تحديد مصيرنا بأيدينا!
لا يتوهمن أحد أنه معدوم الحيلة وأن مصيره إلى الجنة أو إلى النار ليس بيده، بل هو بيدك تماما، وهذا يجب أن تؤمن به وإلا فأنت تقدح في عدل الله سبحانه وتعالى وفي رحمته!
كانَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في جنازَةٍ، فأخذَ شيئًا فجعلَ يَنْكُتُ بهِ الأرضَ، فقالَ: «ما منكمْ من أحدٍ، إلا وقدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ من النارِ ومقْعَدُهُ من الجنةِ». قالوا: يا رسولَ اللهِ، أفلا نَتَّكِلُ على كتَابِنَا ونَدَعُ العملَ؟ قالَ: «اعمَلوا فكلٌ مُيَسَّرٌ لمَا خُلِقَ لهُ، أمَّا من كانَ من أهلِ السعادةِ فَيُيَسَّرُ لعملِ أهلِ السعادَةِ، وأمَّا من كانَ من أهلِ الشقاءِ فَيُيَسَّرُ لعملِ أهلِ الشقاوَةِ. ثم قرأَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى}». الآية. الراوي: علي بن أبي طالب | المحدث: البخاري | المصدر: صحيح البخاري.
ظاهر الحديث أعلاه إذا قرِئ دون تدقيق - و/أو بافتقاد لحسن الظن بالله - قد يوهم بالجبر المحض، وأن كلا منا هو سائر إلى مصيره المحتوم المكتوب أزلا بلا فائدة للعمل لا إيجابًا ولا سلبًا، وذلك مثلما توهم السائلون (يا رسولَ اللهِ، أفلا نَتَّكِلُ على كتَابِنَا ونَدَعُ العملَ)، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يوافقهم على فهمهم هذا بل أمرهم بالعمل، وقال «اعمَلوا فكلٌ مُيَسَّرٌ لمَا خُلِقَ لهُ، أمَّا من كانَ من أهلِ السعادةِ فَيُيَسَّرُ لعملِ أهلِ السعادَةِ، وأمَّا من كانَ من أهلِ الشقاءِ فَيُيَسَّرُ لعملِ أهلِ الشقاوَةِ»، لكن على الرغم أنه أمرهم بالعمل إلا ان العبارة اللاحقة قد تصيب القارئ مرة أخرى بالحيرة «أمَّا من كانَ من أهلِ السعادةِ فَيُيَسَّرُ لعملِ أهلِ السعادَةِ، وأمَّا من كانَ من أهلِ الشقاءِ فَيُيَسَّرُ لعملِ أهلِ الشقاوَةِ»، فدعونا نتدبر الحديث لنجلو الغمام عنه!
1- في بدء الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما منكمْ من أحدٍ، إلا وقدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ من النارِ ومقْعَدُهُ من الجنةِ»، وقليل منَّا مَن قد يلاحظ أنه قال «مَقْعَدُهُ من النارِ ومقْعَدُهُ من الجنةِ» ولم يقل "مَقْعَدُهُ من النارِ أو مقْعَدُهُ من الجنةِ"، فمجيء "و" هنا وليس "أو" تدل أن المقعدين موجودان بالفعل!، فلكل منا مقعدان، أحدهما في الجنة والآخر في النار، ونحن من سنقرر لأي المقعدين نحن سائرون وإلى أيهما ينتهي المصير!
وهذا هو معنى «اعملوا، فكلٌ مُيَسَّرٌ لمَا خُلِقَ لهُ» فأنت قد خُلقت لكل من الاحتمالين، وأنت بعملك «اعملوا» من ستزيد نسبة خلقك للجنة ولا تزيد نسبة خلقك للنار حتى تدخل الجنة (*)! والعكس، فقد تزيد - أنت بعملك «اعملوا» - نسبة خلقك للنار، ولا تزيد نسبة خلقك للجنة، فتدخل النار، فالأمر ليس جبرا لا شأن لك فيه - كما قد يُتَوَهَم - بل الأمر تفاعلي، وعملك هو العامل المحدد، وذلك كما سيتبين في (2).
2- أن الآيات في نهاية الحديث هي التي تفسر العبارة التي قد تُشكَل على القارئين «أمَّا من كانَ من أهلِ السعادةِ فَيُيَسَّرُ لعملِ أهلِ السعادَةِ، وأمَّا من كانَ من أهلِ الشقاءِ فَيُيَسَّرُ لعملِ أهلِ الشقاوَةِ»، فالآيات الكريمات تنص: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ} [الليل 5-10].
أي أن التيسير لليسرى - أو التيسير للعسرى - هو مبني على فعلك أنت! {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ} ==> {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ}، {وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ} ==> {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ}، وبهذا نفهم معنى «أمَّا من كانَ من أهلِ السعادةِ» و «وأمَّا من كانَ من أهلِ الشقاءِ» فكونك من أهل السعادة أو من أهل الشقاء هو بالتحديد كونك ممن {أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ} أو ممن {بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ}، فأهليتك للسعادة تتقرر بإعطائك وتقواك وتصديقك بالحسنى، وأهليتك للشقاء تتقرر ببخلك واستغنائك وتكذيبك بالحسنى! وهذه سيترتب عليه أن ييسر لك الله عملك لمزيد من العطاء والتقوى والتصديق «فَيُيَسَّرُ لعملِ أهلِ السعادَةِ»، أو ييسر لك الله عملك لمزيد من البخل والاستغناء والتكذيب «فَيُيَسَّرُ لعملِ أهلِ الشقاوَةِ»! من الفأل الطيب للطاعة أنها تجلب الطاعة، ومن شؤم المعصية أنها تجلب المعصية! والحل الناجع لمن دخل في طريق المعاصي هو التوبة لأنها تقطع عليه هذه الحلقة المفرغة من المعاصي التي تتغذى بالمعاصي وتلد المعاصي، فالتوبة حينئذ هي قطع لهذه الحلقة المفرغة وهي بداية التوفيق مرة أخرى للطاعات وتيسيير الله إياها لك، وذلك لأن التوبة في ذاتها طاعة، لذا فإنها تجلب الطاعة في حلقة مفرغة طيبة تنضح بالخير وتسلمك في النهاية إلى الجنة بإذن الله.
الخلاصة:
1- لا يتوهمن أحدكم أنه معدوم الحيلة وأن مصيره إلى الجنة أو إلى النار ليس بيده، بل هو بيدك تماما، وهذا يجب أن تؤمن به وإلا فأنت تقدح في عدل الله سبحانه وتعالى وفي رحمته!
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«كلُّ أمتي يدخلون الجنةَ إلا من أبى» . قالوا: يا رسولَ اللهِ، ومن يأبى؟ قال: «من أطاعني دخل الجنةَ، ومن عصاني فقد أبى» الراوي: أبو هريرة | المحدث: البخاري | المصدر: صحيح البخاري.
2- فلنسارع إلى التوبة جميعا لأنها التي تقطع علينا الحلقة المفرغة من المعاصي التي تتغذى على المعاصي وتلد المعاصي وتبدأ الحلقة المفرغة الطيبة من الطاعات، ولتحذر كل الحذر أن تُسَوِّف التوبة، لأن المعصية تمرض القلب، والمعصية إثر المعصية قد تميت القلب - والعياذ بالله - وحينها قد لا يخطر لك خاطر التوبة من الأساس، فانتبه يرحمك الله.
(*) لا يتعارض هذا مع «لن يُدخِلَ أحدًا عملُهُ الجنَّةَ» في الحديث: «لن يُدخِلَ أحدًا عملُهُ الجنَّةَ» قالوا: ولا أنتَ يا رسولَ اللَّهِ؟ قالَ: «لا، ولا أنا، إلَّا أن يتغمَّدَنِيَ اللَّهُ بِفَضلٍ ورَحمةٍ، فسدِّدوا وقارِبوا، ولا يَتمَنَّيَنَّ أحدُكمُ الموتَ: إمَّا مُحسِنًا فلعلَّهُ أن يزدادَ خَيرًا، وإمَّا مُسيئًا فلعلَّهُ أن يَستَعتِبَ» الراوي: أبو هريرة | المحدث: البخاري | المصدر: صحيح البخاري.
وذلك أن معنى الحديث هو أن العمل الصالح هو سبيل الجنة لكنه ليس ثمنًا لها.
والله أعلم
- التصنيف: