الإيمان بالقرآن
القرآن من مادة قرأ، ومنه قرأت الشيء، فهو قرآن: أي جمعته، وضممت بعضه إلى بعض، فمعناه: الجمع والضم. ومنه قولهم: ما قَرَأَتْ هذه الناقةُ سلىً قط، وما قَرَأَتْ جنيناً، أي لم تضم رحمها على ولد...
تعريف القرآن وفضله
المبحث الأول: معنى القرآن في اللغة
القرآن من مادة قرأ، ومنه قرأت الشيء، فهو قرآن: أي جمعته، وضممت
بعضه إلى بعض، فمعناه: الجمع والضم. ومنه قولهم: ما قَرَأَتْ هذه
الناقةُ سلىً قط، وما قَرَأَتْ جنيناً، أي لم تضم رحمها على ولد. قال
أبو عبيدة رحمه الله:
وإنما سُمّي قرآناً لأنه يجمع السور فيضمها، وتفسير ذلك في آية من
القرآن، قال الله جل ثناؤه: {
إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ
وَقُرْآَنَهُ} [القيامة:17] تأليف
بعضه إلى بعض.
ثم قال: وفي آية أخرى: {فَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآَنَ
} [النحل:98] إذا تلوت بعضه في إثر
بعض، حتى يجتمع، وينضم بعضه إلى بعض، ومعناه: يصير إلى معنى التأليف
والجمع، ثم استشهد على هذا المعنى بقول عمرو بن كلثوم:
أي لم تضم في رحمها ولداً قط، فسمي القرآن قرآناً لأنه جمع القصص،
والأمر والنهي، والوعد والوعيد، والآيات والسور: بعضها إلى بعض
.
ويذكر أبو بكر الباقلاني: أن القرآن يكون مصدراً واسماً: مصدراً كما
في قوله تعالى:
{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ
} [القيامة: 17]
واسماً كما في قوله تعالى: {
وَإِذَا قَرَأْتَ
القُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ
بِالآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا}
[الإسراء:45]
ويروى عن الشافعي رحمه الله: "أن القرآن اسم علم لكتاب الله، غير
مشتق: كالتوراة، والإنجيل".
قال القرطبي رحمه الله: "والصحيح الاشتقاق في الجميع"أي في القرآن
والتوراة والإنجيل.
المبحث الثاني: معنى القرآن في الاصطلاح
القرآن الكريم هو اسم لكلام الله تعالى، المنزل على عبده ورسوله محمد
صلى الله عليه وسلم، وهو اسم لكتاب الله خاصة ولا يسمى به شيء غيره من
سائر الكتب. وإضافة الكلام إلى الله تعالى إضافة حقيقية، من باب إضافة
الكلام إلى قائله.
وعرفه السيوطي رحمه الله بقوله: "وأما في العرف فهو الكلام المنزّل
على محمد صلى الله عليه وسلم للإعجاز بسورة منه، فخرج بالمُنزّل على
محمد صلى الله عليه وسلم: التوراة والإنجيل، وسائر الكتب، وبالإعجاز:
الأحاديث الربانية القدسية كحديث الصحيحين: «
أنا عند ظن عبدي بي ...
» إلى آخره وغيره، وقولنا: بسورة
منه: هو بيان لأقل ما وقع به الإعجاز، وهو قدر أقل سورة، كالكوثر، أو
ثلاث آيات من غيرها، بخلاف من دونها". ثم قال: "وزاد بعض المتأخرين في
الحد: المتعبد بتلاوته، ليخرج المنسوخ التلاوة".
ولما ظهر الخوض في صفات الله تعالى، وفي كلام الله خاصة، من قِبَل
الزنادقة، وفرق المبتدعة، احتاج أهل السنة إلى تعريف القرآن تعريفاً
يُظهرون فيه معتقدهم في صفات الله تعالى عامة، وفي صفة الكلام خاصة،
ومنه القرآن، مخالفين بذلك أهل البدع من الجهمية والمعتزلة وغيرهم،
فقال أبو جعفر الطحاوي رحمه الله تعالى:
"وإن القرآن كلام الله، منه بدأ بلا كيفية قولاً، وأنزله على رسوله
وحياً، وصدّقه المؤمنون على ذلك حقاً، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى
بالحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه، فزعم أنه كلام البشر
فقد كفر".
المبحث الثالث: فضل القرآن
ما تقولون في فضل كتاب أنقذ الله به أمة من جاهلية جهلاء، وضلالة
عمياء، دأبهم السلب والنهب، ومعبودهم الأوثان والحجارة، وديدنهم توارث
العداوات والأحقاد، لا تعرف من الحق رسماً. نحلتها ما وجدت عليه
آباءها، وما استحسنته أسلافها، من آراء منحرفة، ونحل مخترَعة، وملل
مبتدعة، فأنزل الله عليهم هذا الكتاب فأنقذهم منها به، وانتشلهم به من
أوحالها.
ما تقولون في فضل كتاب ختم الله به الكتب، وأُنزِل على نبي ختم به
الأنبياء، وبدين خُتمت به الأديان.
ما تقولون في فضل كتاب فُتحت به أمصار، وجثت عنده الركب، ونهل من
منهله العلماء، وشرب من مشربه الأدباء، وخشعت لهيمنته الأبصار، وذلت
له القلوب، وقام بتلاوته العابدون، والراكعون، والساجدون.
ذلكم القرآن الكريم: كلية الشريعة، وعمدة الملة، وينبوع الحكمة، وآية
الرسالة، ونور الأبصار والبصائر، فلا طريق إلى الله سواه، ولا نجاة
بغيره، ولا تمسك بشيء يخالفه.
ذلكم القرآن الكريم: كلام الله العظيم، وصراطه المستقيم، ودستوره
القويم، ناط به كل سعادة، وحكمته البالغة، ونعمته السابغة.
ذلكم القرآن الكريم: حجة الرسول الدامغة، وآيته الكبرى شاهدة
برسالته، وناطقة بنبوته.
ذلكم القرآن الكريم: كتاب الإسلام في عقائده وعباداته، وحكمه
وأحكامه، وآدابه وأخلاقه، وقصصه ومواعظه، وعلومه وأخباره، وهدايته
ودلالته.
ذلكم القرآن الكريم: أساس رسالة التوحيد، والمصدر القويم للتشريع،
ومنهل الحكمة والهداية، والرحمة المسداة للناس، والنور المبين للأمة،
والمحجة البيضاء التي لا يزغ عنها إلا هالك.
فضل القرآن ومكانته لا يدانيه فضل، ولا تسموا إليه مكانة، فضائل
عامة، وفضائل خاصة لبعض سوره وآياته، أكتفي هنا بذكر ومضات من هذه ومن
تلك علّ فيها المراد.
فضائل القرآن الكريم العامة:
أما فضائله عامة، فقد وردت في آيات عديدة وأحاديث كثيرة الإشارة إلى
ذلك، فمن القرآن ننهل أصدق الأوصاف لفضله، وأوفاها لحقه، فمن ذلك قوله
تعالى: {ذَلِكَ الكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى
لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]
وهي أول جملة بعد الفاتحة يقرأها المسلم في القرآن، ولك أن تسيح في
استكناه المراد بذلك.
ومن فضل القرآن في القرآن: أن عدَّ إنزاله في شهر مزية كبرى لهذا
الشهر، فما ظنكم بالمُنزَّل نفسه، قال تعالى: {
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي
أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الهُدَى
وَالفُرْقَانِ} [البقرة:
185]
وعلق الرحمة عند تلاوة القرآن بالاستماع إليه: {
وَإِذَا قُرِئَ القُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ
وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
} [الأعراف: 204]
ووصفه بالعظمة: {وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ المَثَانِي
وَالقُرْآَنَ العَظِيمَ} [الحجر:
87]
وبالهداية: {إِنَّ هَذَا القُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ
أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]
وأقسم الله به: {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ
﴿٢﴾ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
} [يس:2-3]
وأمر بتلاوته: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ}
[النمل: 91-92]
وبتدبره: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآَنَ
} [محمد: 24]
وذم الذين لا يسجدون عند تلاوته: {
وَإِذَا قُرِئَ
عَلَيْهِمُ القُرْآَنُ لَا يَسْجُدُونَ
} [الانشقاق: 21]
وشهد له بالسلامة من العوج: {
قُرْآَنًا عَرَبِيًّا
غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزُّمر: 28]،
وقال تعالى: {الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى
عَبْدِهِ الكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا
} [الكهف: 1]
بل إنه لكثرة فضائل القرآن تعددت أسماؤه وصفاته، وورد في القرآن كثير
من ذلك، وسبق الحديث عن ذلك.
فهل رأيتم فضلاً أكبر من هذا، ومنزلة أعظم من هذه المنزلة، يتبوأ
عليها القرآن مستحقاً.
هذا بعض فضل القرآن عند مُنزِّله سبحانه وتعالى، أما فضائله التي
جاءت على لسان مُبلِّغه عليه الصلاة والسلام فكثيرة، من أجمعها الحديث
الذي رواه الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أما إني سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «
ألا إنها ستكون فتنة
» فقلت: ما المخرج منها يا رسول
الله؟ قال: «كتاب الله، فيه نبأ ما كان قبلكم، وخبر ما
بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه
الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو
الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا
تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا
تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن إذا سمعته حتى قالوا:
{
إِنَّا سَمِعْنَا
قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ
} [الجن: 1-2]،
من قال به صدق، ومن عمل
به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم
». (هذا الحديث قال فيه الإمام ابن
كثير في فضائل القرآن: "مشهور من رواية الحارث الأعور وقد تكلموا فيه
وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين علي وقد وهم بعضهم
في رفعه وهو كلام حسن صحيح"، ضعفه الألباني رحمه الله في ضعيف
الترمذي).
وروى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: «إن هذا القرآن مأدبة الله، فتعلموا من مأدبته
ما استطعتم، إن هذا القرآن حبل الله، وهو النور المبين، والشفاء
النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن تبعه، لا يعوج فيقوم، ولا يزيغ
فيستعتب، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق عن كثرة الرد، فاتلوه فإن الله
يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات، أما أني لا أقول: ألم حرف ...
» (هذا الحديث قال فيه ابن كثير
رحمه الله: " غريب من هذا الوجه وإنما هو من كلام ابن مسعود ولكن له
شاهد من وجه آخر" أخرجه الألباني رحمه الله في ضعيف الترغيب وقال: "
وروي موقوفاً، وهو الصحيح، لكن الجملة الأخيرة قد توبع عليها كما
حققته في الصحيحة (3327) ، وهو في الصحيح في أول الباب" اهـ).
ومالنا والإطناب في فضل القرآن ليكفنا -وحسبنا ذلك- قول الرسول عليه
الصلاة والسلام: «خيركم من تعلم القرآن وعلّمه
» (رواه البخاري رحمه الله في
صحيحه عن عثمان بن عفان رضي الله عنه).
فكما فاض فضل القرآن فعمَّ الشهر الذي أُنزل فيه فصار أفضل الشهور،
والليلة التي أنزل فيها فصارت أفضل الليالي، فقد عم فضله أيضاً على
الناس فصار خيرهم من تعلمه وعلّمه.
هذا غيض من فيض عن فضل القرآن الكريم عامة في الكتاب والسنة، وهناك
فضائل خاصة لبعض سوره وآياته.
حفظ القرآن الكريم وسلامته من التحريف
- المبحث الأول: حفظ القرآن في عهد النبوة
أنزل الله تعالى كتابه ليكون الكتاب المهيمن، والرسالة الخاتمة،
والشِرْعة الباقية، مما يتطلب رعايته عن عبث العابثين وتحريف الغالين
وانتحال المبطلين، وقد اتفق له ذلك منذ اللحظة الأولى لنزوله، وحتى
يومنا هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، تحقيقاً لقوله تعالى: {
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا
لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]،
وللحفظ في عهد النبوة وجوه عدة، منها:
1- الطريقة التي كان يُنزَّل بها الوحي:
وهي أن ينزل على هيئة تكون أدعى إلى حفظه، وضبطه: أخرج البخاري عن
عائشة رضي الله عنها أن الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: «أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده
علي، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً،
فيكلمني، فأعي ما يقول».
2- مدارسة المَلَك النبيَ صلى الله عليه وسلم القرآن:
وكان ذلك في رمضان من كل عام: أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي
الله عنهما أنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس
بالخير، وأجود ما يكون في شهر رمضان لأن جبريل كان يلقاه في كل ليلة
في شهر رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم
القرآن، فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة
». وفي رواية لأبي هريرة رضي الله
عنه قال: «كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم
القرآن كل عام مرة، فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض فيه
».
3-كتابة الوحي ومقابلته:
عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: «
كنت أكتب الوحي لرسول
الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا نزل عليه الوحي أخذته برحاء شديدة،
وعرق عرقاً شديداً، فكنت أدخل عليه بقطعة الكتف، أو كسرة، فأكتب وهو
يملي علي، فإذا فرغت، قال: اقرأ، فأقرؤه، فإن كان فيه سقط أقامه، ثم
أخرج به إلى الناس». (رواه الهيثمي
رحمه الله في مجمع الزوائد وقال: روي بإسنادين ورجال أحدهما
ثقات).
4- قصر الكتابة على القرآن:
وذلك في بادئ الأمر، لئلا يختلط القرآن بغيره، لحديث: «
لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن
فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج» (رواه
مسلم رحمه الله في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه). ثم كان
الإذن بالكتابة، بعد أن زال سبب المنع.
5- الحض على تعلم القرآن وتعليمه:
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه على تعلم القرآن
وتعليمه، وحفظه، وتحفيظه، وكان يقدم أكثرهم أخذاً للقرآن في إمامة
الصلوات، وقيادة السرايا، أخرج البخاري في صحيحه عن عثمان بن عفان رضي
الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «
خيركم من تعلم القرآن
وعلمه».
وأخرج الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً وهم
ذو عدد، فاستقرأهم، فاستقرأ كل رجل منهم ما معه من القرآن، فأتى على
رجل منهم من أحدثهم سناً، فقال: ما معك يا فلان؟ قال: معي كذا وكذا
وسورة البقرة، فقال: أمعك سورة البقرة؟ قال: نعم. قال: فاذهب أنت
أميرهم ...». (الحديث حسنه الترمذي
رحمه الله وضعفه الألباني رحمه الله في ضعيف الترمذي).
6- قوة الحافظة عند العرب:
فالعرب كانوا أهل حافظة لا تكاد تخطئ، وذاكرة لا يكاد يعزب عنها شيء،
وخاصة أن القرآن جاء في براعة من الأسلوب، ورفعة من البيان، ما يجعله
أحرى لحفظه، والاهتمام به، حتى كثر آخذوه: صدراً وسطراً، قال
الباقلاني رحمه الله: "... وتظاهر بينهم، حتى حفظه الرجال، وتنقلت به
الرحال، وتعلمه الكبير والصغير، إذ كان عمدة دينهم، وعلماً عليه،
والمفروض تلاوته
في صلواتهم، والواجب استعماله في أحكامهم".
- المبحث الثاني: حفظ القرآن في عهد الصحابة رضوان الله
عليهم:
أما حفظ القرآن في عهد الصحابة، فقد تجلى ذلك عبر حادثتين
عظيمتين:
الأولى منها: في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه وذلك لما كثر القتل
في حفظة كتاب الله تعالى، فخشي الصحابة ذهاب القرآن بذهاب حفظته،
فأجمعوا أمرهم على جمعه في مكان واحد، وهو ما يسمى بالجمع الأول، أخرج
البخاري في صحيحه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: «
أرسل إليَّ أبو بكر الصديق، مقتل أهل
اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبو بكر رضي الله عنه: إن عمر
أتاني فقال: إن القتل قد استحَرّ يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى
إن استحر القتل بالقراء بالمواطن، فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن
تأمر بجمع القرآن. قلت لعمر: كيف نفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى
الله عليه وسلم؟ قال عمر: هذا والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح
الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد: قال أبو بكر:
إنك رجل شاب عاقل، لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله
عليه وسلم فتتبع القرآن فاجمعه، فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال
ما كان أثقل عليّ مما أمرني به في جمع القرآن، قلت: كيف تفعلون شيئاً
لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو والله خير، فلم يزل
أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي
الله عنهما فتتبعت القرآن، أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال، حتى
وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره:
{
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ
مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ
} [التوبة: 128]،
حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر
حتى توفاه الله، ثم عند عمر، حياته، ثم عند حفصة بنت عمر
».
أما الحادثة الثانية: ففي عهد الخليفة الثالث، عثمان بن عفان رضي
الله عنه وذلك لما ظهر النزاع بين بعض المسلمين بسبب الاختلاف في
الأحرف التي يُقرأ بها القرآن، فأجمع الصحابة ومن معهم من المسلمين
على جمع القرآن في مصحف واحد، وأحرقوا ما دونه من المصاحف، توحيداً
لقراءتهم، وجمعاً لكلمتهم: أخرج البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك قال:
«إن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي
أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة
اختلافهم في القرآن، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه
الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى! فأرسل عثمان
إلى حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك.
فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير،
وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف،
وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في
شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا، حتى
إذا نسخوا الصحف في المصاحف، رد عثمان الصحف إلى حفصة، فأرسل إلى كل
أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن
يحرق».
وهكذا حفظ كتاب الله تعالى على يد الشيخين الجليلين، أبي بكر وعثمان،
وهو مما يعد في مناقبهما.
- المبحث الثالث: سلامة القرآن من التحريف:
إن القرآن الكريم، وهو ما بين الدفتين، مما في أيدي الناس اليوم، هو
الذي أنزله الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو على ما كان
عليه، لا زيادة فيه ولا نقص، وقد ورد إلينا متواتراً، بنقل الكافة -
التي لا تقع تحت حصر ولا عد - عن مثلها حفظاً وكتابة، ولم يختلف في
عصر من العصور عما في غيره، بل هو كتاب واحد، بلفظ واحد، يجتمع أهل
الأرض جميعاً على قراءته دون اختلاف بينهم: لا في سورة، أو آية، أو
كلمة، أو حركة.
وقد ضمن الله تعالى لكتابه السلامة من التحريف، كما في قوله تعالى: {
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا
لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]
وهذا يقتضي حفظ عينه وهيئته التي نزل عليها، وقال تعالى: {
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا
لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ
} [الأنعام: 115]
قال البيضاوي رحمه الله في تفسيرها: "لا أحد يبدل شيئاً منها بما هو
أصدق وأعدل، أولا أحد يقدر أن يحرفها شائعاً ذائعاً كما فعل
بالتوراة... فيكون ضماناً لها من الله سبحانه وتعالى بالحفظ".
ومن وسائل هذا الحفظ: النقل المتواتر، نقل الكافة المتكاثرة عن مثلها
إلى غيرها، حفظاً وكتابة، جيلاً بعد جيل. قال الباقلاني رحمه الله:
"... ثم تناقله خلف عن سلف، هم مثلهم في كثرتهم، وتوافر دواعيهم على
نقله، حتى انتهى إلينا على ما وصفنا من حاله".
لكن الرافضة الشيعة، أثاروا بعض الشبهات حول تواتر القرآن وسلامته من
التحريف، أذكر أشدها، مع الجواب على كل شبهة:
الشبهة الأولى:
زعموا أن التواتر لم يتوفر للقرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
بدليل حديث قتادة عند البخاري، قال «
سألت أنس بن مالك رضي
الله عنه: من جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال
أربعة، كلهم من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت،
وأبو زيد». وفي رواية عن أنس قال:
«مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجمع
القرآن غير أربعة» وذكر ثلاثة من
المتقدمين، وأبدل أبي بن كعب بأبي الدرداء.
والجواب على هذه الشبهة من وجوه:
الأول: أن هذه الأحاديث ليس فيها ما هو مرفوع للنبي صلى الله عليه
وسلم، وقد وقع في تعيين الصحابة، وتعدادهم اضطراب، حتى أن بعضهم
أوصلهم إلى ستة ، فيصير العدد لا مفهوم له .
الثاني: أن يكون المراد بالأحاديث أنه لم يجمع القرآن من فيِّ رسول
الله إلا هؤلاء الأربعة، أو أنه لم يجمعه على جميع الوجوه والأحرف
التي نزل بها إلا أولئك، أو أنه لم يجمع ما نسخ منه وأزيل رسمه بعد
تلاوته مع ما ثبت رسمه وبقي فرض حفظه وتلاوته، إلا تلك الجماعة
.
الثالث: الذين حفظوا القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
كانوا أكثر من ذلك بكثير، ويدل عليه حديث بئر معونة، حيث قتل سبعون من
القراء، وقتل مثلهم في صدر خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وذلك
في موقعة اليمامة .
الرابع: دواعي الحفظ لدى الصحابة، وتمام الاستعداد عندهم يحيل القول
بقلة الحفظة منهم.
الشبهة الثانية: زعم الرافضة أن بعض القرآن لم يتفق له التواتر،
ومثلوا لذلك بقول زيد بن ثابت: حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة
الأنصاري، لم أجدها مع أحد غيره: {
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ
مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ
} [التوبة: 128-129]
وبقوله أيضاً: فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف، قد كنت أسمع
رسول الله يقرأ بها، فالتمسناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري: {
مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا
عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ}
[الأحزاب: 23] فألحقناها في سورتها في المصحف.
والجواب عن هذه الشبهة يكون في مقامين:
المقام الأول: الجواب على ما ادعوه في آية براءة: وهو من وجوه:
الأول: أن زيد بن ثابت رضي الله عنه كان يعرف هذه الآية قبل هذه
الحادثة، بدليل رواية أخرى يقول فيها: فقدت آية كنت أسمع رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقرؤها: {
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ
مِنْ أَنْفُسِكُمْ...} الآية
فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت، فأثبتناها في سورتها.
الثاني: قد شهد كل من عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وأبي بن كعب
أنهم سمعوها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الخطابي: "فقد اجتمع
في هذه الآية: زيد، وأبو خزيمة، وعمر".
الثالث: أما قول زيد في رواية البخاري: "لم أجدها مع أحد غيره" فقد
قال الحافظ ابن حجر: "أي مكتوبة، كما تقدم من أنه كان لا يكتفي بالحفظ
دون الكتابة، ولا يلزم من عدم وجدانه إياها حينئذ، أن لا تكون تواترت
عند من لم يتلقها من النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان زيد يطلب
التثبت عمن تلقاها بغير واسطة".
المقام الثاني: الجواب على ما ادعوه في آية الأحزاب: وهو من
وجوه:
الأول: هذه الآية شهد بسماعها من الرسول صلى الله عليه وسلم خزيمة
الأنصاري، وشهادته تعدل شهادة رجلين بنص حديث رسول الله صلى الله عليه
وسلم .
الثاني: قول زيد: "فقدت آية، كنت أسمعها من رسول الله صلى الله عليه
وسلم"، يدل على معرفته إياها، وأنه سمعها وإنما كان يطلب
التثبت.
الثالث: هذه الحادثة وقعت في عهد عثمان أثناء نسخ المصحف ولا يتصور
أن تكون هذه الآية مفقودة من عهد نزول القرآن، مروراً بالجمع الأول في
عهد أبي بكر، ولا تعرف إلا في عهد عثمان رضي الله عنه، مع حفظ الله
تعالى لكتابه ودينه.
الشبهة الثالثة: زعم الرافضة أن القرآن تعرض لتحريف شديد من قبل
الصحابة أثناء عملية الجمع، وأن عثمان رضي الله عنه قد أسقط منه
خمسمائة حرف حتى قام أحد مشاهير الشيعة، وهو الحاج ميرزا حسين بن محمد
تقي النوري الطبرسي بتأليف كتاب في ذلك، سماه: "فصل الخطاب في إثبات
تحريف كتاب رب الأرباب"، جمع فيه مئات النصوص عن علماء الشيعة
ومجتهديهم في مختلف العصور، بأن القرآن الكريم قد زيد فيه ونقص منه
وذكر هاشم البحراني - وهو أحد علماء الشيعة - في كتابه: "البرهان"
نصوصاً كثيرة يستدل بها على أن القرآن لم يجمعه إلا الأئمة، أي أئمة
الشيعة الاثنا عشر، وقد روى أحاديث في تحريف القرآن، منها: "لو قرئ
القرآن كما أنزل لألفيتنا فيه مسمين"، ومنها: "لولا أن زيد في كتاب
الله ونقص منه ما خفي حقنا على ذي الحجى".
والجواب على هذه الشبهة، من وجوه:
الأول: أن هذا الزعم مخالف لإجماع الصحابة والمسلمين في كل عصر،
والعادة تمنع تواطؤ هذه الجموع المتكاثرة، على الكذب والافتراء.
الثاني: أن علي بن أبي طالب داخل في هذا الإجماع، ولو قدر أنه سكت عن
إظهار الحق تقية، فلا يجوز له ذلك بعد أن أفضت إليه الخلافة، وصار
الأمر بيده .
الثالث: هذا الزعم مخالف لحفظ الله تعالى للقرآن: نصاً وعقلاً
وحساً:
أما النص فقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا
لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:
9]
وأما العقل: فإن الله تعالى قدر أن تكون رسالة محمد صلى الله عليه
وسلم هي الخاتمة، فمحال أن تتعرض للتحريف والتبديل، لأنه خلاف الحكمة
والتقدير.
أما الحس: فهو يشهد بأن الذي في أيدي عامة المسلمين اليوم، هو القرآن
الكريم، فكيف يكون القرآن الحق عند قلة من الناس، والمحرف عند
الأكثرية منهم! وهو مع ذلك الكتاب المهيمن، والناسخ لجميع الشرائع
المتقدمة.
- الفصل الثالث: منزلة القرآن من الكتب
المتقدمة:
القرآن آخر الكتب السماوية وهو خاتمها، وهو أطولها، وأشملها، وهو
الحاكم عليها.
قال الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً
عَلَيْهِ} [المائدة:48]
وقال تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى
مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ
وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ
} [يونس: 37]
وقال: {مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ
تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى
وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}
[يوسف: 111]
قال أهل التفسير في قوله تعالى {
وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ
}: مهيمناً وشاهداً على ما قبله من
الكتب، ومصدقاً لها، يعني يصدق ما فيها من الصحيح، وينفي ما وقع فيها
من تحريف، وتبديل، وتغيير، ويحكم عليها بالنسخ أو التقرير.
ولهذا يخضع له كل متمسك بالكتب المتقدمة ممن لم ينقلب على عقبيه كما
قال تبارك وتعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِنْ
قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا
آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ
قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} [القصص:52 -
53].
فالقرآن هو رسالة الله لجميع الخلق، وقد تكفل سبحانه {
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا
لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:
9]
ولا يقبل الله من أحد ديناً إلا ما جاء في هذا القرآن العظيم.
قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله في قوله تعالى: {
وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ
}: أي مشتملاً على ما اشتملت عليه
الكتب السابقة وزيادة في المطالب الإلهية، والأخلاق النفسية، فهو
الكتاب الذي يتبع كل حق جاءت به الكتب، فأمر به، وحث عليه، وأكثر من
الطرق الموصلة إليه.
وهو الكتاب الذي فيه نبأ السابقين واللاحقين، وهو الكتاب الذي فيه
الحكم والحكمة، والأحكام الذي عرضت عليه الكتب السابقة، فما شهد له
بالصدق فهو المقبول، وما شهد له بالرد فهو مردود قد دخله التحريف
والتبديل، وإلا لو كان من عند الله لم يخالفه.
القرآن هو المهيمن المؤتمن الشاهد على ما بين يديه من الكتب
أصل الهيمنة: الحفظ والارتقاب، يقال - إذا رقب الرجل الشيء وحفظه
وشهده - قد هيمن فلان عليه.
وتقول: هيمن فلان على فلان، إذا صار قريباً عليه، فهو مهيمن.
ويسمى الحاكم على الناس والقائم بأمورهم: المهيمن .
ولفظ مهيمن كان أصله (مؤيمن) بالهمزة، ثم قلبت الهمزة هاء لقرب
مخرجها، كما تقلب في أرقت الماء، فيقال: هرقت الماء. ويقال: ماء
مهراق، والأصل: ماء مراق.
وأهل السنة والجماعة يؤمنون أن القرآن الكريم هو المهيمن على كل
الكتب قبله، بمعنى: أنه أمين عليها، حافظ لها، وشاهد على أنها حق من
عند الله تعالى، يصدق ما فيها من الصحيح، وينفي ما فيها من التحريف
والتبديل، ويحكم عليها بالنسخ أو التقرير، فما وافقه منها فهو حق، وما
خالفه منها فهو باطل، فصارت له الهيمنة عليها من كل وجه.
نص الإجماع الذي حكاه شيخ الإسلام: قال شيخ الإسلام رحمه الله:
"السلف كلهم متفقون على أن القرآن هو المهيمن المؤتمن الشاهد على ما
بين يديه من الكتب".
فهو الأمين والشاهد على ما بين يديه من الكتب، وهو أيضاً الحاكم على
كل كتاب قبله بإجماع المسلمين.
قال رحمه الله: "... إذ كان المسلمون متفقين على أنه لا يجوز لمسلم
أن يحكم بين أحد إلا بما أنزل الله في القرآن، وإذا تحاكم اليهود
والنصارى إلى المسلمين لم يجز لهم أن يحكموا بينهم إلا بما أنزل الله
في القرآن".
وقد بين رحمه الله السبب في احتلال القرآن هذه المنزلة العالية،
والمرتبة الرفيعة بقوله: "فإنه قرر ما في الكتب المتقدمة من الخبر عن
الله وعن اليوم الآخر، وزاد ذلك بياناً وتفصيلاً، وبين الأدلة
والبراهين على ذلك، وقرر نبوة الأنبياء كلهم، ورسالة المرسلين، وقرر
الشرائع الكلية التي بعث بها الرسل كلهم، وجادل المكذبين بالكتب
والرسل بأنواع الحجج والبراهين، وبين عقوبات الله لهم، ونصره لأهل
الكتب المتبعين لها، وبين ما حرف منها وبدل، وما فعله أهل الكتاب في
الكتب المتقدمة، وبين أيضاً ما كتموه مما أمر الله ببيانه، وكل ما
جاءت به النبوات بأحسن الشرائع والمناهج التي نزل بها القرآن، فصارت
له الهيمنة على ما بين يديه من الكتب من وجوه متعددة: فهو شاهد
بصدقها، وشاهد بكذب ما حرف منها، وهو حاكم بإقرار ما أقره الله، ونسخ
ما نسخه، فهو شاهد في الخبريات، حاكم في الأمريات".
ذكر من نقل الإجماع أو نص على المسألة ممن سبق شيخ الإسلام: تواترت
النصوص عن سلف هذه الأمة وخلفها على أن القرآن الكريم هو المؤتمن
والشاهد والحاكم على ما بين يديه من الكتب.
فقد روى الطبري رحمه الله بسنده عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في
تفسير قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا
عَلَيْهِ} [المائدة: 4]. قال:
"المهيمن: الأمين، القرآن أمين على كل كتاب قبله".
وروي عنه أيضاً أنه قال: {وَمُهَيْمِنًا
} أي: "حاكماً على ما قبله من الكتب".
وقال قتادة رحمه الله: {وَمُهَيْمِنًا
} أي: "أميناً وشاهداً على الكتب التي خلت قبله".
وعن سعيد بن جبير رحمه الله أنه قال: "القرآن مؤتمن على ما قبله من
الكتب".
وروى الطبري عن ابن زيد في قوله: {
وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ
} قال: "مصدقاً عليه، كل شيء أنزله
الله من توراة أو إنجيل أو زبور فالقرآن مصدق على ذلك، وكل شيء ذكر
الله في القرآن فهو مصدق عليها وعلى ما حدث عنها أنه حق".
وجميع هذه الأقوال كما قال ابن كثير رحمه الله: "كلها متقاربة
المعنى، فإن اسم المهيمن يتضمن هذا كله، فهو أمين، وشاهد، وحاكم على
كل كتاب قبله".
وإنما احتل القرآن الكريم هذه المنزلة لكونه يستحيل أن يتطرق إليه
التبديل والتحريف، ولا يمكن نسخه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم،
وقد ختم الله به الكتب.
قال الفخر الرازي رحمه الله: "إنما كان القرآن مهيمناً على الكتب
لأنه الكتاب الذي لا يصير منسوخاً البتة، ولا يتطرق إليه التبديل
والتحريف على ما قال تعالى: {
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا
الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ
} [الحجر: 9]
وإذا كان كذلك كانت شهادة القرآن على أن التوراة والإنجيل والزبور
حق، صدق باقية أبداً".
مستند الإجماع في المسألة: لقد نص المولى جل جلاله في كتابه العزيز
على أن هذا القرآن هو الأمين على ما سبقه من الكتب، وهو الشاهد
والحاكم عليها فقال تبارك وتعالى في محكم التنزيل: {
وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا
عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ
أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ
شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً
وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا
الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا
كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}
[المائدة: 48]
قال ابن كثير رحمه الله: "جعل الله هذا الكتاب العظيم الذي أنزله آخر
الكتب وخاتمها وأشملها وأعظمها وأكملها، حيث جمع فيه محاسن ما قبله من
الكمالات ما ليس في غيره، فلهذا جعله شاهداً، وأميناً، وحاكماً عليها
كلها، وتكفل تعالى حفظه بنفسه الكريمة، فقال تعالى:
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا
لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:
9]
فهو محفوظ بحفظ الله عز وجل إلى قيام الساعة، شاهد على هذه الكتب،
مبين ما حرف منها، وحاكم بما أقره الله وأمر به من أحكامها، وناسخ ما
نسخه الله منها، وهو أمين عليها في ذلك كله.
- الفصل الرابع: خصائص القرآن الكريم:
المبحث الأول: الأخبار الغيبية:
حوى القرآن الكريم جملة من أخبار الغيب، تجعل الإعجاز في القرآن
إعجازاً مركباً، إن كان خصومه عجزوا عن الإتيان بمثله مفرداً، فهم عن
الإتيان بمثله مركباً أعجز، فلا يفكر أحدهم أو يخطر بباله محاولة
الإتيان بمثله، وإن حاول منهم سفيه ذلك زاد سفاهته سفاهة، وحمقه
حمقاً.
وعلم الغيب ليس لأحد من البشر، ولا يدركون منه شيئاً إلا على سبيل
التخمين لا على سبيل القطع والجزم.
أما أن يأتي كتاب يحمل أخباراً غيبية، ويقطع بوقوعها ثم تقع كما أخبر
فهذا من خصائص القرآن الكريم.
والغيب إما أن يتعلق بماض، أو بحاضر، أو بمستقبل، وهي أخبار كثيرة
جداً نذكر أمثلة لكل نوع للإثبات لا للاستقصاء.
فمن الأخبار الغيبية الماضية:
الإخبار عن خلق السماوات والأرض، وآدم وقصة إبليس لعنه الله.. ثم بعد
ذلك قصص الأنبياء السابقين، والأمم الماضية ووجه الغيب فيها أن الرسول
صلى الله عليه وسلم كان أمياً لا يعرف القراءة، فلم يعهد عنه أنه قرأ
في كتب أهل الكتاب، أو تلقى الدرس عن أحد منهم، أو خالطهم، أو مازجهم،
ولم يكن أحد من قومه يعلم شيئاً منها.
ونصوص القرآن تشهد على ذلك، فقد خاطب الله نبيه محمداً صلى الله عليه
وسلم في سياق قصة نوح عليه السلام، فقال سبحانه: {
تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهَا
إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ
هَذَا} [هود: 49]، وفي قصة موسى
عليه السلام: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ
قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ...
وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ}
[هود: 44-46]
وفي قصة مريم عليها السلام: {
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ
الغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ
أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ
إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران:
44]
أخبار غيب الحاضر:
آيات كثيرة كشفت أحداثاً وقضايا في حينها لم يحضرها الرسول صلى الله
عليه وسلم، ولم يخبره بها أحد من أصحابه.
وفي سورة التوبة من هذا النوع كثير، فقد وردت آيات تكشف حال
المنافقين وما يخفونه بينهم أو في صدورهم: {
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى
مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ
} [البقرة: 204]، {
يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا
قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ
إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا
} [التوبة: 74]
ولاشتهار هذا بين المنافقين والكفار فإنهم يتنادون فيما بينهم أن
اخفضوا أصواتكم حتى لا يسمعكم إله محمد، ووصف الله المنافقين بقوله: {
يَحْذَرُ المُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ
عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ
} [التوبة: 64]. يقولون ذلك لما
شاهدوا من أخبار الغيب التي يجيء بها القرآن الكريم.
أخبار الغيب في المستقبل:
وهذا النوع آياته كثيرة منها ما تحقق وانقطع، ومنها ما تحقق أيضاً
وما زال في كل يوم يتحقق.
فمن النوع الأول قوله تعالى: {
الم
﴿١﴾ غُلِبَتِ الرُّومُ
﴿٢﴾ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ
غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ﴿٣﴾ فِي بِضْعِ
سِنِينَ} [الروم:1-4] الآية والقصة
في ذلك مشهورة وتفصيلها في كتب التفسير.
ومنه أيضاً وعد الله سبحانه للرسول وأصحابه بدخول مكة: {
لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا
بِالحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ
آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ
} [الفتح: 27]، ثم وقع هذا الحادث
كما أخبر الله تعالى.
ومن ذلك قوله تعالى مخاطباً نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {
وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ
} [المائدة: 67]، فلم يستطع أحد أن
يصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بقتل مع كثرة المتربصين له، بل
وكثرة المحاولات لذلك، فتبوء كلها بالفشل أمام: {
وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ
}.
والشواهد على ذلك كثيرة أوردها المؤرخون والرواة، وسردوا منها ما
يثبت أن هذا التحدي لم يكن في مجتمع يخلص الود والحب، بل كان يكمن فيه
أعداء متربصون، ماكرون، يكيدون من اليهود والمشركين.
ومن النوع الثاني الذي تحقق ومازال يتحقق الإخبار بعد أن وقع التحدي
بالقرآن أنهم لن يأتوا بمثل هذا القرآن وأنهم لن يفعلوا فقال سبحانه:
{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالجِنُّ
عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ
بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا
} [الإسراء: 88]
وقال سبحانه: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا
عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ
شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ
تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي
وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ
} [البقرة: 23-24]، إنه ليس تحدياً
فحسب، بل تحد مع إخبار مسبق بأنهم لن يفعلوا!! ومازال التحدي جارياً
وما زال الخبر الغيبي متحققاً.
ومنه ما جاء في بيان أن الله قد كتب للإسلام البقاء والخلود وحفظ
القرآن: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الحَقَّ وَالبَاطِلَ
فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ
النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ}
[الرعد: 17]، وقوله سبحانه: {
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ
ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ
أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ
حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} وقوله
سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا
لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:
9]
ويظهر ذلك ويستبين إذا علمت أن هذه الآيات نزلت في مكة في وقت كان
المشركون متكالبين على الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكان
المسلمون في اضطهاد وتعذيب، ومع هذا جاءت هذه البشرى ترسل أشعتها، ولو
كانت تحمل خبراً بظهورهم على قومهم فحسب لكان فيها إعجاز وأي إعجاز،
فكيف وهي تحمل خبر "مكث الإسلام في الأرض"، و"إيتاء أكله في كل حين"،
و"حفظ الله له"، والله ما هذا بقول بشر، ولا يقوله بشر لا يعلم مصيره،
ولا يضمن لنفسه حياته، فكيف يضمن بقاء هذا الدين في حياته وبعد وفاته
أبد الآبدين وما بقيت على الأرض حياة.
المبحث الثاني: إعجازه
القرآن هو الحجة التي أظهرها الله سبحانه وتعالى على يد نبيه محمد
صلى الله عليه وسلم وتحدى الناس أن يأتوا بمثله، وتحداهم أخرى أن
يأتوا بعشر سور مثله، وتحداهم ثالثة أن يأتوا بسورة مثله، وتحداهم
رابعة أن يأتوا بحديث مثله، وما استطاعوا ولن يستطيعوا.
ولن نذهب يمنة ويسرة لتأصيل الإعجاز، أو لإطالة الحديث عنه هنا، فليس
هذا بمقام ذاك، ولا هو بمستوعب له، فالإعجاز أجلى من أن يطال في
بيانه، وأوعب من أن تستقصى أطرافه.
نزل القرآن على أمة أمية في العقيدة، وأمية في الفكر، وأمية في
الصناعة، وفي الزراعة، وأمية في العلاقات الاجتماعية والسياسية، وأمية
في كل شؤون الحياة، إلا الكلمة وتذوقها، فهم أربابها وأصحابها،
يمتطونها ويحكمون صنعتها، يطربون لجميلها، ويمجون قبيحها، ملكوها بقدر
ما ملكتهم، يسيرونها وتسيرهم، ترفع فيهم وتضع.
بعث فيهم محمد صلى الله عليه وسلم فلم تكن معجزته في شيء لا يتقنونه،
أو فن لا يحذقونه، بل تحداهم فيما يدركون، وفيما هم فيه بارزون.
جاءت المعجزة قرآناً يقرأونه بألسنتهم، ويسمعونه بآذانهم، ويزنونه
بموازين كلامهم، فإذا به أبلغ من بليغ الكلام، وأفصح من فصيحه، لا
يرتقي إليه بيان، ولا يدركه لسان، فملك البلاغة بألوانها، وجاز
الفصاحة بأركانها. وجاءهم بما لا قبل لهم برده، ولا قدرة لهم في دفعه،
لا يملكون من أنفسهم معه إرادة، وليست لهم معه مشيئة، إلا أن يضع
المعاند أصابعه في أذنيه، ويستغشي ثيابه ويلغو فيه: {
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا
لِهَذَا القُرْآَنِ وَالغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ
} [فصِّلت: 26]، أما من لم يفعل
فقد حيل بينه وبين خلافه، فلا يملك إلا أن ينعقد قلبه عليه وهو يجهد
في نقضه، ويستقيم لدعوته، وهو يبالغ في رفضه، فلا مفر منه إلا إليه،
فقد أخذ بمجامع القلوب، واستولى على جهات النفوس، فما أعجب شأنه،
وأعظم أمره.
ويزيدك عجباً لا ينفد أن هذا الكلام لم يأخذ من اللغة صنعتها، ومن
الأسلوب جماله، ومن الفصاحة رونقها، ومن البلاغة سموها فحسب، بل أخذ
مع هذا كله من المعاني أسماها، ومن المقاصد أعلاها: جاء بالدين
بأصوله، وحججه، وبراهينه، وشريعته، وآدابه، وسائر مقومات الأمة على
أكمل وجه، وأحسنه، فهو والله إعجاز في إعجاز.
المبحث الثالث: تعدد أسمائه وصفاته
وردت للقرآن الكريم أسماء وصفات كثيرة في كثير من الآيات، وفي بعض من
الأحاديث النبوية.
ولكثرة هذه الأسماء والصفات، فقد أفردها بعض العلماء بمؤلفات مستقلة،
فضلاً عن إيرادها أو إيراد جملة منها في بطون مؤلفاتهم.
وممن ألف فيه علي بن أحمد بن الحسن التجيبي الحرالي، المتوفي سنة
(647)، وابن قيم الجوزية المتوفي سنة (751)، ألف كتاب "شرح أسماء
الكتاب العزيز"، ومن المعاصرين، ألف الشيخ صالح بن إبراهيم البليهي،
كتاباً عنوانه: "الهدى والبيان في أسماء القرآن".
وقد وقع الاختلاف بين العلماء في عدد أسماء القرآن الكريم، فهذا
الزركشي يذكر أن "الحرالي" أنهى أساميه إلى نيف وتسعين، لكن الزركشي
نفسه لا يورد إلا خمسة وخمسين اسماً نقلها عن أبي المعالي عزيزي بن
عبد الملك المعروف بشيدل ، وقد أوردها أيضاً السيوطي .
أما الفيروز آبادي فقد قال: "ذكر الله تعالى للقرآن مائة اسم نسوقها
على نسق واحد"، لكنه لم يذكر إلا تسعة وثمانين اسماً وزادها أربعة
أسماء. فتكون جملة الأسماء التي أوردها الفيروز آبادي ثلاثة وتسعين
اسماً من القرآن للقرآن.
أما الشيخ صالح البليهي فلم يذكر إلا ستة وأربعين اسماً من أسماء
القرآن الكريم، لاعتقاده أن بعض هذا العدد -إن لم يكن أكثره- أوصاف
للقرآن وليست بأسماء، ومع هذا فإنه لا يستبعد أن يكون بعض ما ذكره هو
من أوصاف القرآن وليست من أسمائه.
ومن أسمائه التي استمدها العلماء من القرآن نفسه: التنزيل، الآيات،
الكتاب، القرآن، الحق، التذكرة، الهدى، الوحي، الصراط المستقيم،
التبيان، الصدق، المفصل، الحديث، الرحمة، النور، النذير، كلام الله،
القول الثقيل، القول الفصل، العربي، الحكيم، الحكمة البالغة، العلم،
القصص، البشير، الموعظة، المبارك البصائر، الشفاء، النبأ العظيم،
الفرقان، المجيد، الروح، البلاغ، حبل الله، البرهان، أحسن الحديث
المثاني، السراج، المبين، وغير ذلك من الأسماء والصفات.
وقد بين العلماء حكمة تعدد الأسماء فقال الفيروز آبادي: "إعلم أن
كثرة الأسماء تدل على شرف المسمى أو كماله في أمر من الأمور، أما ترى
أن كثرة أسماء الأسد دلت على كمال قوته، وكثرة أسماء القيامة دلت على
كمال شدته وصعوبته، وكثرة أسماء الداهية دلت على شدة نكايتها، وكذلك
كثرة أسماء الله تعالى دلت على كمال جلال عظمته، وكثرة أسماء النبي
صلى الله عليه وسلم دلت على علو رتبته وسمو درجته، وكذلك كثرة أسماء
القرآن دلت على شرفه وفضيلته".
وبين أسماء القرآن الكثيرة اشتراك وامتياز، فهي تشترك في دلالتها على
ذات واحدة هي القرآن الكريم نفسه، ويمتاز كل واحد منها عن الآخر
بدلالته على معنى خاص، فكل اسم للقرآن يدل على حصول معناه فيه،
فتسميته مثلاً بالهدى يدل على أن الهداية فيه، وتسميته بالتذكرة يدل
على أن فيه ذكرى، وهكذا كما قال ابن تيمية رحمه الله تعالى عن لفظ
السيف والصارم والمهند... فإنها تشترك في دلالتها على الذات فهي من
هذا الوجه كالمتواطئة، ويمتاز كل منها بدلالته على معنى خاص، فتشبه
المتباينة وأسماء الله وأسماء رسوله وكتابه من هذا الباب.
وهناك إشارة دقيقة استمدها بعض العلماء من تسميته بالقرآن، والكتاب،
فقال: روعي في تسميته قرآناً كونه متلوا بالألسن، كما روعي في تسميته
كتاباً كونه مدوناً بالأقلام، فكلتا التسميتين من تسمية شيء بالمعنى
الواقع عليه.
وفي تسميته بهذين الاسمين إشارة إلى أن من حقه العناية بحفظه في
موضعين لا في موضع واحد، أعني أنه يجب حفظه في الصدور والسطور جميعاً،
أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى، فلا ثقة لنا بحفظ حافظ حتى
يوافق الرسم المجتمع عليه من الأصحاب، المنقول إلينا جيلاً بعد جيل
على هيئته التي وضع عليها أول مرة، ولا ثقة لنا بكتابة كاتب حتى يوافق
ما هو عند الحافظ بالإسناد الصحيح المتواتر.
وبهذه العناية المزدوجة التي بعثها الله في نفوس الأمة المحمدية،
إقتداء بنبيها بقي القرآن محفوظاً في حرز حريز.
وينبغي أن أنبه إلى أمرين هنا..
الأول: أن ما ذكرته من أسماء القرآن مأخوذ من القرآن نفسه، وقد ورد
في السنة أسماء أخرى للقرآن الكريم.
الثاني: أن أسماء القرآن وصفاته توقيفية، لا نسميه ولا نصفه إلا بما
جاء في الكتاب، أو في السنة النبوية الشريفة، فإن قلت: أرأيت تسميته
بالمصحف، هل وردت في الكتاب أو السنة، قلت: أن المصحف ليس اسماً
للقرآن ذاته، وإنما اسم للصحف التي كتب عليها القرآن، ولم يطلق عليه
"المصحف" إلا بعد جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق رضي الله
عنه في صحف ضم بعضها إلى بعض فسميت مصحفاً.
المبحث الرابع: شفاعته لأهله
خص الله سبحانه وتعالى كتابه المبين القرآن الكريم من بين سائر الكتب
بأن يشفع لأهله يوم القيامة، وقد ثبت هذا للقرآن الكريم كله ولسور منه
بعينها، ووردت في السنة أحاديث تبين هذه الشفاعة.
ومن ذلك الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي أمامة الباهلي
رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «
اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً
لأصحابه، اقرؤوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران، فإنهما تأتيان يوم
القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير
صواف، تحاجان عن أصحابهما، اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة، وتركها
حسرة، ولا يستطيعها البطلة».
وروى عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: «الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة،
يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول
القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان
» (صححه السيوطي في الجامع
الصغير).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال:
«يجيء صاحب القرآن يوم القيامة فيقول القرآن:
يا رب حله، فيلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب زده، فيلبس حلة
الكرامة، ثم يقول: يا رب ارض عنه فيرضى عنه، فيقال له: اقرأ وارق،
وتزاد بكل آية حسنة» (حسنه الإمام
الألباني في صحيح الترغيب).
وعن الشعبي أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يقول: «
يجيء القرآن يوم القيامة فيشفع لصاحبه، فيكون
له قائداً إلى الجنة، ويشهد عليه ويكون سائقاً به إلى النار
» (رواه الوادعي في الشفاعة وقال
فيه انقطاع).
وغير ذلك من الأحاديث التي تثبت شفاعة القرآن لأهله يوم القيامة،
فهنيئاً لأصحاب القرآن صحبته.
المبحث الخامس: أنه لا ينسب إلا إلى الله
تعالى
الأصل في الأقوال أن تنسب إلى قائليها، تلك قضية مسلمة لا شك فيها.
وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس من عند نفسه، بل هو من
عند ربه: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ
وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3-4]
لكن ما بلغه عليه الصلاة والسلام لأمته، إما أن يؤمر بتبليغه بلفظه
على أنه قرآن لا يزيد فيه حرفاً، ولا ينقص منه حرفاً، وإما أن يوحى
إليه معناه، ويوكل إليه التعبير عنه.
فما كان من الأول فليس للرسول صلى الله عليه وسلم منه إلا التبليغ،
ولا يمنحه هذا حق نسبته إليه، فلا ينسب إلا لله سبحانه وتعالى.
أما النوع الثاني فإن للرسول صلى الله عليه وسلم فوق تبليغه صياغة
ألفاظه، وحينئذ فيجوز أن ينسب إلى الله نسبة إنشاء، ويجوز أن ينسب إلى
الرسول صلى الله عليه وسلم نسبة تبليغ وعبارة، هذا فيما يضيفه الرسول
صلى الله عليه وسلم إلى ربه أو ما يسمى بالأحاديث القدسية.
وعلى هذا فإن القرآن الكريم هو الذي لا تجوز نسبته لغير الله، لأن
لفظه ومعناه من عند الله.
قال ابن حجر الهيثمي رحمه الله تعالى عن الأحاديث القدسية: "وهي ما
نقل إلينا آحاداً عنه صلى الله عليه وسلم مع إسناده لها عن ربه، فهي
من كلامه تعالى، فتضاف إليه وهو الأغلب، ونسبتها إليه حينئذ نسبة
إنشاء لأنه المتكلم بها أولاً، وقد تضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم
لأنه المخبر بها عن الله تعالى، بخلاف القرآن فإنه لا يضاف إلا إليه
تعالى فيقال فيه: قال الله تعالى، وفيها قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم فيما يروي عن ربه تعالى".
ولعل الحكمة في جواز نسبة الأحاديث القدسية إلى الله تعالى وإلى نبيه
محمد صلى الله عليه وسلم أنها ليست كالقرآن، ألفاظها ومعانيها من
الله، فلا تصح الصلاة بتلاوتها، وينال قارئها ما ينال تالي القرآن من
الثواب على كل حرف، ويجوز أن يمسها المحدث، وتجوز روايتها بالمعنى،
وتختلف الروايات فيها، بخلاف القرآن وما إلى ذلك، ولو كان لفظها من
الله، لكان لها ما كان للقرآن الكريم.
المبحث السادس: التعبد بتلاوته
وهي من خصائص القرآن التي لا تكون لسواه، وقد تلتبس هذه الخاصية
للقرآن بالخاصية التالية وهي الثواب لقارئه ولمستمعه، والحق أنها غير
تلك، فالتعبد بتلاوة القرآن أخص من ثواب القراءة، ذلكم أنا نقصد
بالتعبد بتلاوته، أن من العبادات الشرعية ما لا يتم إلا بتلاوة القرآن
وهي الصلاة عمود هذا الدين، أما الثواب على التلاوة فيحصل سواء كان في
صلاة أو في خارجها، وهذا فرق أحسبه بيناً.
وقد وردت النصوص القرآنية التي تقرن تلاوة القرآن الكريم بالصلاة
عمود هذا الدين، قال تعالى مخاطباً نبيه عليه الصلاة والسلام: {
يَا
أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ
انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ
تَرْتِيلاً} [المزمل: 1-4]
وقال سبحانه: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى
غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ
مَشْهُودًا وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى
أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا
} [الإسراء:78-79]
وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ
وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا
وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ
} [فاطر: 19-20]
وقال المفسرون: "إن {قُرْآنَ الْفَجْرِ
} هو صلاة الصبح".
فتأمل أخي المسلم كيف عبر عن الصلاة بالقرآن، وما ذاك إلا لأن الصلاة
لا تصح إلا به، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «
لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب
» متفق عليه.
وهذا البخاري وغيره يعقد باباً في "وجوب القراءة للإمام والمأموم في
الصلوات كلها، في الحضر والسفر، وما يجهر فيها وما يخافت"، بل عد
العلماء الفاتحة ركنا من أركان الصلاة لا تصح إلا بها، ...
وغير ذلك من العبادات التي يشترط أو يسن فيها تلاوة شيء من القرآن،
والتي لا يقوم فيها مقامه شيء من الكلام سواه، مما يدل على اختصاص
القرآن بأنه متعبد بتلاوته فيها، فضلاً عن الثواب لقارئه.
فتأملوا أيها الأحبة فضل القرآن العظيم، ومكانته السامية بين
العبادات حتى مازجها وكأنه روحها الذي به تصح، وعمادها الذي به
تقوم.
المبحث السابع: الثواب لقارئه ولمستمعه
الواجبات والسنن وعد الله عليها بالثواب، حتى المباحات إذا اقترنت
بالنية الصالحة يثاب فاعلها.
وطلب العلم إذا أريد به وجه الله نال صاحبه الأجر العظيم، والثواب
الجزيل. لكن تلاوة القرآن وتعلمه وتعليمه، واستماعه وتدبره، وما إلى
ذلك يثاب صاحبها فوق ذلك ثواباً خاصاً لا يكون لشيء غيرها.
وأنواع الثواب التي وردت لأولئك التالين للقرآن، أو معلميه، أو
متعلميه، أو مستمعيه، متنوعة متعددة.
منها ما يكون حسنات ترجح بميزان صاحبها يوم القيامة، ومنها ما يكون
نوراً وضياء، ومنها ما يكون حفظاً لنفسه، ولأهله، ولماله في الدنيا،
ومنها ما يكون شفيعاً لصاحبه يوم القيامة، ومنها ما يكون سبباً لحماية
صاحبها من عذاب النار، وغير ذلك من أنواع الثواب على تلاوة
القرآن.
ومنها ما يكون ثواباً لتلاوة القرآن كله، ومنها ما يكون ثواباً على
تلاوة سورة منه مخصوصة، ومنها ما يكون ثواباً على آيات منه معينة،
ومنها ما يكون خاصاً بالمداومين على القرآن وأهله، وخاصته،
وحملته.
الاجتماع لتلاوته:
ومن أجمع الأحاديث التي وردت في بيان ثواب من اجتمع لتلاوة القرآن
الكريم وتدارسه، حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه: «
وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون
كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة،
وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده
» (رواه الألباني في صحيح الجامع).
فجمع هذا الحديث أربعة أنواع من ثواب تلاوة القرآن ومدارسته:
1- تنزل عليهم السكينة.
2- تغشاهم الرحمة.
3- تحفهم الملائكة.
4- يذكرهم الله فيمن عنده.
فمن منا لا يحرص على واحدة منها، فضلاً عن مجموعها، كيف وقد اجتمعت
كلها في علم واحد ميسر.
المبحث الثامن: أن الله سبحانه وتعالى تعهد
بحفظه
ميز الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم عن سائر الكتب بأن تعهد بحفظه
فقال عز شأنه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا
لَهُ لَحَافِظُونَ}
[الحجر:9]
القرآن وحده هو الذي تعهد الله بحفظه، أما التوراة والإنجيل وسائر
الكتب المنزلة، فقد أوكل الله حفظها إلى أهلها، قال تعالى: {
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى
وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا
لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا
اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ
} [المائدة: 44] الآية.
وانظر بعين البصيرة، واخترق بنورها حواجز القرون، فسترى حتماً معجزة
إلهية في هذا الكتاب المبين، وإن شئت فقل معجزة في المعجزة، تكالب
الأعداء عليه منذ أول إشعاعة له، وتداعت الأمم عليه، وتآمر المتآمرون،
وخطط المخططون، على وجه ما كان من الممكن أن ينجو منهم، فلا تتبدل فيه
كلمة زيادة أو نقصاً، ولا يختلف فيه حرف تقديماً أو تأخيراً، لولا أن
هناك قوة أكبر لا يستطيعها بشر، تولت حفظ هذا الكتاب. أول ما نزل كان
المشركون يلغون عند تلاوته، ويطاردون صاحبه، ويحاربون أتباعه، ويصرفون
الناس عن سماعه، ما تركوا وسيلة إلا سلكوها، ولا مطية إلا ركبوها،
وخابوا وخسروا.
وحين دخل الناس في الإسلام، دخل معهم أرباب نحل وملل يريدون تحطيم
الحصون الإسلامية من الداخل، ونشأت فرق، وكثر النزاع، وعمت الفتن،
وطمت المحن، وذهبت كل فرقة تلتمس لها سنداً من القرآن، ومن السنة، وما
كان بعض أصحاب الفرق ليتردد أو ليحجم عن التحريف في القرآن الكريم لو
استطاع ذلك، لا يمنعه عنه خوف من الله أو احترام لكتابه، فالذي يجرؤ
على الافتراء على الرسول صلى الله عليه وسلم لن يعدم جرأة على
الافتراء على الكتاب الذي جاء به.
فاستطاع أولئك أن يفتروا في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ما احتاج
إلى جهود علماء أعلام، حتى قاموا بتنقيتها من افتراءات المفترين، ودحض
شبهات الملحدين، حتى ظلت كما كانت محجة بيضاء، لا يزيغ عنها إلا
هالك.
فحين قال الزنديق لهارون الرشيد رحمه الله تعالى: "أين أنت من أربعة
آلاف حديث وضعتها فيكم، أحرم فيها الحلال، وأحلل فيها الحرام، ما قال
النبي صلى الله عليه وسلم منها حرفاً"، أجابه هارون: "أين أنت يا عدو
الله من أبي إسحاق الفزاري، وعبد الله بن المبارك، ينخلانها نخلاً،
فيخرجانها حرفاً حرفاً".
هكذا تجرأوا على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، أما القرآن فلم يجرؤ
أحد منهم على شيء من ذلك.
وحين قامت دولة الإسلام، واتسعت رقعته، حسبت طائفة أن المهمة انتهت،
وأن العقيدة انتشرت، ووصلت في الأرض مداها، فركنوا إلى الدعة، وآثروا
السكون، فالتمس الأعداء منهم هذه الغفلة، فتداعوا عليهم، وجيشوا
الجيوش، وجمعوا الجموع، وصبوا جام غضبهم على العالم الإسلامي في
أرضهم، يهدمون بيوتهم ومساكنهم، وفي أرواحهم، يقتلونهم رجالاً، ونساء،
وأطفالاً، كباراً وصغاراً، وفي تراثهم، يحرقون كتبهم، ومؤلفاتهم،
وعلومهم.
صليبيون.. وتتار.. ومغول.. وباطنية.. وملاحدة.. ثم استعمار بأبشع
صوره، وأردأ أشكاله، يستولي على العقول، فيسلخها من الدين، ويجردها من
الأخلاق، وينشر الفسق، والمجون، والبدع، والمنكرات، وصوراً من الجهل،
والدجل، والشعوذة.. حتى أعجزوهم عن حماية أنفسهم، أو عقيدتهم، أو
أرضهم، أو أعراضهم، أو أخلاقهم، حتى عقولهم باعوها بالرخيص لأولئك
فقلدوهم في مساوئهم، ولم يدركوا الأخذ بمحاسنهم، إن كان فيهم
محاسن.
بلبلوا أفكارهم، ورموهم في متاهات العقول، وراجت بينهم الشعارات
البراقة: التقدم.. التطور.. العلمانية.. الحداثة.. البنيوية..
التحرر.. الثورية.. التجديد.. القومية.. الاشتراكية.. الشيوعية..
شعارات جوفاء يرددونها لا يفقهون لها معنى، أو لا يدركون لها مرمى. مع
كل هذا التفكك في العالم الإسلامي.. وكل هذا التأثير من الأعداء فإنهم
لم يستطيعوا تحريف، أو تبديل، أو أدنى تغيير في هذا الكتاب، ولم
يكونوا من الزاهدين، ولا عنه من المتورعين، فهم أحرص الناس لو كانوا
يستطيعون.
استطاعوا الدس في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي تاريخ
المسلمين، وشوهوا قيادات إسلامية حكيمة، وزوروا أحداثاً، وحطموا دولاً
ومجتمعات، واتخذوا لهم زعامات أظهروها في صور الأبطال أو المصلحين، أو
أدعياء النبوة، حتى القرآن دسوا الشبهات في علومه ومعارفه، في نزوله
وجمعه، في تفسيره... الخ.
لكن شيئاً واحداً مع كل هذه الظروف، وكل هذه الأحداث، وكل هذه
القدرات والمحاولات، والمكر، والكيد، لم يستطيعوه، ألا وهو زيادة حرف،
أو نقص حرف، فضلاً عن الكلمة، أو تقديم جملة على جملة، أو تغيير عبارة
بأخرى في هذا القرآن.
هذا لم يستطيعوه.. ولم يدركوه، ولو اجتمعوا له، كانت المطابع عندهم
قبل أن يعرفها المسلمون بسنوات طوال، وكان عندهم من السلطة والقوة، ما
يستطيعون به طبع مصاحف مزورة، وترويجها بين المسلمين قبل أن يعرفوا
المطابع، أو في مجتمع لم يصل إليه المصحف، حاولوا ذلك لكن محاولاتهم
كلها تبوء بالفشل، وتعود عليهم بالخسار المادي، والفكري، فقد كان
المسلمون في هذه الناحية أقوى منهم، وإن كانوا أضعف في كل شيء، وما
هذه القوة إلا من: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا
لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:
9]
وأنى التفتنا يمنة أو يسرة، فلن نجد كتاباً يشارك القرآن في هذه
الخاصية.
دونكم التوراة والإنجيل، التحريف فيهما أشهر من أن يذكر، لم يحرفهما
الخصوم، بل حرفهما أهلهما وبأيديهم.
دونكم المؤلفات الهائلة التي ألفت بعد نزول القرآن بقرون وقرون، لا
تجدون أبداً مخطوطتين لكتاب واحد يتطابقان تماماً، فلابد من الاختلاف
في كلمة أو جملة، تصحيفاً أو تحريفاً، أو تغييراً أو تبديلاً، إن لم
يكن هناك اختلاف في فصول أو أبواب، وإن لم يكن هناك نقصان من مخطوطة
وزيادة في أخرى، ما الذي ميز القرآن الكريم عن هذا، والنساخ هم
النساخ، لا تجد نسخة تختلف عن الأخرى، لا أقول في جملة، ولا في كلمة،
ولا في حرف، ولكن في شكل لكلمة، إلا اختلاف في القراءات المشروعة،
وليس هذا باختلاف، بل هو زيادة في الحفظ، فالحفظ للقراءات المتواترة،
من حفظ القرآن: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا
لَهُ لَحَافِظُونَ}
[الحجر:9]
المبحث التاسع: أنه آخر الكتب المنزلة
رسالة محمد صلى الله عليه وسلم عامة للناس كلهم، والقرآن أيضاً كذلك،
فعن عمومية رسالة محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ
اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}
[الأعراف: 158]، وقال سبحانه: {
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ
إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ:
28]، وعن عمومية القرآن الكريم قال تعالى: {
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ
أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ
وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ
} [الأنعام: 19]
وإذا كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم عامة، والقرآن يخاطب الناس
جميعاً، من كان في عهده صلى الله عليه وسلم ومن سيأتي من بعده، فإنه
يظهر بهذا العموم أنها خاتمة الرسالات، وأنه خاتم الكتب المنزلة،
فليست البشرية بحاجة إلى دين جديد ما دام هذا الدين يشملهم جميعاً،
والقرآن يخاطبهم جميعاً، وهذا الزمخشري يقول في تفسير قوله تعالى: {
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً
لِلنَّاسِ} [سبأ: 28]: "إلا رسالة
عامة لهم، محيطة بهم، لأنهم إذا شملتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد
منهم".
هذا ما يظهر من عمومية الرسالة، فكيف إذا كان ختم النبوة قد وردت فيه
النصوص الصحيحة والصريحة، قال تعالى: {
مَا كَانَ مُحَمَّدٌ
أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ
النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:
40]
وتواترت الأخبار عنه صلى الله عليه وسلم بأنه لا نبي بعده .
وإذا كان محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، فإن القرآن الذي
أنزل عليه خاتم الكتب المنزلة.
وإذا كان الأمر كذلك فلا تحسبن ختم الرسالة بمحمد صلى الله عليه
وسلم، وختم الكتب بالقرآن الكريم، وختم الأمم بهذه الأمة، وختم
الأديان بالإسلام، أمراً هيناً، بل هو أمر عظيم يحتاج إلى وقفات
ووقفات.
فكون القرآن الكريم خاتم الكتب السماوية، يعني أن القرآن حجة قائمة
على كل من بلغه من الإنس والجن في كل زمان وفي كل مكان، وقد أمر
الرسول صلى الله عليه وسلم ببيان ذلك في قوله تعالى: {
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ
اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا
الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ
} [الأنعام: 19]
ولهذا قال مقاتل بن سليمان رحمه الله تعالى: "ومن يبلغ القرآن من
الجن والإنس فهو نذير لهم، يعني القرآن إلى يوم القيامة"، وقال أبو
السعود في تفسيره: "أي لأنذركم به يا أهل مكة وسائر من بلغه من
الأسود، والأحمر، ومن الثقلين، أو لأنذركم به أيها الموجودون ومن
سيوجد إلى يوم القيامة، وهو دليل على أن أحكام القرآن تعم الموجودين
يوم نزوله، ومن سيوجد بعد إلى يوم القيامة".
ويعني ختم الكتب بالقرآن أيضاً كمال الدين، قال تعالى: {
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ
دِينًا} [المائدة: 3]
نعم يعني كمال الدين، فليس من الحكمة أن تختم الأديان بدين ناقص،
والله عز شأنه حكيم عليم.
وتأمل أخي المسلم كمال هذا الدين، واستعرض موكب الأديان من قبله، منذ
خلق آدم عليه السلام، إلى رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، سترى أنبياء
تترى، فإن تأملت وتدبرت، رأيت كل نبي إنما أرسل لقومه، وأن كل رسالة
محدودة بزمن معين، فكل رسالة إنما هي لطائفة خاصة في بيئة خاصة، ومن
ثم كانت كل رسالة محكومة بظروفها، ومتوازنة مع هذه الظروف، فكان لكل
منها شريعة للحياة تناسب حال الجماعة، والزمان، والمكان، والعوامل
المؤثرة في حياتها.
حتى إذا ما أراد الله أن يختم الأديان كلها بدين واحد يجتمع عليه
الناس كلهم، أرسل لهم جميعاً رسولاً، برسالة تخاطب الفطرة الإنسانية
التي لا تختلف في بيئة أو في عصر عن عصر، لا تخضع لزمان معين، ولا
تتقيد بظروف معينة، لأنها تخاطب في الإنسان ملكة لا تتغير ولا تتبدل،
لا تتحور ولا تتطور: {فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ
عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ
} [الرُّوم: 30]
فجاء هذا الدين بكل ما تحتاجه البشرية. وبهذا كان كمال الدين، وبهذا
كان إتمام النعمة، وهو الذي ارتضاه الله سبحانه وتعالى لعباده
المؤمنين، واصطفاه لهم من الدين.
ويعني أيضاً وفاء الشريعة، وكمالها، وشمولها لحاجات البشر كلهم، في
كل مكان، وفي كل عصر إلى يوم القيامة، ففي القرآن التفصيل: {
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الكِتَابَ
مُفَصَّلًا} [الأنعام: 114]، فهو
النظام الشامل الكامل لشؤون الحياة كلها، فلا يبتغي المؤمنون به
بديلاً، ولا يرتضون إلا حكمه، ولا يقبلون إلا شريعته، ليس فيه نقص
يستدعي الإكمال، ولا قصور يطلب الإضافة، ولا اعوجاج يحتاج إلى
التعديل، ولا جمود يطلب التطوير، ولا البلى الذي يستدعي
التجديد.
بل هو الكتاب الكامل، الوافي، المستقيم، المتجدد في عطائه، الصالح
لكل زمان ومكان، وهذا بعض ما يعنيه كونه آخر الكتب المنزلة.
ويعني أيضاً حفظه عن التحريف، والتغيير، والتبديل، فكتاب لن ينزل من
بعده كتاب حقه أن يخص بالحفظ فلا تطاله يد التحريف، ولا تناله يد
التغيير، ولهذا تعهد الله سبحانه وتعالى بحفظه: {
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا
لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]،
دون سائر الكتب السابقة، قال الزمخشري: "وهو حافظ - أي للقرآن - في كل
وقت، من كل زيادة ونقصان، وتحريف وتبديل، بخلاف الكتب المتقدمة، فإنه
لم يتول حفظها، وإنما استحفظها الربانيين والأحبار، فاختلفوا فيما
بينهم بغياً، فكان التحريف، ولم يكل القرآن إلى غير حفظه"
ويعني كونه آخر الكتب المنزلة أن الدين الذي جاء به هو الدين الصحيح،
الذي يجب أتباعه، والذي ينسخ الأديان كلها، فلا يبقى في الساحة سواه:
{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا
فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:
85]
وقال سبحانه: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ
} [آل عمران: 19]
وقال سبحانه: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا
} [المائدة: 3]
ويعني كون القرآن آخر الكتب المنزلة، أن دينه دين خالد، وشريعته
باقية، وأنها الرسالة الأخيرة للبشرية كلها، فمن بدلها، فقد ابتغى غير
الإسلام ديناً: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا
فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ}، فلا مجال
أبداً لمزاحمة هذا الدين بدين آخر، ولا مجال أبداً لإقصائه عن مكانه
الذي خصه الله به، وما حفظ القرآن إلى يوم القيامة، إلا بقاء لهذا
الدين إلى يوم القيامة، فالله سبحانه وتعالى متم نوره ولو كره
الكافرون.
المبحث العاشر: هيمنته على الكتب السابقة
أصل الهيمنة: الحفظ والارتقاب، يقال - إذا رقب الرجل الشيء وحفظه
وشهده - قد هيمن فلان عليه.
وتقول: هيمن فلان على فلان، إذا صار قريباً عليه، فهو مهيمن.
ويسمى الحاكم على الناس والقائم بأمورهم: المهيمن .
ولفظ مهيمن كان أصله (مؤيمن) بالهمزة، ثم قلبت الهمزة هاء لقرب
مخرجها، كما تقلب في أرقت الماء، فيقال: هرقت الماء. ويقال: ماء
مهراق، والأصل: ماء مراق.
وأهل السنة والجماعة يؤمنون أن القرآن الكريم هو المهيمن على كل
الكتب قبله، بمعنى: أنه أمين عليها، حافظ لها، وشاهد على أنها حق من
عند الله تعالى، يصدق ما فيها من الصحيح، وينفي ما فيها من التحريف
والتبديل، ويحكم عليها بالنسخ أو التقرير، فما وافقه منها فهو حق، وما
خالفه منها فهو باطل، فصارت له الهيمنة عليها من كل وجه.
نص الإجماع الذي حكاه شيخ الإسلام: قال شيخ الإسلام رحمه الله:
"السلف كلهم متفقون على أن القرآن هو المهيمن المؤتمن الشاهد على ما
بين يديه من الكتب".
فهو الأمين والشاهد على ما بين يديه من الكتب، وهو أيضاً الحاكم على
كل كتاب قبله بإجماع المسلمين.
قال رحمه الله: "... إذ كان المسلمون متفقين على أنه لا يجوز لمسلم
أن يحكم بين أحد إلا بما أنزل الله في القرآن، وإذا تحاكم اليهود
والنصارى إلى المسلمين لم يجز لهم أن يحكموا بينهم إلا بما أنزل الله
في القرآن".
وقد بين رحمه الله السبب في احتلال القرآن هذه المنزلة العالية،
والمرتبة الرفيعة بقوله: "فإنه قرر ما في الكتب المتقدمة من الخبر عن
الله وعن اليوم الآخر، وزاد ذلك بياناً وتفصيلاً، وبين الأدلة
والبراهين على ذلك، وقرر نبوة الأنبياء كلهم، ورسالة المرسلين، وقرر
الشرائع الكلية التي بعث بها الرسل كلهم، وجادل المكذبين بالكتب
والرسل بأنواع الحجج والبراهين، وبين عقوبات الله لهم، ونصره لأهل
الكتب المتبعين لها، وبين ما حرف منها وبدل، وما فعله أهل الكتاب في
الكتب المتقدمة، وبين أيضاً ما كتموه مما أمر الله ببيانه، وكل ما
جاءت به النبوات بأحسن الشرائع والمناهج التي نزل بها القرآن، فصارت
له الهيمنة على ما بين يديه من الكتب من وجوه متعددة: فهو شاهد
بصدقها، وشاهد بكذب ما حرف منها، وهو حاكم بإقرار ما أقره الله، ونسخ
ما نسخه، فهو شاهد في الخبريات، حاكم في الأمريات".
ذكر من نقل الإجماع أو نص على المسألة ممن سبق شيخ الإسلام: تواترت
النصوص عن سلف هذه الأمة وخلفها على أن القرآن الكريم هو المؤتمن
والشاهد والحاكم على ما بين يديه من الكتب.
فقد روى الطبري رحمه الله بسنده عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في
تفسير قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا
عَلَيْهِ} [المائدة: 4]. قال:
"المهيمن: الأمين، القرآن أمين على كل كتاب قبله".
وروي عنه أيضاً أنه قال: {وَمُهَيْمِنًا
} أي: "حاكماً على ما قبله من الكتب".
وقال قتادة رحمه الله: {وَمُهَيْمِنًا
} أي: "أميناً وشاهداً على الكتب التي خلت قبله".
وعن سعيد بن جبير رحمه الله أنه قال: "القرآن مؤتمن على ما قبله من
الكتب".
وروى الطبري عن ابن زيد في قوله: {
وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ
} قال: "مصدقاً عليه، كل شيء أنزله
الله من توراة أو إنجيل أو زبور فالقرآن مصدق على ذلك، وكل شيء ذكر
الله في القرآن فهو مصدق عليها وعلى ما حدث عنها أنه حق".
وجميع هذه الأقوال كما قال ابن كثير رحمه الله: "كلها متقاربة
المعنى، فإن اسم المهيمن يتضمن هذا كله، فهو أمين، وشاهد، وحاكم على
كل كتاب قبله".
وإنما احتل القرآن الكريم هذه المنزلة لكونه يستحيل أن يتطرق إليه
التبديل والتحريف، ولا يمكن نسخه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم،
وقد ختم الله به الكتب.
قال الفخر الرازي رحمه الله: "إنما كان القرآن مهيمناً على الكتب
لأنه الكتاب الذي لا يصير منسوخاً البتة، ولا يتطرق إليه التبديل
والتحريف على ما قال تعالى: {
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا
الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ
} [الحجر: 9] وإذا كان كذلك كانت شهادة القرآن على أن
التوراة والإنجيل والزبور حق، صدق باقية أبداً".
مستند الإجماع في المسألة: لقد نص المولى جل جلاله في كتابه العزيز
على أن هذا القرآن هو الأمين على ما سبقه من الكتب، وهو الشاهد
والحاكم عليها فقال تبارك وتعالى في محكم التنزيل: {
وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا
عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ
أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ
شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً
وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا
الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا
كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}
[المائدة: 48]
قال ابن كثير رحمه الله: "جعل الله هذا الكتاب العظيم الذي أنزله آخر
الكتب وخاتمها وأشملها وأعظمها وأكملها، حيث جمع فيه محاسن ما قبله من
الكمالات ما ليس في غيره، فلهذا جعله شاهداً، وأميناً، وحاكماً عليها
كلها، وتكفل تعالى حفظه بنفسه الكريمة، فقال تعالى: {
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا
لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:
9]
فهو محفوظ بحفظ الله عز وجل إلى قيام الساعة، شاهد على هذه الكتب،
مبين ما حرف منها، وحاكم بما أقره الله وأمر به من أحكامها، وناسخ ما
نسخه الله منها، وهو أمين عليها في ذلك كله.
أما الكتب السابقة فقد بعث الله سبحانه وتعالى موسى عليه السلام ومعه
التوراة، فحرفها قومه، وبدلوا وغيروا، حتى أصبحت التوراة غير
التوراة.
وبعث سبحانه عيسى عليه السلام ومعه الإنجيل، فحرف كما حرفت، وبدل كما
بدلت، حتى أصبح الإنجيل غير الإنجيل.
وبعث الله أنبياء آخرين، وأنزل معهم الكتب، ولم تسلم مما أصاب
أمثالها، إلا القرآن الكريم، فقد أبى الله سبحانه وتعالى إلا حفظه: {
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا
لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:
9]
بل جعل القرآن مهيمناً على الكتب السابقة: {
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ
الكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ
وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ
وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ
جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا
} [المائدة: 48]
فجاء القرآن بالعقيدة الإسلامية التي اتفق عليها الأنبياء كلهم،
صافية نقية، ليكون ما جاء به القرآن حجة على الناس، وشاهداً على تحريف
الأمم السابقة لما نزل عليهم من الكتب، ومصححاً لأغلاطهم، وفاضحاً
لأباطيلهم:
{يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي
دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الحَقَّ إِنَّمَا
المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ
أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللهِ
وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ
إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ
} [النساء: 171]
{مَا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا
يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآَيَاتِ
ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}
[المائدة: 75]
ورد على اليهود فريتهم:
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ
وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ
} [ق: 38]
ونعى عليهم عبادة غير الله: {
أَتَدْعُونَ بَعْلًا
وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخَالِقِينَ
} [الصَّفات: 125]
وأبطل زعمهم: {وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ
غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ
مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ
} [المائدة: 64]
ورد على الفريقين عقيدتهم الباطلة:
{وَقَالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ
وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ
بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ
قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ
وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ وَالمَسِيحَ ابْنَ
مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا
إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ
} [التوبة: 30-31]
وأبطل زعم اليهود أنهم شعب الله المختار: {
قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ
الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ
فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ
أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ
} [البقرة: 94-95]
ورد زعم اليهود والنصارى معاً: {
وَقَالَتِ اليَهُودُ
وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ
يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ
} [المائدة: 18]
وقولهم: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا
أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْدًا
فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا
تَعْلَمُونَ} [البقرة: 80]
وأنكر زعمهم قتل المسيح عليه السلام وصلبه: {
وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا
صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا
فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا
اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللهُ
إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا
} [النساء: 157-158]
وكشف ابتداعهم الرهبانية: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا
كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ فَمَا
رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا}
[الحديد: 27]
والقرآن حين يكذبهم، يتحداهم بالإتيان بالتوراة: {
قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا
إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الكَذِبَ مِنْ
بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
} [آل عمران:94]
والآيات في هذا المعنى كثيرة وكثيرة، كلها شاهدة على تحريف التوراة
والإنجيل، ومثبتة الحق الذي يجب أتباعه، ودالة على أن الرسول صلى الله
عليه وسلم لو كان تلقى هذه الأخبار من أهل الكتاب في الجزيرة كما زعم
خصومه، لجاءت موافقة لمعتقداتهم، لكن القرآن من لدن حكيم عليم، أنزل
هذا القرآن الكريم وجعله مهيمناً على ما بين يديه من الكتاب، يرجع
إليه المحققون، وطالبوا الحقيقة، لمعرفة الخبر الصادق، والقصص
الحق.
وفي القرآن نصوص تؤكد هذه الحقيقة - هيمنة القرآن - وتدعو أهل الكتاب
إلى أتباعه، والأخذ به، وتحذرهم من ضلالاتهم، وتحريفاتهم الباطلة: {
يَا
أَهْلَ الكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ
كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ
كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ
} [المائدة: 15]
وبين في موضع آخر أن من مقاصد القرآن الأولى أن يبين لأهل الكتاب ما
اختلفوا فيه فقال سبحانه: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ إِلَّا
لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً
لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل:
64]
وقال سبحانه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي
إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَإِنَّهُ
لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم
بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ
إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ
} [النمل:76]
هذا قبس من هيمنة القرآن الكريم على الكتب السابقة لم يجعله الله
سبحانه وتعالى إلا لكتابه المبين.
- التصنيف: