الكاتب: عقل لا يهدأ!
مما يعين عقل الكاتب على دوام التّوقد، أن يمتلك يقظة دائمة للفكرة، فيتابعها، ويقلّبها، ويجتهد في تحليلها، وتفكيكها، ثم إعادة تركيبها، وقد يبحث لها عن روابط منطقيّة غير متكلفة، مع أفكار أو أحداث أخرى.
ارتبط الإنسان بنعمتي القلم والبيان منذ القدم، وهذا الارتباط يزداد مع الزّمن قوة، ويتسع مداه كثيرًا، وبعد انتشار أجهزة الاتّصال الحديثة، وشبكات التّفاعل الاجتماعي، أصبح جلّ النّاس كتّابًا؛ حتى أولئك المغرمين بالصّوت أو الصّورة، أو الجالسين في مقاعد المتفرجين؛ فلا بدّ من كتابة ولو مختصرة، عبر الواتساب أو تويتر وغيرهما.
ومع الدّربة والاستمرار، ستقود هذه الأسطر اليسيرة من أدمنها إلى تدوين أطول، وبذلك يغدو كاتبًا؛ وربّما يمتلك منصّة أو عمودًا، فلم يعد النّطاق منحصرًا كما كان في السّابق، وبحسب اجتهاد الكاتب، ومثابرته، فضلًا عن التّوفيق وحسن التّوقيت، يكون حضوره وتأثيره.
وحتى ينتج الكاتب مادة ذات قابليّة للخلود، وفيها بذور البقاء والتّجدد، عليه أن يمنع الرّحلات المباشرة من عقله إلى قلمه أو لوحة مفاتيح جهازه، ويبقي الفكرة حبيسة العقل لمدد متفاوتة، يراجعها في تلافيفه، ويحرّكها بسلاسة عبر “تروسه”، ويعيد تكريرها حتى تصفو من الشّوائب، وتخلو من الزّبد، وتكون جديرة بالمكوث في الأرض، ونفع النّاس، وكثرة المشتقات، وكم من فكرة كانت ولودًا لأجيال من الأفكار.
وحين تزداد لياقة الكاتب الذّهنيّة، يصبح من غير العسير عليه التّعامل باحتراف مع دواعي الكتابة، فلا تستهلك منه وقتًا طويلًا، ويستبين ذلك في الكتابة الموسميّة، أو المستجيبة لحدث سريع، أو المتأثرة بعاطفة، ومع الاستمرار يرتفع مستوى التّمكن، ويرتقي الأسلوب، ويقترب للكاتب ما بعد، ويسهل عليه ما صعب، دون خلو العمليّة من متاعبها اللذيذة المعتادة.
والمبتلى بالكتابة يشبه القّناص، والصّياد، والسّائس، وبالتّالي ترتفع عنده مهارات الانتباه والملاحظة، ولا يغفل أبدًا، ولا يهجر أدوات عمله؛ فيقتنص بها الأفكار، ويصطاد الشّوارد، ويؤنس الأوابد، ولذلك فلا يستغرب من الكاتب؛ حين يمنح اهتمامه لأحاديث قد يراها آخرون دون المستوى، وليس بعجيب على كاتب أن يجلس إلى أيّ أحد، فمهارة الاستماع، وتنويع الجلّاس، يُعزى إليهما سلاسة أفكار الجاحظ، وإشراق ألفاظه، وتوالي تصويراته ومعانيه، ومعرفته بطبقات المجتمع، وفئاتهم، وما يتداول بينهم.
ومما يعين عقل الكاتب على دوام التّوقد، أن يمتلك يقظة دائمة للفكرة، فيتابعها، ويقلّبها، ويجتهد في تحليلها، وتفكيكها، ثم إعادة تركيبها، وقد يبحث لها عن روابط منطقيّة غير متكلفة، مع أفكار أو أحداث أخرى، وهذه تقنيات وأدوات مهمّة للكاتب، تحتاج إلى تدريب، وتعب، وممارسة، والغاية العظمى تستأهل النّصب لبلوغها.
وإذا رزق الكاتب رفقة لهم عقول مستنيرة، وآفاق واسعة، يفيد من الحوار معهم، ويقتبس أفكارًا أوليّة من خلال أحاديثهم المتبادلة، سواء كانت عبر نقاش مفتوح، أو ضمن محاضرة، أو خلال جلسات سمر، فسيجد بركة هذا القرب، وذلكم الحوار، وكم من ثمرة ظاهرة، انتسابها لواحد، وسقاتها كثر.
واستخدام منطق الأطفال الخالي من البديهيات المسبقة، يقود الكاتب إلى الاكتشاف والإبداع، ويلزم مع هذا المنطق ضبط الجرأة المصاحبة له؛ كي لا يقتحم الكاتب أسوارًا حصينة، وحتى لا يغرق في طفولة الأسلوب، والفكر، وهذه من الأخطار التي تقضي على الكاتب إن لم يحسن الإفادة منها بالقدر المناسب.
ومما قرأته في سير كتاب عالميين، وعرفت بعضه بالتّجربة، أنّ هناك أعمالًا تعين الكاتب في مهمّته المقدّسة، وتهوّن عليه حرفته الشّاقة، مثل المشي، حتى جعل المنصف المرزوقي للقدمين فضلًا على الدّماغ، ويماثله السّباحة، والبستنة، والاغتسال، والخلوة، والاستمتاع بمنظري الشّروق والغروب.
وإذا كانت الطّبيعة ممتعة لكل أحد، فتسلّق جبالها وهضابها، والجولة بين سهولها وعلى سواحلها، والوقوف على شواطئها، والاستمتاع بليالي صحاريها، ورمال براريها، ونجوم سمائها الصّافية، ومشهد البدر، وغيرها، أفضل ملهم للكاتب إذا شاء أن يتعمّق في فكره، أو يسبح في خياله، أو يغوص في دواخل نفسه.
ومن المفيد، منح فرصة للفكرة والمنتج النّهائي؛ ليفحص في مناطق اللاوعي أثناء التّأمل، أو النّوم، وكم من فتوحات سيجدها الكاتب بعد الاستيقاظ، ومن الإنضاج للعمل، ترك فجوة زمنيّة بين الكاتب وإنتاجه، ثم يعود إليه بعيد فترة، ويضع لمساته الأخيرة عليه، فالتّنقيح من أسرار جودة الكتابة، وله نصيب من نشوة الانتصار.
والأمر الأهمّ قبل هذا جميعه وبعده، هو القراءة ثمّ القراءة، على أن تكون واعية، بصيرة، منتقاة بما يرفد الكاتب في بلوغ المعرفة التي ينشدها، ويوصله بأمان للرّأي الذي يرتضيه، وبعد القراءة لا مناص من التّوقف عن القراءة في الموضوع المكتوب عنه؛ وجعل الذّهن منبعًا، والقلم ينهل منه.
وقد يحدِث الكاتب أثرًا أبعد مما توقع، ولربّما استغرب بعض الكتّاب من غرابة تفسير جزء من القراء لما كتبوه، وخوضهم في مناطق وحلة لم تطرأ على ذهنه من الأساس، بيد أنّ الأمر المقلق حقًا، ما قاله كاتب عالمي نسيت اسمه الآن، ومختصر كلمته: أنّه يمكن البحث في تراث أيّ كاتب، وإخراج نصوص منها، تقوده إلى المقصلة مباشرة! ويا ربّاه اعصمنا، فما أوثق العلاقة بين السّجون والمقاصل، وبين الكتابة شعرًا أو نثرًا، أو يعيش الكاتب في غربة!
- التصنيف: