موسم الغضب على شيء!
كي ننجح في مسيرة الإصلاح والتّقويم، هو أن يخرج منها كلّ كاذب آفك أكول، أيّاً كانت صفته، ومنصبه، وشهاداته، وخبراته، وشهرته، فضرر هؤلاء أبين من أن يشار إليه؛ فهم يشيعون الزّور، ويحجبون الصّواب، وينغّصون على جمال الوضوح.
أشتهر الصّحابي الجليل الكريم ذو المناقب الرّفيعة عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه بالحكمة، وله مقولات خالدة، وقد أساء له الشّيعة- كما فعلوا مع آله رضوان الله عليهم- بنسبة أقوال لهم، واختلاق آراء، وهم منها براء؛ فأجفلوا النّاس عن معينهم العذب.
ومن كلماته المعبّرة قوله ما معناه: إذا أقبلت الدّنيا على المرء أعطته محاسن غيره، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسنه، وربّما نسبت إليه مساوئ غيره! ونحن نرى مصداق ذلك عيانًا، فكم من إنسان كان في حصانة؛ وبتغيّر الحال نهشته أقرب البطانة!
ولا يقتصر الأمر على الأشخاص؛ بل يجري على الأشياء، والأفكار، والشّركات، والبرامج الإعلاميّة، ونوادي الرّياضة، ولا يستثنى منه شيء البتة، ويعود السَّبب في ذلك إلى طبيعة البشر أحيانًا، وزيادة جرعات التَّطبيل، وجرأة المزيفين الذين يقولون ما لا يعتقدون، وظهور المرتزقة أصحاب الاستعداد المسبق للهجوم على الجنّة أو النّار!
ويزيد من أوار هذه الحروب الوهميّة المستعرة صنفان؛ أولّهما: أعداء هذا الشّيء؛ حيث يرونها فرصة للتّنكيل به وبمن ينتسب إليه، ولا يهتبلون الفرصة لمصلحة مجتمع، أو خدمة حكومة، أو إجابة دين، بل ليشفوا غليلهم، ضاربين بالمصالح العليا والوسطى والدّنيا ليس الحائط بل أماكن القاذورات أجلّكم الله، ويقابلهم أنصار الشّيء بالسّجال؛ وحينها تكون المعركة حامية الوطيس.
والصّنف الثّاني، هم المنتفعون من هذه المعارك بتسويق أنفسهم، أو منتجاتهم، أو بديلهم عن الشّيء وضدّه، أو المستفيدون بانشغال النّخب والعامّة عنهم في أتون هذه الحروب الطّاحنة، وبالتّالي لا يناقش أحد جدوى أعمالهم، ومستقبل أفعالهم؛ فضلًا عن مسائل أخرى مهمّة ومفصليّة!
وفي الماضي القريب، امتطى بريمر ومجلس الحكم الطّائفي “اجتثاث” البعث لتخريب العراق، وإيذاء أهل السنّة، وتسريح الجيش، ونهب السّلاح، والتّراث. وبعد انقلاب الضبّاط الأحرار، جعلوا من “التّطهير” منفذًا للحاقدين على رجال العهد الملكي وغيرهم؛ واستطالت شرورهم حتى أهلكت الطّبيب الشّاعر إبراهيم ناجي. وتعدّ “المكارثيّة” أشهر مثال على هذا الظّلم، ونجم عنها عار على حريّة أمريكا، وسوء لحق بآينشتين، وهمنجواي، وشارلي شابلن، وغيرهم كثير.
وإنَّ أيّ حراك مجتمعي لأمر مطلوب، ونافع للغاية، بيد أنّه كي يصل إلى هذه السّمة الرّائعة؛ لا مناص له من مشاركة عامّة، تجعله متاحًا لكلّ مستطيع ممن يمتلك أدواته من علم، وخبرة، ورأي، شريطة أن يستند الاستدلال فيه إلى نصّ ثابت، أو عقل مستقل، أو تجربة عميقة، أو دراسة متينة.
وحتى تكون الثّمرة ناضجة غير سامّة أو مضرّة، يجب أن يكون الوصول إلى الحقيقة النّاصعة هو الهدف؛ وليس إلى ما يوافق الأهواء الغالبة، والأمواج العالية؛ ومن لوازم هذا القيد، أن يتولى كبره أقوام يعرفون الحقّ؛ والحقّ يحرّرهم من أيّ روابط ودخائل، وأن يشابه هذا الإجراء الأبحاث المختبريّة والعلميّة؛ فليس فيه “أُجراء”، ولا نتيجة مسبقة، وكلّ افتراض قابل للشّك؛ فالتّصديق أو الإبطال.
وآخر أمرين يلزم الختام بهما كي ننجح في مسيرة الإصلاح والتّقويم، هو أن يخرج منها كلّ كاذب آفك أكول، أيّاً كانت صفته، ومنصبه، وشهاداته، وخبراته، وشهرته، فضرر هؤلاء أبين من أن يشار إليه؛ فهم يشيعون الزّور، ويحجبون الصّواب، وينغّصون على جمال الوضوح، وجلال الحقّ، وإن صرّحوا بخلاف ذلك.
وأخيرًا؛ فلا محيد وقد بدأنا المسير في هذا الطّريق، أن نسلكه دون غضب ولا رضا، ونؤخر مشاعرنا إلى حين استبانة النّتائج بالدّلائل؛ لأنّنا في هذه السّيرورة سنطالب بمراجعة كلّ شيء، وليس شيئًا واحدًا فقط، ومن البصيرة ألّا نغضب من جميع هذه الأشياء من البداية، ثمّ نطلق عليها الفئات الضّالة من الأدعياء، والمهرّجين، لينالوا منها بسوء فعل، وقيح كلام، ونبز تأنف منه أراذل الكائنات لو تكلّمت.
ولا يخلو عمل من مآخذ، ولا يسلم جهد بشري من نقص وعيب، وليس النّجاح في إدراك مكامن الخلل فقط، بل تمام النّجح، وكمال النّصح، معرفة الأخطاء دون مجاملة، وتحديد أسبابها علميًا وليس جزافًا، ثم إصلاحها بحزمة حلول واقعيّة، وحينها سيحلو كلّ شيء؛ لأنّنا لم نغضب على شيء واحد فقط!