ذنوب الخلوات: المقال الخامس
وإنَّ منَ المُجاهرةِ أن يعمَلَ الرَّجلُ باللَّيلِ عملًا ، ثُمَّ يصبِحَ وقد سترَه اللَّهُ ، فيقولَ : يا فلانُ ، عمِلتُ البارحةَ كذا وَكذا وقد باتَ يسترُه ربُّهُ ويصبِحُ يَكشِفُ سترَ اللَّهِ عنهُ تأمل نداءه.. يا فلان
أقوام ظاهرهم الطاعة وصلاح خارجهم لا تخطئه عين
هم قوامون صوامون فيما يبدو للناس
وإن حسناتهم من الكثرة لدرجة جعلتها تشبه بالجبال
تخيل أنهم يأتون يوم القيامة بجبال من الحسنات وحينئذ ستدرك حالهم الظاهر في الدنيا وإقبالهم المنظور على الطاعات المورثة لتلك الحسنات الوفيرة
لكن هذه الجبال لا تلبث إلا وتتصدع وتنهار متحولة إلى هباء منثور
السبب لهذا الحبوط المخيف يوضحه النبي صلى الله عليه وسلم في خاتمة الحديث
إنها معصية السر
ذنوب الخلوات
وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا
تلك هي آفتهم وهذه هي مصيبتهم
لكن النبي أيضا تحدث عن خطورة نقيض هذا الفعل
خطورة المجاهرة
" «كلُّ أمَّتي مُعافًى إلَّا المُجاهِرينَ» "
ظاهر الحديث الثاني , تخفيف أثر الإسرار بالذنب وتشديد الترهيب من المجاهرة به
قد يظن البعض أن ثمة تعارض مع الحديث الأول وما كان على شاكلته من ترهيب ووعيد مترتب على معاصي السر فلا يدري إذا ما عليه فعله
أأجهر بالذنب أم أُسِرُّ به؟
المجاهرة أفضل أم أن العافية في التستر والاستخفاء؟
أسئلة مشروعة هي وقد يكون لها وجه إذا تم التعامل مع الأحاديث منفردة وبمعزل عن الصورة الكاملة للذنوب والمعاصي وحال الإنسان أثناء مقارفتها وطبيعة الدافع من وراء الإسرار أو المجاهرة
ذكرت من قبل أن تحديد قيمة أي عمل ترتبط بشكل وثيق بحال القلب أثناء ارتكابه
هذا المتستر قد يكون تستره بالذنب حياء من صالحي قومه أو درءا لمفسدة الاقتداء به وتسهيل المعاصي وهوانها على الخلق وتكثير سواد العصاة وشيوع الفاحشة بين المؤمنين وهو أثناء استخفائه بالذنب لا يستهين بسمع الله وبصره ولا يستخف بمقامه بل ربما كان يرجو منه توبة وعونا على الإقلاع ولا يكاد يفارقه الندم ولا تخبو حرقة الألم من قلبه حتى أثناء وقوعه في الذنب وهو حين تستره يعلم أن مولاه ستير حليم يمهل ويعطي للعبد الفرصة تلو الأخرى لعله يرجع بينما يفعل الناس ضد ذلك ولن يرحموا ضعفه وزلته
صاحب هذا الحال وهذا القلب هو بلا شك وإن عصى سرا ً أفضل حالا من المجاهر الذي تتحول المعصية معه إلى فجور وفسوق عن أمر ربه يستعرض تفاصيلها ويزهو بارتكابه إياها وهو يدعو الناس ضمنيا لمشاركته فيها أو حتى لا يحمل هم احتمالية اقتدائهم به وشيوع فواحشه فيهم وهذا ما فصله النبي صلى الله عليه وسلم في باقي حديث استثناء المجاهر من العافيةفيقول في خاتمة الحديث:
وإنَّ منَ المُجاهرةِ أن يعمَلَ الرَّجلُ باللَّيلِ عملًا ، ثُمَّ يصبِحَ وقد سترَه اللَّهُ ، فيقولَ : يا فلانُ ، عمِلتُ البارحةَ كذا وَكذا وقد باتَ يسترُه ربُّهُ ويصبِحُ يَكشِفُ سترَ اللَّهِ عنهُ
تأمل نداءه.. يا فلان
تأمل إيجابيته في الدلالة على الذنب واستنانه سنن السوء
تأمل التفاصيل المتنوعة التي يحكيها والتي يشير إليها حرف العطف بين "كذا" و "كذا"
إنه ليس مجرد مجاهر
إنه مجتريء فاجر يستحق بهذا القلب المنكوس استثناءه من المعافاة
لكن ليس كل متستر أفضل حالا
هنالك ذلك المستخفي الذي استحق حبوط عمله لأن الأصل عنده كان كما ذكر النبي في خاتمة حديث جبال الحسنات
الأصل عنده أن الخلوة انتهاك حرمة
" أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا"
هكذا بوضوح
شرط وجوابه يلقيان بظلال التلازم
هم أناس حولوا كل خلوة إلى فرصة للمعاصي وتدنى مقام الحرمة في قلوبهم إلى درجة يكاد معها كل تعظيم أن يزول ويختفي
" {ذَٰلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} "
لعل أخطر ما في هذا النوع من ملازمة الاستخفاء بالمعصية وخشية مقارفها رؤية الناس لحاله أثناءها هو ذلك الافتضاح بينه وبين نفسه
هذا الصنف لا يستطيع أن ينكر في داخله أنه لو وجدت مقارنة بين مقام الله ومقام الخلق في قلبه فإن كفة ذلك الأخير سترجح ودليل هذا الترجيح دامغ يعرفه هو كلما فعله
إنه استخفاؤه الدائم وهروبه من إبصارهم له ثم عدم اكتراثه التدريجي بسمع وبصر مولاه رغم علمه أنه إليه أسبق وعليه أقدر
ولو أنه يكترث فعلا كما قد تقنعه نفسه أن يزعم فأين الدليل وها هو واقعه يصرخ بضد ذلك كلما راقبهم و استخفى منهم ولم يستخف منه..
" {يسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ الْقَوْلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} "
عن هذا الصنف يقول سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما: "وخوفك من الريح إذا حرَّكت سِترَ بابك وأنت على الذنب، ولا يضطرب فؤادك من نظر الله إليك أعظم من الذنب إذا عمِلته"
لماذا قال أن هذا الخوف أعظم
ولماذا قال ابن القيم أن فرحك بالذنب قد يكون أشد عليك من وقوعك في الذنب
الإجابة مرة أخرى تتمثل في كلمة واحدة
القلب
إنها المشاعر التي تفضح حقائق التعظيم ومقامات الأمور
إن وُجد مثل ذلك في القلب أثناء الإسرار فقد يجاوز خطورة المجاهر كما فعل ذلك الأخير عندما صاحبت مجاهرته مشاعر الزهو بالذنب والفرح به
إنه المناط نفسه
القلب وما يحويه من مشاعر
الخلاصة أن الحالين - المجاهرة والإسرار - من الخطورة بمكان
وهذا المكان يحدده القلب وما يعتريه
لذلك كانت وصيته صلى الله عليه وسلم جامعة شاملة وذلك حين أوصى أبا ذر رضي الله عنه قائلا: "أوصيك بتقوى الله تعالى في سِرِّ أمرِك وعلانيته"
وكذلك فعل في دعائه حين اعتنى بالخطرين معا
السر والعلن
لقد كان من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم: «وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة"
وأيضا ما في صحيح مسلم من دعاء في السجود «اللهم اغفِر لي ذَنْبِي كُلَّهُ، دِقَّهُ وجِلَّه، وأوّلَهُ وآخِرَه، وعلانيته وسِرَّه»
هكذا إذاً يتضح الهدف
غيب وشهادة وسر وعلن
المعصية تذم في كل الأحوال رغم تفاوتها أحيانا
والإجابة عن سؤال أيهما أفضل المجاهرة أم الإسرار لا يشترط أن تكون من خلال أحدهما
الإجابة نسبية قد تختلف وتتباين حسب الحال كما أوضحت
لكن يظل الخيار الأصح بين السر والعلن , لا هذا ولا ذاك
الأفضل والأضمن والأسلم : توبة
فقط التوبة
محمد علي يوسف
- التصنيف: