هو الغرق إذاً..
محمد علي يوسف
العوامل المشتركة بين كل تلك المشاهد هي ذات الأشياء الرائعة السالف ذكرها
حسن نية وحماسة وجرأة وإقبال
لكن من دون أدوات تكفي
من دون فهم أو علم
هو الغرق إذاً..
وبنية صالحة
- التصنيفات: الدعوة إلى الله -
السباحة شيء والإنقاذ شيء آخر
إجادتك السباحة لا تعني أبدا أنك تستطيع إنقاذ من لا يجيدها
حفاظك على حياتك لا يعني قدرتك على حفظ حياة الآخرين
هذه القواعد الذهبية لم أستطع تعلمها بالطريقة السهلة أثناء تعلمي تلك الرياضة الجميلة
السباحة
لم أتعلمها إلا حينما كدت أدفع الثمن باهظا
حياتي
نعم يوما ما كادت حياتي أن تكون ثمن التعلم
بدأ ذلك حين ظننت أني قد صرت سباحا محترفا
وكيف لا وقد صارت ممارستي لتلك الرياضة بمثابة نوع من تمارين (الكارديو) كالجري والدراجات
لم تعد المشكلة أن ألتقط أنفاسي دون أن تمتليء رئتاي بالماء ولم يعد الغرق هو الهاجس الأكبر الذي يشغلني أثناء تواجدي بمسبح عمقه يكاد يصل لضعف طول قامتي
صار المهم هو عدد الأمتار التي سأقطعها اليوم والمدة التي أنجزها فيها أقصرت بما يكفي أم أن سرعتي بحاجة إلى مزيد من المران
لا شك إذاً أني قد صرت سباحا ماهرا
كم كنت ساذجا مغرورا..
فلندعنا إذاً من تلك التوصيات والتحذيرات التي يصر المدربون على تأكيدها
هم يبالغون دوما كما تعلم
إن هذا الشاب على وشك الغرق وأنا الأقرب إليه
هاهو المنقذ يصيح بي لألحق به فالفتى قد ابتلع على ما يبدو مياه تكفي لري حديقة صغيرة
أي حماقة دفعته لوضع نفسه في مسبح بهذا العمق ومن الواضح أن خبرته في السباحة لا تزيد عن خبرتي في الهندسة النووية
ليس هذا وقت تبكيته.. المهم الآن أن يظل حيا بما يكفي لتبكيته بعد ذلك كما ينبغي
الآن حانت الفرصة لأستعمل خبراتي الهائلة في السباحة (هكذا كنت أتصورها)
لأقومن معه بتلك الطريقة التي علمني إياها المدرب والتي لا أحتاج فيها إلى يداي وأطفو فقط عن طريق قدماي
لقد أخبرني الكابتن أنها طريقة مهمة إذا أردت يوما أن أستعمل يدي في مساعدة المحتاج
وهاهو المحتاج أمامي ويدي هي تلك القشة التي ينتظرها
كانت تلك الأفكار تتدافع إلى ذهني بسرعة وقد حسمت أمري مسارعا لإنقاذ الفتى
مددت يدي إليه بسرعة وبدأت في اللحظة نفسها بتحريك قدماي بطريقة معينة لأحافظ على اتزاني حين أشده إلى بر الأمان
هكذا كنت أتصور
أو أتمنى
كل ذلك تبدد في لحظات حين أمسك الفتى بيدي بقوة مذهلة وجذبني بقسوة مفرطة لا تتناسب مع سنه ولا جسده الضئيل
إنها غريزة البقاء في أوضح صورها
فجأة وجدت نفسي في أعماق المسبح والفتى يتسلق جسدي ويصعد على كتفي ويتكيء بيديه على رأسي
ماذا تفعل يا بني؟
أتحاول قتلي؟
أهكذا تجازي من يحاول مساعدتك؟
المياه تملأ رئتاي بسرعة والصورة تزداد ضبابية
الشاب قوي جدا أو هي الرغبة في الحياة أو أنا الضعيف لم أعد أعرف أو أميز
هل هي النهاية إذاً؟
ولكنني لست مستعدا بعد
هل أقاومه؟
هل أدفعه أو ألكمه أو أفعل أي شيء يحول بيني وبين هذه النهاية؟
ولكن هذا يعني أنه قد يكمل غرقه فهل أستبدل حياتي بحياته؟
وهل هذا من حقي أصلا؟
وما الذي وضعني في هذه الورطة أصلا؟
يد قوية قطعت كل تلك الأفكار لتجذبني
لتنقذني..
ها هو الهواء الشهي من جديد
بجشع ونهم استنشقته أخيرا وقد نجح المنقذ في الوصول إلينا وباحترافية استطاع أن يتفادى ما وقعت أنا فيه
استطاع أن ينقذ
ولم أستطع أنا
بل الحق يقال لقد كدت أتسبب في كارثة لنفسي أو لغيري
ربما لو تأخر المنقذ لحظات لكان الفتى قد تمكن من إغراقي
ولربما استجمعت قواي ودفعتني غريزة البقاء لمدافعته ومن ثم إغراقه لإنقاذ نفسي
ثمة غريق كان سيخرج من ذلك المسبح بسبب حماقتي وجهلي وقد يكون هذا الغريق هو أنا
قتلوه قتلهم الله
كان هذا هو حكم النبي صلى الله عليه وسلم على من تسببوا في مقتل رجل من الصحابة بسبب تسرعهم في مساعدة ليسوا أهلا لها
يقول سيدنا جابر بن عبدالله رضي الله عنهما: "خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ، فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ، فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ احْتَلَمَ، فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ، فَقَالَ: هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ، فَاغْتَسَلَ، فَمَاتَ.
فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ: قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ، أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا" حسنه الشيخ الألباني بشواهده في صحيح سنن أبي داود
هل كان من أفتوه يريدون قتله؟
الظن فيهم ضد ذلك وهو إرادتهم مساعدته لكن القدرة على تلك المساعدة لم تكن موجودة والخطأ كان يكمن في عدم تقديرهم لذلك النقص في تلك القدرة ومن ثم حدثت المأساة ومات الرجل بسبب إجابتهم
يشبه ذلك ما حدث لذلك العابد الذي أفتى قاتل التسع وتسعين نفسا بأنه لا توبة له فقتله الرجل وأتم به المائة
فقد الرجل حياته بسبب تسرعه
بسبب إقدامه على شيء ليس في قدرته ولا إمكانياته
بالتأكيد لم يكن يريد ذلك وربما ملأت صدره مشاعر الغضب لله والغيرة على حرماته التي انتهكها قاتل المائة فخرجت كلماته من منطلقات إيمانية وحماسية وليس لإهلاك نفسه والإضرار به وبمن سأله
لكنه تسرع وأقدم على ما لا قبل له به
وهلك..
النية الصالحة والرغبة في الخير والحماسة والإقبال على النفع المتعدي؛ كل ذلك من الأشياء الرائعة حقا لكنه لا يكفي للإصلاح
للإصلاح طرق ووسائل ومعايير ينبغي على الصادق أن يسلكها ويلتمس مصادرها قبل أن يبالغ في إحسان الظن بنفسه فيفسد من حيث أراد الإصلاح وينفر وهو المريد تغييرا للأفضل ولقد خاطب النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وهم من هم من المكانة والدرجة فقال: إن منكم لمنفرين
فما بالك بنا؟!
كما أن سباحا ماهرا لا يشترط أن يجيد الإنقاذ فإن عابدا قواما صواما قد لا يستطيع الدعوة ولا يقدر على إصلاح غيره
هو صالح في نفسه جزاه الله خيرا لكن الإصلاح أمر آخر لا
يريد أن يصير منقذا؛ هذا عظيم ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا
فليتعلم إذاً كيف يصير واحدا من هؤلاء وكيف يتحمل تلك المسؤولية
مسؤولية إنقاذ حياة
والإنقاذ من النار هو مسؤولية كذلك
حين أتذكر ما حدث لي في المسبح تعود إلى ذهني مشاهد وشخصيات وأحداث تكاد تطابق ذات المشهد لكن من دون المياه المتناثرة
مشاهد زجر وقسوة في غير مواضعها ومشاهد لين في مقامات لا يناسبها ومشاهد قول على الله بغير علم ومشاهد أقل ما يقال عنها أنها تنفير وصد عن سبيل الله إن لم تكن ضلالا وإضلالا
العوامل المشتركة بين كل تلك المشاهد هي ذات الأشياء الرائعة السالف ذكرها
حسن نية وحماسة وجرأة وإقبال
لكن من دون أدوات تكفي
من دون فهم أو علم
هو الغرق إذاً..
وبنية صالحة