ذلك الاستعلاء والفوقية وتكلف الأبوية لن يلبث إلا وترتطم رأسه بصخرة الواقع بعد أن يبح صوته ويكل قلمه دون تأثير يذكر وعندئذ هو وحده الملام لأنه ببساطة لم يتأمل اهتزاز عروش الوعاظ التقليديين والمفكرين النمطيين ولم يتعلم الدرس.
من أراد نشر فكرة الآن أو إثبات وجهة نظر فعليه أن يتعب نفسه قليلا عليه أن يفكر أن يبتكر، وأن يحسن قراءة الواقع واستقراءه... د. أحمد كان يحسن ذلك رغم قسوته أحيانا.
يوم أن قرأت رواية يوتوبيا لأول مرة عام 2009 اعترى قلبي حينها شعور قاتم ينازعه صوت خافت أن هذه صورة أدبية مبالغ فيها والدكتور أحمد زودها حبتين كيف يتصور أن يصل التمايز الاجتماعي والاقتصادي بين المصريين إلى درجة الفصل الكامل بين طبقة تعيش خلف أسوار الساحل الشمالي تتلذذ بكل أنواع النعيم الدنيوي وطبقة أخرى تحيا -إن صح أن تسمى تلك حياة - بشكل أدنى من حياة الكلاب الضالة التي تسعى على رزقها بين المزابل وأكوام القمامة حتى يصل بها البؤس إلى أن تصير فريسة يتسلى بها المتململون العابثون من أبناء الطبقة الأولى المنعزلة فتكون رياضتهم المفضلة الاستمتاع باصطياد أبناء الطبقة المسحوقة كما يصطادون الطيور في نوادي الصيد الفاخرة!
أقنعت نفسي في ذلك الحين أنها مبالغة أدبية ولا شك... انتصر صوت التفاؤل الخافت في صدري وبدد المشاعر القاتمة التي أورثتها الرواية إلى حين؛ لكن كل يوم كان يمر وكل واقعة حدثت و تحدث كانت تجعل تلك المشاعر تحاول الانتفاض من جديد وتشرئب بعنقها لتبدو عليها ابتسامة ساخرة مريرة تقول بوضوح قاسٍ: أكان العراب يبالغ حقا؟! أم أنه كان يحذر... ينذر... يشفق... يتوقع فيحسن التوقع.
وهذه التساؤلات كانت ببساطة تؤكد أنه لم يزل يحترمك يحترم عقلك المتلقي ولا يملي عليك رأيه أو يسقيك الإعجاب والإقرار والموافقة على توقعاته واستقراءاته جبرا هو كعادتك يتركك من جديد بعد أن استفز وعيك لتقرر لتختلف أو لتتفق
لكن الخيار لك، والاحترام لهذا الخيار.
وداعا أيها المحترم...
سنفتقدك كثيرا وإن كانت سطورك ستذكرنا بك...
إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا لفراقك يا د. أحمد لمحزونون، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، رحمك الله وغفر لك وجمعنا بك في جنته... يا رب هون... يا رب صبرنا
وفاة_دكتور_أحمد_خالد_توفيق