يغرق فرعون ويدخل الإسلاميون التيه!!
نقطة ضعفنا هو فقدان الوعي بالسياق العام الذي يتحرك فيه الأعداء (النظام الدولي)، وبالتالي تحديد ما واجب الوقت بشكلٍ صحيح،
اشتد إجرام فرعون وجنوده فعاقبهم الله بالغرق، أخرجهم ربهم من جناتٍ وعيون ونعمةٍ كانوا فيها فاكهين، وأورث أرضهم وديارهم وأموالهم قومًا آخرين، ثم عاقب بني إسرائيل بالتيه أربعين سنة بأنهم أعرضوا عن منهج الله واتباع رسل الله. فلم يكن عقاب فرعون بداية النعيم لبني إسرائيل، وإنما انتهاء عذاب وبداية عذابٍ من نوعٍ آخر.
والآن احتشد عامة الإسلاميين حول المشهد الانتخابي فرحين مسرورين بانصراف الناس عن فرعون وجنوده مستبشرين بأن النصر على الأبواب؛ والسؤال: ماذا لو رحل فرعون وجنوده؟!، أهو التمكين للمضطهدين، أم دخول في التيه؟!
التجربة التاريخية في العلوم الإنسانية كالتجربة المعملية في العلوم الطبيعية، ولذا من المفيد استدعاء التجارب التاريخية المماثلة لما نواجهه من أزمات اجتماعية، ندرس الحال في ضوء ما يشابهه مما مضى، وأريد أن القي الضوء على عددٍ من التجارب المعاصرة لأضع ما نحن فيه في سياقه الطبعي فأول خطوات العلاج هي التشخيص الصحيح:
في الحالة المصرية- والتجارب الأخرى قريبة منها مع اختلاف يسير في التفاصيل- أجهض عدد من الثورات كان التدين صلبها. أول هذه التجارب: نهضة الأمة في نهاية القرن الثامن عشر، تلك التي اجهضت على يد الفرنسيين. كانت نهضة في عددٍ من المجالات ثم تحولت لحالة من الرفض للمحتل، والأخطر في هذه التجربة هو تحول مسار النهضة إلى المسار الوطني العلماني (الدولة القومية) وتراجع التدين كمتغير وحيد في المشهد. فبعد انتهاء الحملة الفرنسية على يد الإنجليز نهض غير المتدينين وأخذوا بأسباب التغيير، وطبعًا ليس لنا أن نغفل دور العامل الخارجي الذي عاون محمد علي في المجال العسكري والمدني.
والتجربة الثانية كانت في صحوة علمية بدأت مع منتصف القرن التاسع عشر وانتهت بعد القضاء على الثورة الشعبية التي كأن آخر فصولها تمرد جزء من العسكر والأعراب والفلاحين بقيادة أحمد عرابي. كانت جذوة نار من بقايا النهضة السابقة، وأثمرت في المجال الأدبي تحديدًا، أخرجت جيلًا من الأدباء والكتاب(البارودي، أحمد شوقي، الرافعي، المنفلوطي، العقاد..) قضى على التخلف في هذا المجال.. وكاد هذا الجيل أن يعيد للأدب ما كان عليه في القرون الأولى إلا أنه حدث تحول في مسار هذه الصحوة بإدخال النصارى فيها وإدخال المناهج العلمانية الغربية على يد المتطلعين للغرب المنبهرين بهم أو الباحثين عن التميز ولو بالغريب القادم من عند الكافرين، فظهرت الأدوات العلمانية (البعثات العلمية في المجال الثقافي لا التقني، والصحافة، الرواية، المسرح، السينما...)، والقضايا العلمانية (حرية المرأة، الوطنية..)، على يد النصارى بداية ثم المتأثرين بالغرب من أبناء البعثات أو من قرأ منتوجات الغرب الثقافية؛ وزاحم هؤلاء النهضة النابعة من قلب الأمة، واستطاعوا تكوين تيار تغريبي في الأمة، وبدأت قضايا الغرب.. أفكار الغرب.. يتحدث بها مسلمون: قاسم أمين (تحرير المرأة)، عباس العقاد(الديوان والعبقريات وباقي إسلامياته)، طه حسين، علي عبد الرازق... والغريب أن عامة هؤلاء خرجوا من مدرسة "الإصلاح الديني" التي تزعمها الأفغاني ومحمد عبده. أراد محمد عبده أن يقيم سدًّا يمنع به الغرب من اجتياح حضارتنا فأقام جسرًا أكمل الغرب من عليه العبور إلى حصوننا الثقافية. تحول الإصلاح إلى تغريب.
بدأ التجديد الديني في إطار رد الفعل للموجة العلمانية الهادرة، ومن بقايا علماء الشام والحركة السلفية في نجد والأزهر الشريف، فكانت طلائع الصحوة الإسلامية على يد الشيخ رشيد رضا والشيخ طنطاوي جوهري والترجمة العملية لهما والتي تمثلت في حركة الإخوان المسلمين.
اعتمد رواد التجديد صيغة الحركات الإسلامية (الجماعات) والتي مثلت خصمًا وانحدارًا في مسيرة التجديد، فأصبحنا نسعى لإقامة جماعة بدل إقامة أمة؛ وكأن الوصول للأمة لابد أن يمر من خلال الجماعة. وربما كان هذا أكثر ما يستطاع وقتها، وربما كان السبب هو أننا لم نخرج من الأحداث ونحاول أن نمتلك رؤية كلية نستوضح فيها المسارات والسياقات العامة ونفهم الأهداف الكلية التي ينبغي علينا السعي لتحقيقها والإمكانات المتاحة ثم نضع الاستراتيجيات المناسبة، وخاصة أن قد سبقنا فشل عددٍ من تجارب النهوض في بداية القرن التاسع عشر ونهايته، والثورة العربية، وكانت كل تجربة تنتهي بعكس ما يرد أهلها. دخلنا في الفعل دون وعي كامل بالسياق؛ وربما لأننا لم نكن أصفياء.. كدر ماءنا الغرب..دخل بيننا بأدواته فوجه المخلصين وأفاد منهم.
ثم جاء الأستاذ سيد قطب-رحمه الله- يتحدث عن فئة مؤمنة تواجه الأمة بدل النهوض بها واستعادة ماضيها، كانت الفكرة تظن السوء بالأمة، أو هكذا تم فهمها وترجمتها عمليًا، إذ احتشدت الجماعات في سياق الحرب بالسلاح على الأمة، أو الاستعلاء عليها بالإيمان وتكفريها صراحةً أو ضمنًا،، أو نفاقها اجتماعيًا!!..
وكالمرة السابقة فقدنا الوعي بالسياق.. دخلنا في التفاصيل سريعًا.
وانقسمت الأمة إلى تيارين: علماني يمتلك أدوات الفعل ومدعوم من الخارج.. هذا الذي بدأ بعد رحيل الفرنسيين والتحق به النصارى في مجال الأدب والفنون ثم السياسة، والتحق به عامة المبتعثين للغرب والمتأثرين بالثقافة الغربية، وزاد قوة بعد ظهور التيارات اليسارية وانتشارها، ثم تمكن الدولة القومية من المجتمع، وخاصة بعد سيطرة العسكر على الدولة القومية؛ وتيار إسلامي صحوي يُدفع يومًا بعد يوم عن المجال العام.. عن قيادة الأمة إلى المجال الخاص، بل ويُزاحم في المجال الخاص بالتدين الرسمي (الأزهر والصوفية والدعاة الجدد ومتديني العلمانيين..).
أخذ العلمانيون بمبادرة النهضة، وظهر ما عرف بمشاريع التنمية في الأمة، واتجه الإسلاميين (للتربية والتنشئة على القيم الدينية)، وفشلت المشاريع التنموية في الأمة الإسلامية كلها بعد انتهاء الاستعمار الأوروبي للعالم الإسلامي وبدء مرحلة جديدة من الهيمنة العالمية على العالم الإسلامي من قبل الأمريكان.
ثم بدأت مرحلة جديدة من الصحوة الإسلامية في السبعينات تتمحور حول التدين الفردي، ولا تتحدث مطلقًا عن نهضة الأمة (حديث النهضة جاء متأخرًا ومن داخل المنظومة العلمانية، أو القادمين من المنظومة العلمانية، لا من الصحوة).
الخط العلماني قدم مشاريع تنموية للنهضة بالأمة(تقزم مفهوم الأمة ليطلق على الوطن)، وفي كل تجربة تعثر العلمانيون: تجربة محمد علي تعثرت وانكفأت وركبها الاحتلال، وتجارب ما بعد الاستقلال تعثرت كلها: الناصريون، والسادات، ومن بعد السادات، وما يحدث الآن لا يسير لنهضة ولا مجرد تصحيح اقتصادي. والمشهد العلماني يتحرك في اتجاه مزيدٍ من التبعية للقوى العالمية.. بقصدٍ أو بدون قصد.. تزحف عليه القوى العالمية وتتمكن منه وتستتبعه: عسكريًا، ثم سياسيًا، والآن ثقافيًا.. حتى صرنا جزءًا منهم.
ما ينبغي الوقوف عليه هو أنه يتم استدعاء الإسلاميين بعد كل تجربة تنموية علمانية متعثرة؛ يستدعيهم القادم في معركته مع المتعثر، ثم ينقض عليهم ويمزق صفهم؛ كما استدعاهم العسكر بعد ثورة يونيو 1952م، وكما استدعاهم السادات للقضاء على نفوذ الناصريين، وكما استدعى مبارك بعضهم في حربه مع بعضهم، وأحضروا لمشهد يناير 2011 لإحداث تحولات في اتجاه التمكين للقوى الدولية المهيمنة والتي تسعى لإعادة صياغة العالم فيما بعد انتهاء الحرب الباردة بما يحقق هيمنة المنتصر في الحرب الباردة.
نحن في التيه!
هذه هي الحقيقة الأبرز.
رأس مالنا هو المقاومة لا البناء!!
ونقطة ضعفنا هو فقدان الوعي بالسياق العام الذي يتحرك فيه الأعداء (النظام الدولي)، وبالتالي تحديد ما واجب الوقت بشكلٍ صحيح، والأمر يحتاج لدراسة تفصيلية للنظام الدولي وكيف يدار لا لعموميات لا تنفع في رسم أهداف واستراتيجيات صحيحة.
بقلم/ محمد جلال القصاص.
- التصنيف: