هل أتاك نبأ الهجرة
إن في دنيا الناس ذكريات لا يُمَلُّ حديثها، ولا تُسأم سيرتها، بل قد تحلو أو تعلو إذا أعيدت وتكررت، كما يحلو مذاق الشهد وهو يكرر، ومن الذكريات التي لا يُمَلُّ حديثها ولا تُسأم سيرتها: حياة محمد صلى الله عليه وسلم...
بسم الله الرحمن الرحيم..
الحمد لله مقدر المقدور، ومصرِّف الأيام والشهور، ومجري الأعوام والدهور، أحمده تعالى وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، إليه تصير الأمور، وهو العفو الغفور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تنفع صاحبها يوم يُبَعْثر ما في القبور، ويُحَصَّل ما في الصدور، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، النبي المجتبى، والحبيب المصطفى، والعبد الشكور، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما امتدت البحور، وتعاقب العشي والبكور، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم النشور، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
إن في دنيا الناس ذكريات لا يُمَلُّ حديثها، ولا تُسأم سيرتها، بل قد تحلو أو تعلو إذا أعيدت وتكررت، كما يحلو مذاق الشهد وهو يكرر، ومن الذكريات التي لا يُمَلُّ حديثها ولا تُسأم سيرتها: حياة محمد صلى الله عليه وسلم، إمام البشرية، وسيد ولد آدم، فهي من الذكريات الغوالي التي تتجدد آثارها وعظاتها كلما سلك المرء سبيله إلى الاعتبار والادكار.
والعبد المؤمن إذا غشي معالم سيرته صلى الله عليه وسلم فهو كعابد يغشى في مصلاه، ومن حسن حظ المؤمن أنه ما قلب سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم يومًا فأخطأ دمع العين مجراه، وفي أيام محمد صلى الله عليه وسلم الجليلة النبيلة أيام خوالد، ما تزال تتطوى على الأيام وتتألق في غرة الزمان، ولعل من أصدعها وأروعها يوم الهجرة الذي تهب علينا نسمات ذكراه في كل عام من أعوام الزمن، ومن شواهد عظم حادث الهجرة أنه يزداد بهاءً وسناءً كلما تناوله العرض والبحث، كالذهب الإبريز كلما عرضته على النار لتمحصه، ازداد إشراقًا وصفاءً.
وهجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم كانت فاتحة الأمل، وبارقة النصر، وطريقة العودة له ولأصحابه إلى مكة فاتحين ظافرين، كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص:85] أي: إلى مكة.
إننا هنا نعرض لمحات من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، في الوقت الذي يشهد فيه المسلمون نكبات وويلات تعصر قلوبهم، وتمزق صدورهم، وأمتهم وعقيدتهم وحرماتهم ومقدساتهم، تستصرخ ولا مجيب، وتطالب المسلمين بتضحيات وفداء وبذل.
والهجرة النبوية تعطينا في هذا المجال قدوة وأسوة، ففيها تتجلى دروس ودروس من التضحية والفداء والبذل، فهذا رأس الأمة وإمام الملة صلوات الله وسلامه عليه يتحمل العبء الثقيل في سبيل الدعوة إلى الله، وإعلاء كلمته، ويشتاط المجرمون من أعدائه في مقاومته، والتطاول عليه بالسخرية والاستهزاء، ثم بالكذب والافتراء، ثم بحيلة الوعد والإغراء، ثم بتسليط الغوغاء والسفهاء، ثم بالتآمر الدنيء ينتهي إلى الإجماع على اغتياله بلا ارعواء قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]، وهل ينسى المرء في خضم هذه الأحداث الملتهبة، والمشاعر التي تستجيش نزول الدمع من المقل، موقف أبي سلمة وزوجه في الهجرة، وكيف لها ذلك مع صبرها على فراق زوجها سنة حتى أكرمها الله وجمعها به.
فأقرأ القصة على لسانها، لا تملك إلا الدموع تعبر عما يكون في النفس.
"لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل لي بعيره، ثم حَمَلني عليه، وحمل معي ابني سلمة بن أبي سلمة في حجري، فلما رأته رجال بني المغيرة، قاموا إليه: فنـزعوا خطام البعير من يده فأخذوني منه، وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد، رهط أبي سلمة، فقالوا: لا والله، لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموه من صاحبنا، قالت: فتجاذبوا بُنَىَّ سلمة بينهم حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبد الأسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة، قالت: فَفُرِّق بيني وبين زوجي وبين ابني، قالت: فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطح، فما أزال أبكي حتى أمسي سنةً أو قريباً منها، حتى مر بي رجل من بني عمي، فرأى ما بي فرحمني، فقال لبني المغيرة: ألا تُخرجون هذه المسكينة فَرَّقْتُم بينها وبين زوجها وبين ولدها؟ قالت: فقالوا: الحقي بزوجك إن شئت، قالت: وَرَدَّ بنو عبد الأسد إليَّ عند ذلك ابني، ثم تقول أم سلمة: فارتحلتُ بعيري، ثم أخذت ابني فوضعته في حجري، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة..
قالت: وما معي أحد من خلق الله، قالت: فقلت: أَتَبَلَّغُ بمن لقيت حتى أَقْدِمُ على زوجي، حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، فقال لي: إلى أين يا بنت أبي أمية؟ قالت: فقلت: أريد زوجي بالمدينة، قال: أو ما معك أحد؟ قالت: فقلت: لا والله، إلا الله وبُنَيَّ هذا، قال: والله ما لك من مترك، فأخذ بخطام البعير، فانطلق معي يهوي بي، فوالله ما صحبت رجلاً من العرب قط أرى أنه أكرم منه، كان إذا بلغ المنـزل أناخ بي، ثم استأخر عني، حتى إذا نزلت استأخر ببعيري، فحط عنه، ثم قيده في الشجرة، ثم تنحى عني إلى شجرة، فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فقدمه فرحله، ثم استأخر عني، وقال: اركبي، فإذا ركبت واستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه، فقاده، حتى ينـزل بي، فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء، قال: زوجك في هذه القرية؟ وكان أبو سلمة بها نازلاً، فادخليها على بركة الله، ثم انصرف راجعًا إلى مكة،فكانت تقول: والله ما أعلم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة، وما رأيت صاحبًا قط كان أكرم من عثمان بن طلحة".
ثم تجيل نظرك، فإذا أنت بصهيب قد أزمع الهجرة للحاق برسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يسعه أن يبقى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجهز له كفار قريش فرقة مراقبة تتابعه، لئلا يذهب بماله، وفي ذات ليلة أكثر من خروجه للخلاء للتعمية والتغطية عليهم، فما يلبث أن يعود من الخلاء حتى يخرج مرة أخرى، وهم يراقبونه حتى قال قائلهم: لقد شغلته اللات والعزى ببطنه، فقروا عينًا الليلة، أسلموا أعينهم للكَرَى مطمئنين، فتسلل صهيب من بينهم، ولم يمضِ غير قليل حتى فطن له أولئك، فهبوا مذعورين قلقين فزعين خائفين، وامتطوا الخيل، وأطلقوا أعنتها خلفه حتى أدركوه، ولما أحس بهم رضي الله عنه وأرضاه وقف على مكان عال وأخرج سهامه من كنانته، وهم يعرفون صهيبًا وبرى قوسه، وقال: "يا معشر قريش! تعلمون أني من أرمى الناس، والله، لا تصلون إليَّ حتى أقتل بكل سهم منكم رجلاً، ثم أضربكم بسيفي ما بقي منه بيدي شيء".
فقال قائلهم: "والله، لا ندعك تفوز بنفسك ومالك، لقد أتيتنا صعلوكاً فقيرًا، فاغتنيت وبلغت ما بلغت، ثم تذهب به، كلا واللات"، قال: "أرأيتم إن تركت لكم مالي أتخلون سبيلي؟، قالوا: نعم"، فدلَّهم على موضع ماله، وأطلقوا سراحه، فانطلق فارًّا بدينه غير آسف على مالٍ أنفق زهرة العمر في تحصيله، يستفزُّه ويحدوه الشوق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بلغ قباء رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهشَّ له وبشَّ وقال: «رَبِحَ البَيْعُ أبَا يَحْيَى، رَبِحَ البَيْعُ أبَا يَحْيَى، رَبِحَ البَيْعُ أبَا يَحْيَى» والله، لا الدنيا وشهواتها وزخارفها ولذائذها ومتعها لا تساوي « رَبِحَ البَيْعُ أبَا يَحْيَى»، علت الفرحة وجه صهيب، وحقًّا - والله- ربح البيع: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207].
وأين أنت من علي ذلكم البطل الصغير الفدائي الذي نام في فراش المصطفى فأدى الأمانات التي كلفه النبي بتأديتها، حتى لا يكون للمشركين يدٌ عند النبي صلى الله عليه وسلم، ثم انظر معي بتأمل إلى قرار قريش الظالم وخروجهم بشباب القبائل لقتل المصطفى صلى الله عليه وسلم.
فلما ضاقت قريش بمحمَّد صلى الله عليه وسلَّم وبِكَلِمةِ الحقِّ التي يدعو إليْها، ائتمرتْ به، وقرَّرت أن تتخلَّص منه، فأطلَعَهُ الله على ما يمكرون ويأتمِرون، وأوحى له بالخروج، فخرج ومعه الصِّدِّيق، وأُسقِطَ في أيدي المشركين، فأعلنوا الجائزة العُظمى لمن يأتي برسول الهدى صلَّى الله عليه وسلَّم حيًّا أو ميِّتًا، وأمر رسول الله أصحابه أن يتجهزوا ويخرجوا بالذراري والأطفال ويسيروا بهم إلى المدينة، خاف المشركون خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ولحوقه بهم، فاشتد عليهم أمره ولم يبق بـمكة من المسلمين إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعلي رضي الله عنهما، ومن اعتقله المشركون كرهًا، فلما كانت ليلة همَّ المشركون بالفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءه جبريل بالوحي من عند ربه تبارك وتعالى فأخبره بذلك، وأمره ألا ينام في مضجعه تلك الليلة..
وكان أبو بكر يرجو أن يأذن الله لرسوله بالهجرة فيكون صاحبه ورفيقه فيها، ويتعجل ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: «لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبًا»، فقام بإعداد الرواحل، وقام يعلفها من ورق الثمر استعدادًا للهجرة، وكان من عادة المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يأتي بيت أبي بكر كل يوم مرتين بكرة وعشيًّا، قالت عائشة رضي الله عنها: «وبينما نحن جلوسٌ يومًا في نحر الظهيرة، وإذ برسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعًا في ساعة لم يكن يأتينا فيها أبدًا، فيقول أبو بكر: فداءً له أبي وأمي ما جاء إلا لأمر، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس على سرير أبي بكر وقال: اخْرِج من عندك يا أبا بكر، قال: إنما هم أهلك بأبي أنت وأمي يا رسول الله، قال: إنِّي قَدْ أُذِنَ لِي بِالخُرُوجِ، قال أبو بكر وهو يبكي من الفرح: الصحبة يا رسول الله، قال: الصحبة يا أبا بكر قالت عائشة: والله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحداً يبكي من الفرح، حتى رأيت أبي يبكي يومئذٍ من الفرح» [أخرجه البخاري].
يا لله! هل يبكي فرحًا بمنصب؟! هل يبكي فرحًا بمال؟! بجاه؟! بوظيفة؟!،
لا والله الذي لا إله إلا هو إنه ليعلم أن السيوف تنتظره، وأن القلوب الحاقدة تتلهف للقبض عليه، وأن الجوائز العظيمة تعلن للقبض عليه وعلى صاحبه، لكن أنَّى لهم ذلك وهو وصاحبه في معية الله، وينطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر، فخرجا من خوخة في داره ليلاً، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم و أبو بكر إلى غار ثور فدخلاه، وظَلَّ فيه ثلاثة أيام وجدت قريش في طلبهما، وأخذوا معهم القافلة حتى انتهوا إلى باب الغار فوقفوا عليه، بعيدًا عن أعين المشركين، واستنفر أبو بكر جميع أفراد أسرته لخدمة الرسالة، وجهز جميع إمكاناته لخدمة المصطفى صلى الله عليه وسلم ثم مضى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، تاركًا الأهل والعشيرة والأولاد والخلان والأصحاب يريد وجه الله والدار الآخرة.
ويُلقِي رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر نظرة على البيت الحرام، نظرة حزن قائلاً كما روى الإمام أحمد والترمذي وصححاه: «واللهِ إنَّكِ لَأحَبُّ أرْضِ اللهِ إلَيَّ، وإنَّكِ لَأحَبُّ أرْضِ اللهِ إلَى اللهِ، ولَوْلاَ أنَّ أهْلَكِ أخْرَجُونِي مِنْكِ مَا خَرَجْتُ» دموعه صلى الله عليه وسلم تهرق على وجنتيه، يُعلم للعالم أجمع أن وطن الداعية حيث مصلحة دعوته، فإذا كانت المصلحة في الهجرة، فتهجر الأوطان، وليُهجر الإخوان، وجميع من تحب، ما دامت تتعارض مع مصلحة الدعوة إلى الله.
وفي الطريق إلى الغار - كما في الدلائل للبيهقي - يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي بكر عجبًا، يسير أمامه مرة وخلفه مرة، وعن يمينه مرة وعن شماله مرة، فيسأله النبي صلى الله عليه وسلم « لم هذا الفعل؟» فيقول: « يا رسول الله أذكر الطلب فأمشي خلفك، وأتذكر الرصد فأمشي أمامك، وعن يمينك وعن شمالك لا آمن عليك»، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: « يا أبا بكر، لو كان شيء لأحببت أن يكون بك دوني؟»، قال: « نعم والذي بعثك بالحق، إن قُتلت أنا فإنما أنا رجل واحد، وإن قُتلت أنت هلكت الأمة كلها»، وهكذا ينبغي أن يكون المؤمنون يفدونه بجميع ما يملكون.
ويصلان إلى الغار، وينزل الصديق الغار قبل رسول الله صلى عليه وسلم يستبرئه، وينظفه من أي أذى، فيقع عليه دون المصطفى صلى الله عليه وسلم، ثم ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتوسد وينام قرير العين وهو الطريد الشريد، لأنه واثق بنصر الله سبحانه وتعالى، وهنا تبدأ أسرة أبي بكر بأعظم دور في التاريخ، فها هي أسماء وعائشة، شابة وطفلة في بيت أبي بكر تقومان بما يعجز عنه نساء المسلمين اليوم، لماذا؟ لأنهما تربين على لا إله إلا الله فكانت لهم منهج حياة.
يأتي أبو جهل إلى أسماء فيقول: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ فتقول: لا أدري، بعزة المؤمنة، فيرفع يده فيلطم خدها لطمة طرح منها قرطها من أذنها - لطمه الله بنار تلظى - ولم تخبره رغم ذلك، وتثبت ثبات الرجال الأقوياء، ولم يغنها ذلك عن القيام بدورها مع أختها عائشة تلكم الطفلة التي لم تبلغ الثمان سنوات في تلك اللحظة، قامت أسماء تجهز الطعام وتشق نطاقها لتربط الطعام فتلقب بذات النطاقين، وتربط الطعام وتذهب به إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم لتوصله إليه وإلى أبيها هناك.
أما عبد الله بن أبي بكر أخو أسماء ذلكم الشاب، فكان يأخذ أخبار قريش في النهار، وكان فطنًا ذكيًّا لبقًا، وفي الليل يوصلها إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم وإلى أبيه، فهو الإعلامي الصادق الأمين الذي تفتقر إليه الأمة في عصرها الحاضر.
أما راعي أبو بكر وهو عامر رضي الله عنه وأرضاه فلقد كان يمر بغنمه على المصطفى صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ليخفي آثار أسماء و عبد الله، ويسقي النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر من لبن الغنم كل ليلة يفعل ذلك.
إنَّ الهجرة، أيها الكرام، أشبه بعملية احتشاد، ومرحلة استنفار، وقاعدة حماية، أخذ فيها المصطفى صلى الله عليه وسلم بكل الأسباب، متوكلاً على ربه، قبل أن يُعلن النفير، وتدق ساعة الصفر كما يقال، ولا غرور، فهو القائل صلى الله عليه وسلم كما روى أبو داود بإسناد حسن: « إذَا خَرَجَ ثَلاَثَةٌ فِي سَفَرٍ فلْيُؤْمِرُوا أحَدَهُمْ».
ولا زال النبي صلى الله عليه وسلم، ووصل المشركون إلى الغار، واشتدَّ البحث على رسول الله وصاحبه، وتفرَّقَت العُيون في الدُّروب، وفي الجبال، وفي الكهوف، اقتُفِيَت الآثار حتَّى أحاطوا برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وصاحبِه في الغار، أصبحا منهم رأْي العين، وأزاغ الله منهم الأبصار، حزِن أبو بكر رضي الله عنه حزنًا شديدًا على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، لا على نفسه، فما كان يعيش لنفسِه، فقال: «يا رسول الله، لو أنَّ أحدهم نظَر إلى قدمَيْه لرآنا»، فقال وهو في جوْف الجبل أشدَّ ثباتًا من ذلك الجبل، في ثقةٍ بالله جلَّ جلاله: « يا أبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ باثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا، لاَ تَحْزَنْ إنَّ اللهََ مَعَنَا»، «لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لرآنا، فيقول صلى الله عليه وسلم: ما ظنك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا» واللهِ الَّذي لا إله إلا هو، لَوْ سارتْ مع قُرَيْشٍ كلُّ الأحْياء، وتشقَّقت القبور فخرج الأموات يسحبون أكفانَهم خلْف قريش، يقلبون حجارة الأرض، ويُزحزِحون جبالَها، ويُفتِّشون فِجاجَها، ما قدروا على اثنيْن، اللهُ ثالثُهما ، لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في حالة من الأمن والطمأنينة لم يصل إليها بشر في الأرض، وهو يرى نفسه بين عدوه لا يحول بينهما إلا التفاتة واحدة، لماذا؟ لأنه واثق بنصر الله، ومن كان الله معه فمن يخاف؟! {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]،
قال عمر: "والله لَلَيْلَةٌ من أبي بكر خير من آل عمر" يقصد ليلة الغار.
والمتأمل لهذه الحادثة يرى أن الذين اختارهم الله لهذا السبق جميعهم من الشباب إلا كهلا واحدا هو أبو بكر ، فينادى بلسان الحال إن سواعد الشباب تتكاتف مع عقول الشيوخ فيصير بعد ذلك في أمة الإسلام جيلا كاملاً متكاملاً يرضى بالبذل، ويضحي في سبيل دعوته، لا تعوقه أزمات، ومن الأخطاء تصور الشباب قدرة جسد وفناء غريزة، إن الشباب توثب روح واستنارة فكر، وطفرة أمل وصلابة عزيمة، فأين شبابنا من هؤلاء الشباب في هذا الزمان؟!
ولما يئس المشركون من الظفر بهما جعلوا لمن جاء بهم دية كل واحد منهما، فجد الناس في الطلب، فلما مروا بـحي مدلج بصر بهم سراقة بن مالك فركب جواده وسار في طلبهم، فلما قرب منهم سمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فساخت يدا فرسه في الأرض، ثم قال سراقة: «ادع الله لي ولكما علي أن أرد الناس عنكما»، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلق، ورجع يقول للناس: «قد كفيتكم ما هاهنا».
ومرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره ذلك بخيمة أم معبد فقالا عندها - نام نوم القيلولة - ورأت من آيات نبوته في الشاة وحلبها لبنًا كثيرًا في سنة مجدبة ما بهر العقول صلوات الله وسلامه عليه.
ويصل رسول الله إلى المدينة وبلغ الأنصار مخرجه صلى الله عليه وسلم من مكة وقصده المدينة، فتُجسد الأنصار أروع أنواع المحبة في أبهى صورها في استقباله عند هجرته إليهم صلوات الله وسلامه عليه.
قال ابن القيم رحمه الله واصفًا هذه المشاعر النبيلة: «وبلغ الأنصار مخرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من مكة، وقصده المدينة، وكانوا يخرجون كل يوم إلى الحرة ينتظرونه أول النهار، فإذا اشتد حر الشمس، رجعوا على عادتهم إلى منازلهم، فلما كان يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الأول على رأس ثلاث عشرة سنة من النبوة، خرجوا على عادتهم، فلما حمي حر الشمس رجعوا، وصعد رجلٌ من اليهود على أطم من آطام المدينة لبعض شأنه فرأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه، مُبيَّضين، يزول بهم السراب، فصرخ بأعلى صوته: يا بني قيلة، هذا صاحبكم قد جاء، هذا جدكم الذي تنتظرونه، فبادر الأنصار إلى السلاح ليتلقوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وسُمعت الرجة والتكبير في بني عمرو بن عوف، وكبَّر المسلمون فرحًا بقدومه، وخرجوا للقائه، فتلقوه وحيوه بتحية النبوة، فأحدقوا به مُطيفين حوله، والسكينة تغشاه، والوحي ينزل عليه: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } [التحريم:4]» [زاد المعاد 3/52].
إنها لحظات يتمني كل مسلم أن يعيشها وأن يسكُبَ شيئًا من الدموع فرحًا بها، الموكب يتحرك ببطء, الطريق قد ازدحم بسيل الدموع وابتسامات الأطفال ولفتات الجموع،وسار على القصواء يُرخي زمامها، كلما مَرَّ بدارٍ من دور الأنصار امسكوا بزمام الناقة لينزل عليهم وهو يقول: « دعوها فإنها مأمورة »، وعلى الطرق وفي البيوت لا تكاد تسمع إلا الله أكبر جاء رسولُ الله, الموكب يتهادى بين القلوب والبيوت، الأطفال يركضون، يقفزون، يهتفون، وببراءة العيون في خلل الزحام عن صاحب الناقة يبحثون وبلغتهم يُعبِّرون, فيهم أنسٌ رضي الله عنه يصفُ ذلك بحروف تنبض بالمشاعر فيقول: «إني لأسعى في الغلمان وهم يقولون جاء محمَّدٌ رسول الله فلا أرى شيئًا وأسعى ولا أري شيئًا حتى جاء فخرج أهل المدينة حتى إن العواتق فوق البيوت يترائينه فما رأين منظرًا شبيهًا به يومئذ والله لقد أضاء من المدينة كلُّ شيء, ولم يُرَ في تاريخها من حفاوة تعادلها حفاوة».
أنسٌ رضي الله عنه لم يزل الطفل الذي لا يهدأ طافَ المدينة ينظر وينقل فيذكر بعد أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بحيٍ من بني النجار وجويرياتٌ يُنشدن:
نحنُ جوارٍ من بني النَّجارِ *** يـا حبذا محمَّدٌ من جارِ
فيقول صلى الله عليه وسلم: « اللهُ يَعْلَمُ أنَّ قَلْبِي يُحِبُّكُنَّ», يا له من نبي ما أعظمه ما أرقَّ مشاعره يعلن حُبَّهُ للصغير والكبير في البيوت وعلي الطرقات بل ويُعلن حبه حتى للجبال يمرُّ بعد من عند أحد فيقول: « هذا أحُد جَبَلٌ يُحِبُّنَا ونُحِبُّهُ ».
وما زال الموكب يسير وأمام بيت أبي أيوب بركت الناقة, نزل صلى الله عليه وسلم عن ناقته ازدحم عليه أنصاره كلٌ يعرض عليه النزول ويتسلَّلُ أبو أيوب رضي الله عنه فيأخذ رحل النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته وهم في خضم ذلك قال صلى الله عليه وسلم: « أين رحلي؟ »، قال أبو أيوب « هو عندي»، قال: « المرء مع رحله هيئ لنا مقيلاً »، وقد هيأه، حلَّ في دارِ أبي أيوب، وقلب أبي أيوب، المدينة كلها تغبطه، تعرف الشَّرف الذي حلَّ بين جدران منزله، أي والله، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل في سُفل الدار عن رغبة منه أما أبو أيوب فبرغم شدة فرحه برسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان في حرجٍ عظيم لو رأيته وهو يسير في منزله لأشفقت عليه لا يتحرك إلا في مساحة ضيقة من عُلية بيته لا يتعداها في حسٍ مرهف وإيمانٍ عميق يخاطب نفسه ويقول: « ويحك أبا أيوب أتعلو رسول الله صلى الله عليه وسلم», وأصبح فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: « لا تكون تحتنا بأبي أنت وأمي ونفسي يا رسول الله», فقال صلى الله عليه وسلم: «يا أبا أيوب السفلُ أرفق بنا يغشاني أصحابي »، فقال أبو أيوب: « والله لا أعلو سقيفةً أنت تحتها يا رسول الله », فتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرَّت أعينُ أبي أيوب رضي الله عنه وأرضاه.
يقول الشاعر:
خلقٌ كما خطر النَّسِيمُ *** فهَزَّ أعْطافَ النَّبَاتِ
وشمائلٌ علويةٌ أصفـى *** من الماءِ الفـراتِ
لقد أحبوه حبًّا ملك عليهم مشاعرهم وخالط دمائهم وحلَّ في سويدائهم، رضوان الله عليهم.
فأين نحن من هؤلاء الأصحاب، هل امتلأت القلوب حبًّا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نقدم قولا بين قوله، ولا فعلا على فعله، أم محبته والاعتراف بالإقتداء بهديه شقشقت اللسان فقط، من أحب رسول الله بذل الغالي والنفيس كالصحابة الكرام، وسخر جهده، وقلمه، وبنيه، وماله، للدفاع عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم كما فعل أبو بكر، ولكن أين نحن من أبي بكر؟!!.
إننا أمة رسالة ولا شك، وحين نتخلى عنها تتنزل بنا المحن والمصائب والنكبات، ورسالة أمتنا في الحياة هي الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ على المنهج الصحيح الصادق، والله عزَّ وجلَّ قد جعل وظيفة الأنبياء هي الدعوة إلى الله، ونحن أمناء الله على رسالته، ونحن مستخلفون لتبليغ منهج الله، ونحن مكلفون بقيادة البشرية وفي ظل عدالتنا يُعبد الله، وفي ظلِّ حضارتنا يُكرم الإنسان في أرض الله، وكل وضع يجعل قيادة البشرية لغير الأمة المسلمة فهو وضع نشاز طارئ تضج منه الأرض والسماء، ويأثم المسلمون حتى يعيدوا القيادة لهم: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } [آل عمران:11].
ألست من أتباع محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؟!
ألست ترضى بالسير على خطى محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؟!، إن كنت كذلك فلابد لك أن يكون لك من دعوته نصيب { عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108].
اللهم انصر دينك، وأعلى كلمتك، وأرفع رايتك على العالمي، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم وكما آمنا بنبينا صلى الله عليه وسلم ولم نره، فلا تفرق بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله، واحشرنا في زمرته، واسقنا من حوضه شربة لا نظمأ بعدها أبدًا.
- التصنيف: