التغيير والاستقرار.. المعادلة الغائبة في ثورة مصر
عصام زيدان
في ظل الأحداث الكبرى تحدث انقسامات فكرية وثقافية كبيرة، وغالباً ما
تنحى الفئة صاحبة هذا الحراك ناحية فكرة ذات معالم واضحة وتتمحور
حولها، بينما تصطف في مقابلها فئة أخرى، ويبدأ حينها الصراع الفكري
والثقافي الذي تتمايل معه حيث مالت كتلة الشارع..
- التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -
في ظل الأحداث الكبرى التي تمر بها الأمم تحدث انقسامات فكرية وثقافية
كبيرة، وغالباً ما تنحى الفئة صاحبة هذا الحراك ناحية فكرة ذات معالم
واضحة وتتمحور حولها، بينما تصطف في مقابلها فئة أخرى، ويبدأ حينها
الصراع الفكري والثقافي الذي تتمايل معه حيث مال الكتلة الكبيرة
الصامتة من الشارع.
وقد تتصاعد لغة الحوار حينذاك لتلتقي الأطراف المنقسمة حول قواسم
مشتركة سالكة سبيل الحوار البناء فينجو معها مجتمعها من الفتن
المظلمة، وقد يهبط مستوى الحوار إلى ما دون التراشق بالاتهامات
والتخوين إلى الشجار الإجرامي ومعارك الشوارع مرتكزاً على العوامل
المادية البحتة لحسم الصراع الفكري فيأخذ الأمم وشعوبها حينها إلى
دوامة الفتن المهلكة.
ولم يكن حال الأمة المصرية ببعيد عن هذا التوصيف سالف الذكر، فالحراك
الذي أحدثه نزول الشباب يوم 25 يناير مطالباً بمعادلته ثلاثية الأبعاد
(التغيير.. الحرية .. العدالة الاجتماعية) تلقفه الشارع بنوع من
القبول والاحترام لعظم هذه المطالب، وكونها، فضلاً عن شرعيتها
ومشروعيتها، تعبر بصدق عن تطلعات الشارع المصري وتعكس نبضه الحقيقي
بصورة جمعية متجنبة المصالح الفئوية الضيقة والأهداف الحزبية
القاصرة.
انقسام المثقفين:
وما لبث أن امتص الشارع صدمة هذا النزول الحضاري وبدأ الانقسام يدب
بين الأطراف الثقافية والحضارية، ووجدنا ذلك الشارع ينقسم على نفسه
إلى فسطاطين كبيرين... الفسطاط الأول ينحو إلى التغيير الجذري
باعتباره المطلب الأساس الذي قام الشباب من أجله وتظاهروا لإيجاده
واقعاً ملموساً بعد غياب دام عشرات السنيين عن عالم السياسية وانسحب
منها على كافة المناحي الأخرى.
وتمثل هذا الفسطاط في الحركات الشبابية التي فجرت شرارة الثورة الأولى
بدعوتها ونزولها للشارع في 25 يناير، مثل حركة 6 أبريل وغيرها من
الحركات المماثلة، ودعمتها بعض فصائل الإسلام السياسي التي تحظى بوجود
مجتمعي منظم كجماعة الإخوان المسلمين. والتحقت بهم على الأطراف غالبية
الأحزاب السياسية، تلك الكيانات الهشة التي رأت في هذه المطالب فرصة
قد لا تتكرر في الظهور الإعلامي والتسرب إلى دهاليز السلطة والحكم،
وهي الكيانات التي لم يعرفها الشارع من قبل، ولم ترفع يوماً لواءً
مطالباً بحقوق هذا الشارع، ولم تبذل من أجله من وقتها ولا مالها ولا
دماءها، بل آثرت السلامة على المواجهة ولم تحرك من قبل ساكناً في
الحياة السياسية أو الاجتماعية.
وأفرز هذا الاصطفاف الواضح الجلي حول التغيير، محور مناظر يرى في
الاستقرار دعامة لأمن هذا الوطن الكبير، وفيه النجاة من الفتن المهلكة
والاضطرابات العاصفة.
الخوف من اللبننة أو العرقنة:
وجمع هذا الفسطاط في طياته فئات من الناس، منها المثقفين والمفكرين
والمنظرين الذين ينطلقون في رؤيتهم من منظور حضاري ورؤى سياسية
معتبرة، مدفوعة بحب هذا الوطن والشفقة عليه من اللبننة حيث التعطيل
شعار الدولة، أو العرقنة حيث يطل شبح التقسيم والتفتيت من وراء
المذهبية الدينية والطائفية العرقية.
ثم التحقت بهم بعد ذلك فئة من الانتهازيين المنتفعين في كل العصور، من
بعض رجال الأعمال والسياسيين وأصحاب المصالح الذين يضيرهم التغيير
ويرونه عاصفة جامحة تطيح بأحلامهم ومستقبلهم، وهم القوم الذين لا
يعرفون إلا الانتهازية والوصولية والانتفاعية وصولاً لمآربهم وأهدافهم
الشخصية.
ووقف الشارع لينظر نتيجة هذا الصراع الفكري، الذي وللأسف تدهور في بعض
أوقاته إلى صراع دموي وتراشق بالنابي من الاتهامات، ولكن ما لبث أن
عاد إلى جادة صوابه مكتفياً بالأسلوب الحضاري الذي به ترتقي الأمم
وتصعد، وبات الشارع حتى اللحظة يتمايل مع هذا الحوار حسب منطق كل فريق
وحجته التي تدعم رأيه، ولم يحسم توجهه بصورة كلية بعد.
والمشكل في هذا الحوار، والذي جعل الشارع حائراً والموقف ملتبساً،
تكمن في هذا الاصطفاف الحاد من فريق الاستقرار والذي جعل من التغيير
لفظة مضادة لما ينادي به من استقرار، حتى ترسخ في بعض الأذهان أن كل
من نادي بالتغيير فهو من دعاة الفوضى علم ذلك أو جهل، حسنت نيته أم
ساءت.
فهم يرون في بقاء الرئيس وبعض الرموز الأخرى "صمام الأمان" للبلد من
الانزلاق في هاوية الفوضى، ومن ثم اقتصرت رؤيتهم على إدخال تحسينات
سياسية واقتصادية وصهرها في بوتقة النظام الحالي حفاظاً على هذا
الاستقرار المزعوم، مع إزاحة بعض الشخصيات التي اقترن اسمها بالفساد
واستفزاز الشارع كرجال الأعمال من واجهة العمل السياسي.
وتناسوا في غمرة حبهم ورغبتهم في الاستقرار أن المشكلة هي في المنظومة
الكاملة لهذا النظام الذي فقد صلاحيته، ولم يعد يحظى بثقة الشارع،
وسقطت شرعيته بمجرد خروج التظاهرات المليونية المطالبة والعازمة على
رحيل النظام كله، وليس مجرد بعض رموزه وشخصياته.
والأمر ذاته قد ينطبق في بعض جوانبه على الفريق الآخر، فريق التغيير،
الذي جعل من لفظة الاستقرار مرادفة لبقاء الوضع الراهن بشخوصه وآلياته
في الحكم وإدارة الدولة، ولم يرى فيها إلا ذلك الجانب المظلم الذي
يضاد طموحاته وآماله في التغيير الجذري التي من أجلها تظاهر واعتصم
وما زال، وذهب إلى ضرورة اجتثاث هذا النظام من جذوره وبصورة
فورية.
وربما غاب عن الأنظار في دوامة المطالبة بالتغيير المشروع أن له من
السنن والآليات التي ربما تجاوزها يوقع البلد في مأزق خطير، وأن
المصلحة العليا لهذا الوطن الذي من أجله حرصنا على التغيير تقتضي
التدرج والحافظ على أمنه القومي من التردي.
ومما زاد من حدية المواقف وغياب المعادلة التوافقية التي تقرب
المسافات بين الطرفين تلاشي المفكرين الوسطيين الذين يحظون باحترام
وثقة كافة الأطراف المتصارعة فكرياً وثقافياً، والذين بمقدورهم بلورة
معادلة تنهي هذا الجدل وتعيد صياغة مواقف الأطراف لتنهي اصطفافها
الحاد لتتسم بمرونة تسمح لها برؤية الرغبة في التغيير محفوفة ومشبعة
بروح الاستقرار والحفاظ على مقدرات الأمة المصرية ومكتسباتها.
وعلى ذلك فإن المعادلة التي نراها تجمع شتات الأمة هي تلك التي تدمج
التغيير باعتباره مطلباً شعبياً ملحاً لا غنى عنه، ومن أجله انتفض
الشباب والتفت حولهم الملايين، والاستقرار الذي يحافظ على أمن الوطن
ومقدراته ومكتسباته على كافة المستويات.
تغيير السياسات وليس الشخوص:
وهذا التغيير الذي نتحدث عنه ليس فقط في الشخوص والأفراد، لكنه يتعدى
ذلك إلى الآليات السياسية وطريقة إدارة الوطن وعلاقة السلطة والنظام
بالشعب والمواطنين، وعلاقة القيادة السياسية كذلك بالقوى الخارجية
والعلاقات الدولية، بما يعكس رغبة الشعب ومصالحه وليس فئة محددة ذات
مصالح شخصية وفئوية.
وإذا ما تحدثنا عن الاستقرار فإنما نعني به تلك الوضعية التي تحافظ
على ما تم تحقيقه من مكتسبات اقتصادية دفع الشعب والمواطنين ثمنها
والبناء عليها، وكذا الحفاظ أمن الوطن المواطنين من العبث
والفتن.
هذا الوطن الكبير ما أحوجه إلى التغيير والاستقرار، فبهما معاً يخطو
خطواته نحو المستقبل الذي ينشده الراشدين من دعاة التغيير ويطمح له
الغيورين لا المنتفعين من أنصار الاستقرار.
الثلاثاء 08 فبراير 2011 م