بين القول والعمل
لا بأس من التركيز على قيمة العمل وعلى أهمية الأخلاق والسلوكيات.. لكن بشرط ألا يكون ذلك التركيز مدعاةً للمبالغة والغلو..
لماذا الإصرار على افتعال منافسة بين الأخلاق وبين العبادات؟!
بين القول والعمل..
بين الدعوة بالحال والدعوة بالمقال..
من قال أنها مسابقة أو مقام تفضيل لأحدهما على الآخر؟!
وياليت الأمر اقتصر على ذلك التفاضل أو التنافس المُتَكَلف..
للأسف هو لم يقتصر..
الحقيقة أنهم لم يكتفوا بالمقارنة أو المنافسة المزعومة بل قرروا ضمنيا تصريحا وتلميحا أن السّبق والأولوية والاعتبار والتقدير المطلق إنما هو للحال والأفعال بلا منازع..
دعونا من القول..
وماذا فعل الدعاة؟
لقد شبعنا كلاما ووعظا..
أفعال فلان وأخلاق علان خير من كلام ألف داعية وخطيب...
هكذا يتوالى الازدراء والتسفيه الضمني للدعوة الكلامية في مقام المقارنة مع الدعوة السلوكية وليُعلَى من قدر الأفعال على أنقاض الأقوال.
لكن هل ثمة فعلٌ يُقَدَّر ويُحمد من دون قول يُستَند إليه ويقوم عليه؟!
هذا في تقديري هو السؤال التأسيسي الذي بإجابته قد نبدأ بحل تلك المعضلة..
تخيل رجلا كريم الخصال باسم الثغر جوادا مُنفقا يجوب الدنيا ناشرا قيم العدل والبرّ مُعليا شأن الإنسان معتنيا بفقير وناصرا لضعيف وهو إلى جوار ذلك نموذج للنجاح والترقي في مجاله وهو يستعمل ذلك النجاح في دعم كل ما سبق. هذا بلا شك نموذج يستحق الثناء ويستأهل الاقتداء..
دعونا نقلده إذاً..
لكن لحظة..
إنه رجل هندوسي إذا مرّ ببقرة سجد لها وربما تبرك ببولها..
عندئذ هل سنجد من يدعونا أن نفعل مثل فعله؟
وإن وُجد فهل سنفعل؟
أعتقد أن المجيبين بنعم من الخفّة بمكان لا تجعل ثمة استحقاقا لتفنيد إجابتهم..
فلنركز مع أصحاب لا.
لن تفعلوا مثله..
لماذا؟
أوليس قدوة؟
أليس خلوقا؟
أليس نافعا؟
أليس ناجحا؟
بلى.. هو كل ذلك..
فلماذا لا نُقلده في معتقده؟
ببساطة لأننا نَظَرْنا في ذلك المُعتَقد..
في تفاصيله ومستنداته..
الفعل مبنيٌّ على قول ومن ثَمّ تدبرنا القول فوجدناه وثنية ساذجة لا يصح اتباعها..
لم تُغفل الأقوال إذاً؟
لم تُستبعد العقائد؟
لم يُتغاضى عن الأصول وتفاصيل التشريعات؟
إنها الأصل والأساس.
بل لا أخشى أن أقول - جدلا- أنه لو كانت ثمة ضرورة لمفاضلة لا محالة فالأفضلية ستكون لها..
إنها الدلالة التأسيسية..
التعريف..
البيان والتبيان الذي به يتمايز الحق من الباطل..
وإلى جوار ذلك يأتي العمل ليُصَدّق ما وقر في القلب.
لكن لحسن الحظ أن الأمر لا يحمل أصلا منافسة وإلا ما انتهينا من تلك الجدلية بسهولة.
لا بأس من التركيز على قيمة العمل وعلى أهمية الأخلاق والسلوكيات ولا مانع من بيان عظم شأن دعوة الحال والأفعال خصوصا في أزمنة غابت فيها تلك القيم أو كادت تغيب..
لا بأس أبدا من الضغط على معانٍ أخلاقية اندثرت في واقع الخَلق وتراجعت في بيئة صارت فيها الغلبة للغلظة والكراهية والشحناء..
لكن بشرط..
ألا يكون ذلك التركيز مدعاةً للمبالغة والغلو فيما يتم التركيز عليه لضرورة واقعية حادثة ولا أن يكون دافعا لتفريغ الدين من مضمونه العقدي والتعبدي والدعوي..
ألا نُصرّ على منافسة غير موجودة إلا داخل عقل قاصر لا يستطيع استيعاب توازن الشرع وتضافر جوانبه للوصول إلى الصورة المتكاملة المتجانسة بين الأمرين.
المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام.
- التصنيف: