ذنوب الخلوات: المقال الثامن
تلك الغصة المؤلمة التي تعقب معصية السر وتجثم على أنفاس صاحب تلك المعصية ويختنق بها صدره ولا يدري لها سببا هي نعمة، بل هي كنز ثمين لو أدرك صاحبها قيمتها.
الإحساس نعمة، هي جملة تقال كثيرا ويكتبها على الحوائط بعض من يريدون زجر الآخرين عن شيء يضايقهم ويخلو فعله من الإحساس ليذكروهم بهذه النعمة لعلهم يستحيون و... يحسون.
لكن هذا الإحساس قد يكون مؤلما أحيانا وهو مع ذلك يظل نعمة.
المشتهر أن وجود الألم في الغالب، نوع من التنبيه المبكر ليدرك المرء أن ثمة مشكلة أو مرض أو مسبب لأذى أو هلكة عليه علاجه أو تحاشيه، من هنا كان الإحساس نعمة، بل والألم نعمة.
وتلك الغصة المؤلمة التي تعقب معصية السر وتجثم على أنفاس صاحب تلك المعصية ويختنق بها صدره ولا يدري لها سببا ثم تتوارى خلف أسوار الهموم والشواغل وتحت غيوم الاعتياد والإلف لتقبع هنالك في أغوار الروح وغيابات النفس وتغرق تدريجيا في أعماق القلب هي نعمة، بل هي كنز ثمين لو أدرك صاحبها قيمتها.
هذه الغصة يرتبط وجودها بما تبقى من شفافية الفطرة ويكون الشعور بتلك الغصة دافعا للروح والنفس والفؤاد كي يسارعوا بصاحبهم لبراح التوبة وسعة المغفرة ولتزول تلك الغصة العاجلة ولا تتحول آجلا لحميم يتجرعه المرء ولا يكاد يسيغه.
أما منكوسو الفطرة من مستمرئي الران المتراكم على جدران قلوبهم فنادرا ما يلحظون تلك الغصة لأنها تكون قد زالت بعد حين من تكرار التغافل عنها وطمسها، تكون قد زالت بعد إدمانهم التأجيل.. تأجيل التوبة.
إنّ هذه الغصة والكآبة التي تخيم على حياة صاحب معصية السر هي مجرد عَرَض ينبهه الله به إلى مرض علاجه بسيط يسير لمن يسره الله عليه؛علاجه تعجيل التوبة.
استغلال وجود تلك الغصة المبشرة بوجود الندم وهذا الندم هو حقيقة الكنز الذي أتحدث عنه، إنه هو الشرط الأهم للتوبة وبه لخص النبي حقيقتها فقال: «الندم توبة» (صححه الألباني في صحيح ابن ماجة).
قد يقول قائل هاهنا مكمن الصعوبة في التوبة ذلك لأن هذا الشرط شعور قلبي يصعب التحكم فيه أو تكلفه، لكن تلك الغصة التي تشعر بها بعد الذنب أو أثناءه دليل على وجوده، وجود الندم.
إلا إنها للأسف لن تدوم طويلا فسرعان ما سيزيلها الانشغال والإلف والتعود كما سبق وبينت، لذا يجب المسارعة باستغلال وجودها
فإن أجَّل العاصي التوبة مرة بعد مرة حتى اختفت الغصة وعز وجود الندم فالأمر لم ينته بعد وإن كان قد ازداد صعوبة.
إن هذا الشعور بالندم يمكن للتائب أن يحاول الوصول إليه إن لم يجده في قلبه ابتداءً. لكن كيف؟!
من خلال نظرين رئيسين: النظر لمن عصيت، والنظر لعاقبة المعصية.
لقد عصيت خالقك ورازقك ومن أنعم عليك بكل ما تتقلب فيه، عصيت القادر على أن يسترد نعمه وينزل عليك نقمه ويعجل لك عقوبته، تلك العقوبة التي لعل أولها وأعجلها تلك الغصة والكآبة التي سبق وحدثتك عنها، أما العاقبة إن لم تتب ويتقبل الله توبتك أو يعفو عنك فأنت تعرفها جيدا، فقط غفلت عنها ونسيتها، هلم فتذكرها وتذكر حرها ولهيبها؟
قل لي بربك إذا تذكرت كل هذا وبذلت وسعك لاستحضار تفاصيله أفلا تندم؟!
فإن ندمت فأبشر... قد حققت الشرط الثاني من شروط التوبة، وإن لم تندم فلا تيأس،لعل الران الذي يعلو قلبك سميك يحتاج إلى مجهود أكبر، لكن الأهم ألا تتباطأ وتكسل وتؤجل ويخدعك الشيطان بشبهته الأشهر، شبهة "سوف".
- غدا سوف أتغير...
- غدا سوف أكون إنسانا رائعا..
- غدا سوف أبدأ بداية جديدة ومختلفة تماما..
- غدا سوف أُقلع عن كل تلك العادات السيئة التي تلازمني..
-غدا سأحل كل مشكلاتي وسأصلح كل أخطائي وأعوض ما فاتني
دائما غدا.. ودائما سوف.. هذا هو الشرط غدا وليس أبدا اليوم وغدا هذا قد لا يأتي قط!!
لقد صار (غدا) لدى البعض سجنا كبيرا؛ سجنا قضبانه التسويف وأسواره الشاهقة ينافس ارتفاعها فقط طول أمله وبعد مسافة أمانيه
والحقيقة أن التحرر من هذا السجن ليس ترفا اختياريا أو مسألة تحتمل الأخذ والرد
{حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99-100]
{أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}[الزمر:58]
{وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[اﻷنعام:27]
{وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12]
{وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَىٰ مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى:44]
{وهم يصطرخون فيها رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:37]
هذه بعض من كثير من الآيات تشترك كلها في ترسيخ هذا المعنى المحوري وتلك الحقيقة المتغافل عنها، حقيقة ندم المسوِّفين وتحسرهم على تسويفهم.
إنها آيات تبين بشكل قاطع أن ذلك السجن الذي اختار المسوفون المكث خلف جدرانه لم ينفعهم بشيء وأن غالب تحسرهم لما يأتي الغد الحقيقي سيكون على تضييعهم الفرصة حين كانت سانحة، وحين كان الندم موجودا وحرقة الذنب متقدة وفرصة التحرر من هذا السجن التسويفي البغيض متاحة ميسرة. أما الاكتفاء بالنوايا الصالحة القابعة خلف "سوف" وغدا" فللأسف ليست كل نية صالحة تنفع صاحبها؟
تأمل قول إخوة يوسف عليه السلام:{وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} [يوسف:9]
هكذا كانت النية صالحة حسنة، وما أحسنها من نية لولا أنها كانت نية تسويفية، نعم كانت حسنة ، وهل من نية أحسن من نية الصلاح وقرار التوبة، لكن تلك النية الصالحة لم تنفعهم، ولم يستطيعوها، ولم يطيقوا تنفيذها رغم مرور أعوام طويلة، ذلك لأنها كانت نية شكلية (ديكورية) مؤجلة سبقها التآمر ورافقها العزم على عمل فاسد{اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} [يوسف:9] .
لقد كانت نية تخديرية وظيفتها تسكين النفس وتحييدها عند الإقبال على العمل الفاسد، لا بأس .. أقبل على الفساد والإفساد وافجر في السر كما تشاء ولا تستحي من نظر ربك ومولاك ثم تب بعد ذلك!!
العمر أمامك طويل والتوبة لن تطير فافعل ما بدا لك ما دامت (سوف) في انتظارك، هكذا يقول العاصي لنفسه وبتلك المسكنات يهدىء من روعه فينغمس أكثر فأكثر فأكثر وينسى أن العمل الفاسد لا تصلحه أعظم النوايا ما دام صاحبه يعلم جيدًا أنه فاسد.
قدّم التوبة على الفساد واعلم أن (سوف) هذه ليست ملكك ولا بيدك، وفي هذا فسارع واعجل لربك فإن التؤدة خير في كل شيء إلا في مثل هذا إلا في عمل الآخرة، هيا عجِّل بالتوبة ولا تضيع تلك الغصة الثمينة، غصة الندم.
- التصنيف:
- المصدر: