إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق
أبو الهيثم محمد درويش
{ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } [ الزمر 1 – 3]
- التصنيفات: التفسير -
{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} :
هي كلمات صاحب العزة الكاملة و القهر و الجبروت , ذو الحكمة البالغة و العلم و الملكوت , سبحانه و تعالى تنزه عن كل نقص و استحق كل أوصاف الكمال و الجلال , و استحقت كلماته التقديس و التوقير الذي لا يحدث إلا بالإيمان والعمل بها .
أنزل كلماته على صفوة خلقه و خير رسله محمد صلى الله عليه و سلم ليخرج بها الناس من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد و من وساطة الشركاء و عجزهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له و دوام الصلة به بلا انقطاع في الدارين.
له الدين الخالص في عبادته و في حكمه و في أمره و نهيه وطاعته المطلقة سبحانه , لا وسطاء و لا معاونون له , فالكل له مخلوق مربوب , و هو وحدة الملك المدبر لشئون الخلق المالك لمقاديرهم المسيطر عليهم سبحانه.
و الله تعالى هو الحكم بين المؤمنين المخلصين , وبين من أشرك معه غيره أو ادعى أن من المخلوقين وسطاء بينه و بين خلقه , هؤلاء الذين كانت تجارتهم الكذب و التدليس و الاستكبار و العداء لله و رسله و أوليائه عبر تاريخ الإنسان , فمنعهم كذبهم و خراب قلوبهم من الإيمان بالله و التماس نور الهداية.
قال تعالى :
{ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } [ الزمر 1 – 3]
قال السعدي في تفسيره:
يخبر تعالى عن عظمة القرآن، وجلالة من تكلم به ونزل منه، وأنه نزل من اللّه العزيز الحكيم، أي: الذي وصفه الألوهية للخلق، وذلك لعظمته وكماله، والعزة التي قهر بها كل مخلوق، وذل له كل شيء، والحكمة في خلقه وأمره.
فالقرآن نازل ممن هذا وصفه، والكلام وصف للمتكلم، والوصف يتبع الموصوف، فكما أن اللّه تعالى هو الكامل من كل وجه، الذي لا مثيل له، فكذلك كلامه كامل من كل وجه لا مثيل له، فهذا وحده كاف في وصف القرآن، دال على مرتبته.
ولكنه - مع هذا - زاد بيانا لكماله بمن نزل عليه، وهو محمد صلى اللّه عليه وسلم، الذي هو أشرف الخلق فعلم أنه أشرف الكتب، وبما نزل به، وهو الحق، فنزل بالحق الذي لا مرية فيه، لإخراج الخلق من الظلمات إلى النور، ونزل مشتملا على الحق في أخباره الصادقة، وأحكامه العادلة، فكل ما دل عليه فهو أعظم أنواع الحق، من جميع المطالب العلمية، وما بعد الحق إلا الضلال.
ولما كان نازلا من الحق، مشتملا على الحق لهداية الخلق، على أشرف الخلق، عظمت فيه النعمة، وجلَّت، ووجب القيام بشكرها، وذلك بإخلاص الدين للّه، فلهذا قال: { فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ } أي: أخلص للّه تعالى جميع دينك، من الشرائع الظاهرة والشرائع الباطنة: الإسلام والإيمان والإحسان، بأن تفرد اللّه وحده بها، وتقصد به وجهه، لا غير ذلك من المقاصد.
{ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } هذا تقرير للأمر بالإخلاص، وبيان أنه تعالى كما أنه له الكمال كله، وله التفضل على عباده من جميع الوجوه، فكذلك له الدين الخالص الصافي من جميع الشوائب، فهو الدين الذي ارتضاه لنفسه، وارتضاه لصفوة خلقه وأمرهم به، لأنه متضمن للتأله للّه في حبه وخوفه ورجائه، وللإنابة إليه في عبوديته، والإنابة إليه في تحصيل مطالب عباده.
وذلك الذي يصلح القلوب ويزكيها ويطهرها، دون الشرك به في شيء من العبادة.
فالشرك اللّه بريء منه، وليس للّه فيه شيء، فهو أغنى الشركاء عن الشرك، وهو مفسد للقلوب والأرواح والدنيا والآخرة، مُشْقٍ للنفوس غاية الشقاء، فلذلك لما أمر بالتوحيد والإخلاص، نهى عن الشرك به، وأخبر بذم من أشرك به فقال: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } أي: يتولونهم بعبادتهم ودعائهم، [معتذرين] عن أنفسهم وقائلين: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } أي: لترفع حوائجنا للّه، وتشفع لنا عنده، وإلا، فنحن نعلم أنها، لا تخلق، ولا ترزق، ولا تملك من الأمر شيئا.
أي: فهؤلاء، قد تركوا ما أمر اللّه به من الإخلاص، وتجرأوا على أعظم المحرمات، وهو الشرك، وقاسوا الذي ليس كمثله شيء، الملك العظيم، بالملوك، وزعموا بعقولهم الفاسدة ورأيهم السقيم، أن الملوك كما أنه لا يوصل إليهم إلا بوجهاء، وشفعاء، ووزراء يرفعون إليهم حوائج رعاياهم، ويستعطفونهم عليهم، ويمهدون لهم الأمر في ذلك، أن اللّه تعالى كذلك.
وهذا القياس من أفسد الأقيسة، وهو يتضمن التسوية بين الخالق والمخلوق، مع ثبوت الفرق العظيم، عقلا ونقلا وفطرة، فإن الملوك، إنما احتاجوا للوساطة بينهم وبين رعاياهم، لأنهم لا يعلمون أحوالهم. فيحتاج من يعلمهم بأحوالهم، وربما لا يكون في قلوبهم رحمة لصاحب الحاجة، فيحتاج من يعطفهم عليه [ويسترحمه لهم] ويحتاجون إلى الشفعاء والوزراء، ويخافون منهم، فيقضون حوائج من توسطوا لهم، مراعاة لهم، ومداراة لخواطرهم، وهم أيضا فقراء، قد يمنعون لما يخشون من الفقر.
وأما الرب تعالى، فهو الذي أحاط علمه بظواهر الأمور وبواطنها، الذي لا يحتاج من يخبره بأحوال رعيته وعباده، وهو تعالى أرحم الراحمين، وأجود الأجودين، لا يحتاج إلى أحد من خلقه يجعله راحما لعباده، بل هو أرحم بهم من أنفسهم ووالديهم، وهو الذي يحثهم ويدعوهم إلى الأسباب التي ينالون بها رحمته، وهو يريد من مصالحهم ما لا يريدونه لأنفسهم، وهو الغني، الذي له الغنى التام المطلق، الذي لو اجتمع الخلق من أولهم وآخرهم في صعيد واحد فسألوه، فأعطى كلا منهم ما سأل وتمنى، لم ينقصوا من غناه شيئا، ولم ينقصوا مما عنده، إلا كما ينقص البحر إذا غمس فيه المخيط.
وجميع الشفعاء يخافونه، فلا يشفع منهم أحد إلا بإذنه، وله الشفاعة كلها.
فبهذه الفروق يعلم جهل المشركين به، وسفههم العظيم، وشدة جراءتهم عليه.
ويعلم أيضا الحكمة في كون الشرك لا يغفره اللّه تعالى، لأنه يتضمن القدح في اللّه تعالى، ولهذا قال حاكما بين الفريقين، المخلصين والمشركين، وفي ضمنه التهديد للمشركين-: { إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }
وقد علم أن حكمه أن المؤمنين المخلصين في جنات النعيم، ومن يشرك باللّه فقد حرم اللّه عليه الجنة، ومأواه النار. { إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي } أي: لا يوفق للهداية إلى الصراط المستقيم { مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } أي: وصفه الكذب أو الكفر، بحيث تأتيه المواعظ والآيات، ولا يزول عنه ما اتصف به، ويريه اللّه الآيات، فيجحدها ويكفر بها ويكذب، فهذا أنَّى له الهدى وقد سد على نفسه الباب، وعوقب بأن طبع اللّه على قلبه، فهو لا يؤمن؟"
#أبو_الهيثم
#مع_القرآن