من روحانيات الصحوة
إن من الدروس الخالدة التي تشربها أبناء الصحوة ، أن للدين رباً يحميه ، فلا يضيره ما يحاك له من كيد الكائدين ، و عبث العابثين ، فليس الشأن انتصار الدين فإنه لا يهزم ، و لكن الشأن هو ما قدمنا نحن لننال شرف الانتصار و الانتساب.
فرحان العطار
كان شاباً يافعا يلتقط أحاديث قومه ، و ربما ابتسم لبعض همزهم و لمزهم ، فهناك من يستهزئ باللحى ، و آخر يسخر من تقصير الثياب ، بينما يستمع في مجلس آخر لانتقاد لاذع لمن يريد تفريق الأسرة و يعبث بالعادات و التقاليد ، كمنع الدخول على النساء و ما يصاحبه من خلوة أو سلام أو كشف للوجه !
تبقى هذه المناكفات و التشغيب على قشور النفس ، لم تتسرب إلى لبها ، إذ تتحطم جميعها على صفيح فطرته ، و تلتهمه بنورها الصافي الذي لم تكدره تلك الدلاء بحبالها المهترئة البالية ، إذ لا يزال يظفي الكثير من الاحترام و التقدير لإمام حيه ، و يستمع بشغف و فضول لخطيب جمعته ، و لا مانع بشئ من الهالة و التقديس لمن يرى آثار الصلاح و الاستقامة بادية عليه.
يشعر ذلك الفتى بجدال يتلجلج داخل نفسه ، إذ يسمع النقد و يرى ما ينقضه ، و يرى قريبه فلان قد تخصص في النقد و التجريح ، لبعض المظاهر و المناظر التي يرى بأنها دخيلة على مجتمعه و بيئته ! ثم يسمع كلمة أو خطبة تهوي أمامها الكثير من حجج هذا القريب و ادعاءاته ، ...ثم لا تزال نفسه تنازعه ..
كانت بوادر التغيير القادم قد اتضحت معالمها ، و بيارق الصحوة تخفق في أنحائها ، إذ يلمسها الصغير قبل الكبير ، فيسمع بفطرته اللجج و الصخب ، و يرى ببصيرته النور الساطع في الأفق ، فهل تحجب ظلمة الليل بزوغ الفجر ، هيهات هيهات ! ذاك يتكأ على عصاه ، و الفجر يتبختر بفتوته و صباه!
فاندفعت بفطرتي بتوفيق الله نحوها ، والتحقت بركابها ، و اهتديت بأنوارها.
كانت هذه شهادته أمام رفاقه ، اثناء حديث تناول استجلاب الماضي ، و استحلاب الذكريات ، ليحكي كل واحد تجربته أيام الصحوة ، في ضمائر تكاد أن تذوب من تذكره ، و تود لو أنها جرته بدقه و جله ، لتنغمس فيه مرة بعد مرة، و تستمتع بذلك الزمن حلوه و مره.
بث آخر شجونه ، و تذكر كيف كان يخرج مع طلاب الجامعة ، إلى مكان ليس ببعيد ، و أغراض بسيطة غير مكلفة ، فيلعبون الكرة و يتمازحون فيما بينهم ، و عند المساء يطرح أحدهم موضوعاً ، يتجاذبون أطراف الحديث حوله ، ثم يعودون بنفوس غير ما دخلوا بها ، قد أعمل فيها الايمان و أضاء بنوره في أركانها ، فذهبوا بقليل من الدنيا ، و عادوا بكثير من الإيمان و العمل.
بينما طرح آخر سبب حفظه الزهراويين ، عندما سمع بفضلهما ، فكان همه : كيف يُنال هذا الفضل ؟ فأخذ يسأل و يسأل ! حتى استقر عنده أهمية حفظهما ، فعكف عليهما حتى أتقنهما.
و آخر رآى عالماً في مسجده يطيل الصلاة جدا ، فكان يجلس في آخر المسجد ، يرمق ذاك العابد المتجسد أمامه ، بعيدا عن التنظير و الكلمات التي تذهب هباء ، لعدم وجود من يثبت قوائمها في الأرض، كهذا المصلي الذي يراه أمامه.
و في مجال آثارها و ما احدثته في المجتمع قال أحدهم : في بواكير الصحوة كانت المساجد و الجوامع تشتكي من شُح في الأئمة و الخطباء ، و لقد تقدمت على إمامة مسجد فتم استقبالي و الترحيب ، و لم يزالوا بي حتى خرجت من عندهم و أنا إمام و خطيب بأعلى الفئات ، لم استمر فيها طويلاً بسبب ظروف العمل ، ثم بعد سنوات تقدمت مرة أخرى لإمامة مسجد ، فتم الاتصال علي بعد ثلاث سنوات ، يخبرني بوجود مسجد في آخر الحي الذي أسكنه!
يقول آخر : أشهد بالله لقد دخلت جامع السكن بالجامعة ، في آخر ساعة يوم الجمعة ، فإذا الجامع يعج بالداعين الذين يجأرون لله بالدعوات ، و يسألون ربهم من خير الدنيا و الآخرة.
و في مشهد آخر : و بعد صلاة العشاء ، انصرف الإمام من الصلاة و استقبل المأمومين ، كان تأثره واضحاً للجميع ، اقترب من اللاقط ، فما بدأ كلامه حتى أجهش بالبكاء ، ترى لماذا ؟
سقطت مدينة في البوسنة بيد الصرب الصليبين الحاقدين!
هكذا كانت الصحوة مع مآسي المسلمين ، حين جعلت الأمة كالجسد الواحد!
في زمن الصحوة لن تعدم أن ترى مصليا يطيل الصلاة ، أو صائما يسرد الصوم ، أو قائما في ظلمة الليل يحذر الآخرة و يرجو رحمة ربه ، أو قارئاً يذكر بوعد القرآن و وعيده، أو كلمة تذكير في مسجد ، كما تعج المدن و القرى بالدروس و المحاضرات.
في زمن الصحوة لن تعدم من يؤنسك في المسجد ينتظر الشروق ، و لا من يعظ الناس في مسجد حيك ، و لا من يقوم على الأرامل و المساكين ، و لا من يوزع شريطاً ، أو يفرغ محاضرة ً، أو يطبع كتابا ، أو من يخطب عنك أو يؤم في صلاة التراويح و القيام.
في زمن الصحوة استنفرت الطاقات ، فلا ترى العالم يضن بعلمه ، و لا الغني يبخل بماله ، و ترى كل من إعطي موهبة و قدرة استغلها و تقرب بها إلى ربه ، فلا عجب أن ترى من يساعد فقير ، أو من يسعى على أرملة و يتيم ، و هناك من يحمل الكل و يصل الرحم و يزور المريض و يطعم الطعام و يعين على نوائب الحق ، و آخرون قائمون على حلقة أو حلقات ، و آخرون يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكرات.
كانت الأجواء مفعمة بروح الإخوة و الايمان ، و النور يشع من تلك الوجوه و الشفاه ، و آثار العبادة و السجود تظهر على الجباه، كل يريد أن يساعد أخاه ، و يجتهد أن ينال محبته و رضاه ، تكاد تلمس الرضا و محبة الخير في ودواخلهم ، مما ظهر من نورها و آثارها في واقعهم.
إن من الدروس الخالدة التي تشربها أبناء الصحوة ، أن للدين رباً يحميه ، فلا يضيره ما يحاك له من كيد الكائدين ، و عبث العابثين ، فليس الشأن انتصار الدين فإنه لا يهزم ، و لكن الشأن هو ما قدمنا نحن لننال شرف الانتصار و الانتساب.
و من الدروس أيضا : أن هذه الصحوة هي مظهر من مظاهر التجديد لهذا الدين ، فطمس الله بها الكثير من الشعارات و التحزبات ، التي سببت الكثير من المصائب و الكوارث لبلاد المسلمين ، فجاءت هذه الصحوة لتحيي مقولة عمر " نحن قوم أعزنا الله بالإسلام ، فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله " ، و كما أنها طمست ما سبق ميلادها ، فإنها ستطمس كل خديج يرفع رأسه ، يمت لتلك الشعارات و المظاهر بسبب او نسب.
كل طأطأ راْسه ، و هو مقتنع بكل هذا ، و كان وقع الحديث مؤثراً على الجميع ، فبعضهم يتحدث و يخفي عبرته ، و ساكت قد انسكبت دمعته ، و متلوع يشكو حسرته ، كيف لا و كل يتذكر أيام أنسه ، و يتوق ان يكون يومه كأمسه.
نظرت لمن حولي ، فإذا منهم المعلم و الطبيب ، و المهندس و أستاذ الجامعة و الخطيب ، و القاضي و طالب العلم ، و الموظف و العسكري ، و الأب و المربي و المستشار الاسري و المدير ......
تنهدت و قلت في نفسي :
ما اجمل اثرالصحوة في مجتمعها ، فهؤلاء هم فلذات أكبادها ، قد تفرقوا في الأرجاء ، كل يقدم لأهله و مجتمعه و أمته ما يقدر عليه ، فلله درها ، و رفع الله قدرها ، و أعلى شأنها ، و قدر دعاتها و علمائها ومجتمعاتها و امتها.
فرحان العطار
- التصنيف: