الدعوة بالحكايات والغرائب.. ولو كانت مباحة!
أليس من المندوب أن يحرص الداعية على ما ينفع الناس مباشرة، ولا يشوش عليهم بالغث من القول والحكايات، وألا يُكثر عليهم بكلام ينسيهم المهم والأولى..
يظن بعض الدعاة والوعاظ والخطباء أن حديثهم لن يكون مسموعاً، ولن تنجذب إليه الآذان ويلامس القلوب إلا إذا أتوا بالغرائب ورووا الحكايات الوعظية العجيبة، لاعتبار أن الناس قد لا تتأثر بما تألفه من النصوص والآثار الصحيحة المشهورة. وهو تصور لا يبدو دقيقاً ولا يستند إلى ركن شديد أو منطق رشيد. فجوهر الوعظ والإرشاد يكمن في تلك النصوص التي يتعين على الداعية والواعظ أن يحسن تفسيرها وشرحها للناس بما يناسب عصرهم وفهمهم وطبيعة حياتهم من دون الاضطرار لجلب الغرائب والقصص المجهولة والخيالية في بعض الأحيان!
وإذا كان ذلك مقبولاً في عصور سابقة يفشو فيها العلم، وتكثر حلقات التدريس، وتزخر بالمدارس الشرعية المستقلة، وتفتح فيها المساجد للطلب والتحصيل، ويحتاج البعض أحياناً إلى ترقيق القلوب بهذه السبل من رواية الحكايات المؤثرة على مسامع البسطاء، أو الاسترواح بها في وقت لم يعرف وسائل كثيرة للاسترواح المشروع، على النحو المشهور في تراثنا وتاريخنا القديم؛ فإن هذا العصر ليس مقبولاً فيه ذلك، بما يتسم به من طغيان الجهل الشرعي لدى عامة الناس، وتعمد الكثير من البلدان تجفيف المنابع العلمية، وقصر المساجد على الصلوات، واتساع الفجوة بين الدعاة والخطباء من جهة وعامة الناس، واصطياد أصحاب الأفكار المريضة في الماء العكر بالتشكيك فيما وراء تلك الروايات المجهلة، والعبور بالتشكيك إلى أصل النصوص، والأدلة الشرعية ذاتها، وخلط الوعظ في جانبه الرقائقي والأحكام الشرعية بأدلتها القطعية الواضحة.
ومن المؤسف أن بعض الخطباء يسيء إلى مادته التي يقدمها للناس حين يلحق بها بعض الحكايات المجهولة والعجيبة، والتي تجعل الكثير يتساءلون: من أين أتى هذا الخطيب بغرائبه تلك؟ وكيف أصبح هذا الخطيب مصبّاً لجميع الحكايات والقصص الواقعية من دون الناس حتى صار أشبه بكتاب الدراما؟! ومن المزعج كذلك، أن يعمد كثير من البسطاء بدافع الدعوة والتوجيه في وسائل التواصل المختلفة، لاسيما مجموعات الواتساب إلى ترويج قصص خيالية يتعذر أحياناً وقوعها، فيما ديننا يحثنا على التثبت والتحرّي والبُعد عن القيل والقال.
إن طرقاً كهذه لا تقدم إلا أثراً سلبياً للوعظ، وابتعاداً متدرجاً عن النصوص الشرعية وبركة القرآن العظيم والسنة الصحيحة المطهرة، وهي تنأى بالوعظ عن معناه الحقيقي وجوهره، الذي إن كان يتوسع أحياناً في ذكر الضعيف ونحوه في فضائل الأعمال؛ فإنه لا يترك الحبل على غاربه على هذا النحو المَرَضي المشاهد، ذاك الذي لا يبتعد عن بركة التذكير بالقرآن والسنة وآثار السلف الصالح فحسب، لكنه أيضاً يفتح أبواباً من الشر على الخطباء والدعاة في زمن يستشري فيه النفاق، ويقف أعداء الدعوة والتدين بالمرصاد لكل داعية تصيداً لأي هفوة أو زلة، لسحب أثرها على كل الخطاب الديني الرشيد، واتهامه بترويج الأكاذيب ونسخ الحكايات الخيالية غير المعقولة، وتسفيه أصل الخطاب نفسه.
وإذا كان كبار الصحابة رضوان الله عليهم قد فطنوا إلى خطورة التحديث بما لا تدركه العقول في القرن الأول الأفضل، والذي كان الناس فيه أكثر ورعاً وتقبلاً وأجدر أن يتفاعلوا مع المواعظ والرقائق، وأقدر على تميّز الغثّ من السمين، والشغف بالعلم، إذا كانوا فطنوا لذلك فكرهوا أن ينقل الدعاة والوعاظ للناس ما لا تدركه العقول ولو كانت نصوصاً صحيحة لكن العقول ليست مهيأة لفهمها وإدراك معانيها؛ فقال ابن مسعود رضي الله عنه: "ما أنتَ بمحدثٍ قومًا حديثًا لا تبلُغُه عقولُهم، إلا كان لبعضِهم فتنةً" (صحيح مسلم [5])، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "حَدِّثوا الناسَ، بما يَعْرِفونَ أتُحِبُّونَ أنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسولُهُ" (صحيح البخاري [127])، إذا كان كلام الصحابيين الجليلين عن نصوص شرعية، أليس من باب أولى أن يترفع الخطباء والدعاة عن ذكر القصص العجيبة التي تخلو غالباً من سند أو تُروى بأسانيد ضعيفة جداً، وتخرج أحياناً عن المنطق والمقبول عقلاً، مما لا يزيد الخطاب إلا اهتزازاً وزعزعة للثقة بقائله؟! أليس من اللائق بهم أن يجتنبوا كثيراً منها مما يضعهم في دائرة الجدل والتشويه والترصد، ويبعد سامعيهم عن بركة النصوص القيّمة؟!
ثم أليس من المندوب أن يحرص الداعية على ما ينفع الناس مباشرة، ولا يشوش عليهم بالغث من القول والحكايات، وألا يُكثر عليهم بكلام ينسيهم المهم والأولى، ولا يضيف كثيراً لذواتهم وبنائهم الإيماني؟! إن حاجة الناس اليوم ملحة إلى تلقي خطاب رصين مركز يستهدف ترسيخ الإيمان وترقيق القلوب وشحذ الهمم وتحفيز النفوس للغاية الكبرى من خلقهم، عبادة الله سبحانه، من دون الانزلاق إلى هذا النوع من الخطاب الغثائي الهش الذي لا جذور له ولا أسانيد، ولا يستنير بنور الوحي، من آيات الله والحكمة.
- التصنيف:
- المصدر: