ليَكُن رمضَانُك الأَخير
يا الله، يا الله.. فبصيام رمضان تُغفر الغدرات والفجرات وذنوب الخلوات، وبقيام رمضان تُعتق الرِّقاب من النيرانِ وتُبدَّل السَّيئات حسنات.
لأنَّ الزيارة لا تتكرَّر إلا في كلِّ عام مرة واحدة، ولأنَّ الضَّيف حقاً عزيز، ومدَّة إقامته جداً قصيرة، ولأنَّنا لا ندري هل يعود إلينا مرةً اُخرى ونحن في بُيوتنا في صحَّةٍ وعافيةٍ واطمئنان؟، أم في شغلٍ وسفرٍ ومرضٍ وحرمان؟، أو ربَّما يأتي ونحن في دارٍ أخرى نسألٌ الله حٌسن الختام.. لذا أردت أن اهتف في أعماقِ نفسي ونفسك، بأن نستعد للاستقبال ويكأنَّه - رمضانُك الأَخير - أردتُ أن تُجهِّز له قلبك، وتُصفِّي له ذهنك، وتنصرفُ فيه عن كل ما يَشغلُك، فتستعد له بقلبٍ جديد، ونفَسٍ طويل، وعملٍ دائم لا ينقَطع ولا يتوقَّف إلا مع رؤية هلال العيد..
ويكأنَّه رمضانُك الأخير، وفرصتُك الوحيدة للتَّغيير، فتدخل فيه بقلبٍ أنهكتهُ الذنوب والمعاصي، وعينٍ جفَّت فيها دموع الخوف والخشية، وضميرٍ غاب عنه الواعظ والرَّقيب، تدخل فيه بعد أحدَ عشرَ شهراً من الغفلة والنِّسيان، فلا خٌشوع في صلاة، ولا بُكاء في دعاء، ولا حُضور قلبٍ في ذِكرٍ ورَجاء، حتى جفَّت أرض قلوبنا فصارت جدبَاء، ولا حولَ ولا قوة إلا بالله..
ولكن... أبشر يا من تقرأ هذه السُطور الآن.. فمازال في العُمر بقيَّة، وفي الوقت متَّسع، وها قد أقبَل موسِم الشِّتاء، وآن أوانُ هطُول الغيث، فهيئ قلبك من الآن ليستقبل زخَّات المطر، ويعودَ إلى سابق عهده روضةً خضراء تسرُّ الناظرين، وقُل في سَرِيرَة نفسك كفى يا نفس!..، فإن لم يَحيا القلبُ في رمضان فمتى يَحيا؟، وإن لم تبرأُ فيه النفسُ من أمراضها وشهواتها فمتى تبرأ؟، وإن لم يغفر لنا الجليل في شهر المغفرة فمتى يكونُ الغفران؟، وقد هتف فيك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «شقِيَ عبدٌ أدركَ رمضانَ فانسلخَ منهُ ولَم يُغْفَرْ لهُ»! (صحيح الأدب المفرد [500]).
ويلٌ لمَن حضر سوق الرحمات فنام والسوقُ سينفضُ آخر الشهر!، ويلٌ لمَن وقف أمام جنَّة رمضان ولم يأخذ منها سهما!، لذا فنادِ من أعماقِ قلبك وقل مرحباً يا رمضان، واستقبلهُ بكلِّ كرمٍ وترحاب، فرُبَّما يكون استقبالك له هذا العام، هو الاستقبال الأخير. فأكثِر يا أخي من دُعائك "الَّلهم بلِّغنا رمضان" لأنَّ قلوبنا حقيقةً تحتاجُ إليه، فهوَ المَخرج بعد الله للنُّفوسِ المُرهقة المُتعبَة التي أَغلقت الصَّخرةُ مَخارِج غارِها وأغوَارِها، فأصبحت تائهةً ومُشرَّدةً في دنيا الشَّهوات والشُّبهات، لا تعرفُ معروفاً ولا تُنكر مٌنكراً، فجاء إليها رمضان بصيامه وقيامه، وصدقاته وقرآنه، وخيراته وبركاته، جاء إليها سيّد الشُّهور وبدر النجوم وقمر الليالي، يحملُ الخير ويقدِّم الهدايا والعطايا للمستقبلين، شهر في أوَّلِه رحمة للطامعين، وفي أوسطِه مغفرة للمذنبين، وفي آخره عتقٌ لرقاب العبيد الخائفين، تتزيَّن فيه الجِنان وتُفتَّح أبوابها، وتُغلَق فيه النيران وتُصفَّدُ شياطينها، وينادي منادٍ من السماء: «يا باغيَ الخيرِ أقبِلْ، ويا باغيَ الشَّرِّ أقصِرْ» (صحيح الترغيب [998]). فأرْعِ هذا النداء سمعك، فلرُبَّما كان النداءُ الأخير..
ألاَ فلتعلم يا أخي.. أنَّ رمضانُك هذا هو فرصة لا تٌعوَّض، ومنحةٌ إلاهية لا تُترك، وكيف لا..! وقد اختصَّك الله بها دون غيرك، فكم من النُّفوس رحلت قبل دخول الشَّهر وبقِيِتَ أنت، وكم من أصحاب الأعذار سيُحرمون صيامهُ وقيامهُ لتنَاله أنت، وكم من الغافلين سيَمُرُّ عليهم الشَّهر بأيامهِ ولياليهِ فيتركهم فضلهُ وتُدركه أنت، وكم من المغتربين سيَمضي عليهم الشَّهر يتنقَّلون من بلدٍ إلى بلدٍ فتذهب الَّليالي والأيام في الترحال، بينما أنت مُتفرِّغ في مسجدك، مرتاح البال هادئَ الفؤاد، وكم من المسجونين المغيَّبين عن الأهل والولد سيقضُون رمضانهم في الأَسر، بينما أنت في أهلك وبيتك قرير العين، مطمئن النفس،.. ألاَ فلتسجُد لله شُكراً على منحة رمضان الذي أُعطيتَه وأنتَ في صحة وعافية وستر من الله، فأحسِن الاستقبال والوداع فلعلَّه رمضانك الأخير..
ليكُن حال قلبك وفِكرك يا أخي أنَّك تحيا في أيَّام وليالي رمضانك الأخير، فاجعل منه يقظةً للإيمانِ الخامد، وفرصةً للتغير المنشُود، وليكن ملجأ لقلبك تُنقِّيه فيه مما علقَ به من أدرانٍ وأمراض، وتستنهض فيه همّتك، وتُحرِّك فيه من عزيمتك، وتبعث في كيانك كلَّه حالةً من النَّشاط التي يهجرُ فيها القلب والجسد النَّوم والكسل، فتتركَ الفراش الدافئ، وتطردَ عنك كلّ وِسواسٍ وخاطر، وتستجيب فيه للنِّداء النبوي الخالص: «أتاكم شهرُ رمضانَ، شهرٌ مبارَكٌ، فرض اللهُ عليكم صيامَه، تفتحُ فيه أبوابُ الجنَّةِ، و تُغلَق فيه أبوابُ الجحيم، وتُغَلُّ فيه مَرَدَةُ الشياطينِ، وفيه ليلةٌ هي خيرٌ من ألف شهرٍ، من حُرِمَ خيرَها فقد حُرِمَ» (صحيح الجامع [55])، وليكن شعارك يا أخي "لن يسبقني إلى الله أحد"..
ومما يجعلك مُنتظرا ومترقبا لهذا القادم العظيم، أنَّ بركاته لا تعدُّ ولا تُحصى، يكفي أن أسُوقَ لكم هذه البُشرىَ، وهي أنَّ صوم شهرٍ يغفر ذنوب عام، وتعب أيام تُلغي سيئات العُمر، وصحوة ساعة تُورث سعادة الأبد، ألا ما أغلى الهديَّة ثم أنَّ أكثرنا معرضون!، فمن منَّا لم يَبلُغه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم برواياته الثلاث: «مَن صامَ (من قامَ ليلة القدر، من قامَ) رمضانَ إيمانًا واحتسابًا ، غُفِرَ لَهُ ما تقدَّمَ من ذنبِهِ» (صحيح البخاري [2014]).
يا الله، يا الله.. فبصيام رمضان تُغفر الغدرات والفجرات وذنوب الخلوات، وبقيام رمضان تُعتق الرِّقاب من النيرانِ وتُبدَّل السَّيئات حسنات، وبقيام ليلة القدر في رمضان تكون خيرٌ لك من عبادة ألف شهرٍ، وفيها تَتنزَّل الملائكة بالرَّحمات.. ومما يُسعد قلبك بِقدوم رمضان أن تعتقد أنَّه هو حبلُ النَّجاة، فمن منَّا لم يقع فريسةً في بئر الشَّيطان مرَّة بل مرَّات، ومن منَّا لم ينَم عن الفجر وبخِل بالصدقة وخاض في المحرَّمات، ومن منَّا لم يُقصِّر في أعمال البر وحضور الجماعات، فيا أنَا ويا كلَّ هَؤلاء، ها هو حبلُ النَّجاة يُقدِّمه لك رمضان، لينتشلك من بئر الخطيئة الذي عِشت فيه أحدَ عشرَ شهراً، وينقلك إلى روضته وجنّاته، فتشبث بحبله وإلا ظللتَ في غيابات الجُبِّ بعد أن فقدت المُنقذ والدليل، وساعتها تتحسَّر ويَصدُق فيك قول القائل: "كم من مُتحسَّرٍ تحت التراب". ولكن هيهات هيهات..
وأخيراً يا أخي كن دائماً مستعدا للانطلاق في رحلةٍ سماوية، تبدأ كلَّ يوم مع طلوع الفجر الصَّادق وتنتهي في غروب الشَّمس، لتبدأ ليلةٍ جديدة بعد غروب الشَّمس إلى طلوع الفجر الصَّادق مرَّة أخرى، لا مجال فيها للتَّأخير، لأنَّ الوقت مُحدَّد ورمضان لن ينتظر المتخلِّفين، عليك يا أخي أن تحيا في رمضانك هذا ويكأنَّه سوق قائم مدته ثلاثون يوماً وليلة، تُعرض فيه البضائع، ويتنافسُ فيه التُّجار، حتى إذا انقضت المدَّة يكون قد ربِح فيه من ربِح وخسِر فيه من خسِر، فاجتهد أن تكون فيه من الرابحين. لتُصبح في ختامه من أهل الجائزة، الذين يُباهي بهم الله ملائكته، ويُنادَى عليهم يوم العيد: "صومكم مقبول، وعملكم مأجور، وذنبكم مغفور، عودوا إلى بيوتكم قد بُدِّلت سيئاتكم حسنات". اللهم آمين.
الكاتب: محمد فراج.
- التصنيف:
- المصدر: