تجربة ثورة سوريا فى ضوء الهزائم الثورية والسياسية بعالمنا الإسلامى (المقال الأول)

منذ 2018-04-22

هكذا هي السياسة "عمل فعلي على الأرض" لكنهم أعطونا الشعارات والعنتريات الصوتية بينما سحقونا على أرض الواقع..

نجح الاحتلال الأوروبي ووارثه الأمريكي في إدخال الأمة الإسلامية في عالم افتراضى أسموه بـ"عالم السياسة" بينما هو عالم وهمي لا يمت للسياسة بصلة وعاش أغلب المسلمين في هذا العالم الافتراضى الوهمي منذ بواكير الاحتلال الأوروبى لأغلب الأقطار الإسلامية بالقرن التاسع عشر الميلادي وحتى بداية خمسينات القرن العشرين (باستثناء هبّة هنا أو انتفاضة هناك) وبِذَا بدا واضحا أن المسلمين دخلوا عصر السنوات الخداعات التي ذكرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما قال: «إِنَّهَا سَتَأْتِي عَلَى النَّاسِ سِنُونَ خَدَّاعَةٌ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ» قِيلَ: "وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ يَا رَسُولَ اللهِ" قَالَ: «السَّفِيهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ» وفي رواية: قَالَ سُرَيْجٌ: "وَيَنْظُرُ فِيهَا لِلرُّوَيْبِضَةِ" (أي نظر تعظيم وإكبار) (رواه أحمد وابن ماجه والحاكم وغيرهم وله عدة أسانيد وحسنه شعيب الأرناؤوط والألبانى وصحح أحد أسانيده الحاكم ووافقه الذهبى ، وقال العلامة أحمد شاكر بحديث رقم 7899 من المسند: إسناده حسن ومتنه صحيح).

وبنهاية أربعينات وبداية خمسينات القرن العشرين بدا أن المسلمين شارفوا على الإفاقة من أوهام عالم السياسة الافتراضي التي تاهوا بل غرقوا فيها لأكثر من قرن ونصف القرن فجاء الوارثان الغربيان الجديدان "الولايات المتحدة الأمريكية" و"الاتحاد السوفياتي" بأوهام جديدة أغرقوا فيها المسلمين ليتوهوا من جديد عن السبيل الصحيح للتحرر من الاحتلال وعملائه والنصر عليهم، ولنضرب أمثلة واقعية لتتضح الفكرة:

- أحد أبرز رموز النضال الثوري في مصر ضد الاحتلال البريطاني وربما هو أول المناضلين بمطلع القرن العشرين كان هو مصطفى كامل باشا فكيف ناضل ليحرر مصر من احتلال الانجليز وما هي أدواته النضالية الأكثر بروزا ووضوحا؟

لقد درس بكلية الحقوق كي يبارز الانجليز بالحجج القانونية كي يخرجهم من مصر وناضل عبر إصدار الصحف المعارضة للاحتلال داخل مصر والكتابة في الصحف الفرنسية في فرنسا لفضح الاحتلال الإنجليزى، ولم يكتف بهذا بل دأب على إلقاء خطب نارية بمؤتمرات وندوات جماهيرية في مصر وفرنسا ضد الاحتلال الإنجليزى الغاشم.

فهل أفلحت هذه الأدوات النضالية التي اعتمد عليها في إخراج الانجليز من مصر؟؟

بالطبع لم تفلح، بل إن العمل النضالي الأهم والأكثر تأثيرا في أرض الواقع الذي قام به مصطفى كامل وخليفته محمد فريد (رحمهما الله) وهو إنشاء الحزب الوطني وتنظيمه وإنشاء مدارس للتعليم وإنشاء نقابات عمالية لأول مرة بمصر هذه الأعمال لم تؤد إلى إخراج الانجليز من مصر لا عاجلا ولا آجلا.

- ولنتدبر مثالا آخر وهو سعد زغلول باشا الذي صنعوا زعامته لثورة مصر في 1919م وفاوضوه على الجلاء من مصر وإعلان استقلالها عن الانجليز، فسنجد أنّ الاستقلال كان صوريا وظل الانجليز يحتلون مصر ويديرون شئونها بالرغم من تصريح فبراير ودستور 1923 وكافة ألاعيبهم هذه التي كرّست "السنين الخداعة" الواردة في الحديث النبوي حيث «يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ»، وخلف النحاس باشا أستاذه سعد زغلول بنفس الأسلوب.

وسنجد نظراء لكل هذه الرموز المصرية بكل قطر إسلامي، حيث غسلوا أدمغة المسلمين ليعيشوا بأوهام النضال والسياسة رغم أن الأوربيين والأمريكيين لم يمارسوا السياسة بهذه الطريقة الخدّاعة فالسياسة عندهم جوهرها القوة والقدرة سواء اقتصادية أو علمية أو عسكرية وعندما اجتاح هتلر أوروبا كلها واحتل نصف أفريقيا وآسيا معتمدا على أكبر إنتاج للمدرعات والطائرات والغواصات فى التاريخ الحديث (فضلا عن ابتكاره لأسلحة جديدة ومبتكرة للغاية مثل الصواريخ) فلا تشرشل ولا ديجول ولاروزفلت ولا ستالين بارزوا هتلر بالخطب النارية والمقالات الصحفية والمؤتمرات الجماهيرية فقط بل تحركوا بالحديد والنار لهزيمة هتلر واليابان وإيطاليا وأصرّ روزفلت وتشرشل (فى مؤتمر الدار البيضاء بيناير 1943) على استسلام ألمانيا التام غير المشروط، وهكذا تُدار السياسة ويطلق النضال عند الأوروبيين والأمريكان وهكذا يحرّرون أوطانهم، لكنهم إذا أتوا لبلادنا أقنعونا بأهمية الشجب والاستنكار وإصدار البيانات وإعلان المواقف بوسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعى واليوتيوب وغيرها، ولو كان هتلر قد اكتفى بهذا لما احتل كل أوروبا وأغلب العالم ولو اكتفى الحلفاء (تشرشل وستالين وروزفلت وديجول) بهذا لما دحروا هتلر واليابان ولما هيمنوا على العالم منذئذ وحتى اليوم.

وأي عاقل يتدبر إدارة الأوربيين (والولايات المتحدة هي جزء من أوروبا حقيقة) للصراعات بأبعادها السياسية والاقتصادية والعسكرية سيعلم حقيقةَ وجوهر السياسة بعيدا عن أوهام العالم السياسى الافتراضي التي أغرقوا فيها عقول المسلمين وأسكروهم منها حتى الثمالة.

لقد بدأ الوعى ينتشر فى العالم الإسلامي مع نهايات الحرب العالمية الثانية ولذا خشيت أوروبا من صحوة العقل المسلم فجددوا أوهام العالم السياسي الافتراضي ليكسبوها رونقا زاهيا يسحر بصائر المسلمين ويزيدون تركيز خمر هذا العالم ليسكر من نبهتهم الصحوة وجعلت سكرهم صعبا وإن لم يصبح بعد مستحيلا، فكان تسويق وترويج الزعامات الجديدة بمصر وسوريا والعراق وليبيا وتونس والجزائر، ألا تريد العقول الثائرة طرد جنود الاحتلال؟.. حسنا فقد سحب الغرب قواته العسكرية ظاهرا وأبقى مندوبيه ذوي الملابس المدنية ليوجهوا الزعماء الجدد من  خلف ستار ويقروا لهم برفع الشعارات الثورية العنترية ضد أوروبا وأمريكا وإسرائيل والصهيونية العالمية والرأسمالية المستغلة ومقابل رفع هذه الشعارات سيطر الغرب بشكل كامل على الدول الأخرى الخائفة من هذه الشعارات كما قضموا أجزاء من الدول الثورية نفسها ففى بداية عصر "مصر الثورية" كانت سيناء وغزة والسودان جزء من مصر وبعصر الزعيم الخالد صاحب الصوت الإعلامي العالي والشعارات الملتهبة الرنانة اقتطعت غزة وسيناء والسودان من مصر وفقدت مصر احتياطها النقدى من سبائك الذهب وخرج الجنيه المصري من حزمة العملات الدولية المعترف بها لهذا السبب كما فقدت مصر أكثر من 80% من جيشها ومعداته الثقيلة من طائرات ومدرعات ومركبات بكارثة 1967.

هكذا هي السياسة "عمل فعلي على الأرض" لكنهم أعطونا الشعارات والعنتريات الصوتية بينما سحقونا على أرض الواقع، ونفس الشيء بشأن السياسة الداخلية ففى حين سعت الصحوة لتحقيق عزة وكرامة المواطن فقد أعطى الغرب للشعوب العربية عبر "الزعامات الخدّاعة الجديدة" شعارات العزة والكرامة العربية عبر "الظاهرة الصوتية الشعاراتية" بينما على أرض الواقع سحقت الديكتاتوريات الثورية العربية المواطن العربي سحقا ولعل أبلغ تشبيه لحال هذا المواطن هو قول الشاعر:

أخى هل سمعت أنين التراب

تدك حصاه جنود الخراب

تمزق أحشائه بالحراب

وتصفعه وهو صلب عنيد

ولكن مما يحزننا أنها بعدما سحقته ومرت عليه بحرابها فإنها تركته ممزقا منهكا ولم يكن لصلابته وعناده واقع مادي بل معنوي فقط.

وهكذا بعد زعامات البلاغة الخطابية والحجج القانونية (من أمثال مصطفى كامل وسعد زغلول) التي اقتنع الناس بعد نصف قرن أنها غير مناسبة وأنه لابد من العمل الفعلي على الأرض سياسيا وعسكريا ضد الاحتلال جاءت النسخة الجديدة من "السنين الخداعة" وهي نسخة صنعها الاحتلال أيضا بأن سارع بإبراز زعامات تبدو ثورية عسكرية قوية لكن بالكلام فقط دون أي فعل حقيقى يجسد هذا الكلام واقعا سياسيا واقتصاديا وعسكريا وعلميا وتكنولوجيا على الأرض وذلك كله فى إطار منظومة سياسية اقتصادية ثقافية عسكرية مناسبة لهذه النسخة من "السنين الخداعة".

وفي إطار هذا الواقع الذي يعرفه الكثيرون نفهم الخطاب "الشعاراتي الصوتي" الذي تتغنى به كافة الحركات السياسية العربية إسلامية وغير إسلامية، إذ صار الشجب والاستنكار وبيانات الوعيد والتهديد والمؤتمرات والمفاوضات لتضييع الوقت واهدار الجهد والحوارات الفارغة من أي مضمون كلها هي مفهوم العرب عن السياسة وهي بديل وحيد عن أي عمل حقيقى فعلي على الأرض حتى صارت الأجيال الحالية لا تعرف ما هو العمل الحقيقى المطلوب ولا يرون أن هناك عملا سوى الخطاب "الشعاراتي الملتهب" وصارت "الظاهرة الصوتية" هي رويبضة العصر حتى صار الساكت فى عُرف الأغلبية هو شخص عاطل عن العمل حتى لو كان يعمل بدأب في صمت عملا كالجبال.

وفى إطار هذا الواقع المؤلم نفهم تجربة ثورة سوريا ويجول الخاطر حولها، فإلى الحلقة القادمة إن شاء الله. 

عبد المنعم منيب

صحفي و كاتب إسلامي مصري

  • 15
  • 2
  • 2,696

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً