ذنوب الخلوات: الحادي عشر
محمد علي يوسف
لا تضع النار بجوار البنزين،تلك قاعدة بديهية تدركها أبسط العقول.
- التصنيفات: الدعوة إلى الله - أعمال القلوب - الطريق إلى الله -
أي ساذج هذا الذي لا يحلو له التدخين وإلقاء العقب المشتعل إلا في قلب محطة الوقود ثم يندهش حين تقع الكارثة.
لا تضع النار بجوار البنزين،تلك قاعدة بديهية تدركها أبسط العقول.
أذكر قصة لطيفة تُروى عن شيخ فاضل كريم كان قد ابتلي بالتدخين لسنين طويلة وكان ذلك في زمان لم يعرف أثناءه ضرر التدخين كما هو معروف اليوم.. لكن الرجل قرر الإقلاع وكان قراره حاسما.ولقد نجح بالفعل.
المشكلة في هذه الرواية أنها لم تنتهي عند ذلك، رجل ابتلي بعادة ثم تمكن من تركها، هذا ليس خبرا يستدعي انبهارا
لابد من بعض التوابل والبهارات التي تضفي نكهة لذيذة للقصة.
تقول الرواية أن الشيخ الفاضل أصر على وجود علبة السجائر في جيبه لا تغادره طالما كان حيا ليثبت لنفسه أنه قادر على المقاومة وأنه أقوى من أي عادة تتمكن منه وتذله، إنه يستطيع الانتصار فعلا وها هي المغريات في جيبه لكنه لا يمد يده وينهل منها.
لا أدري حقيقة تلك الرواية ولا صحتها، ولكن بصراحة لا أقتنع مطلقا بمثل هذا النسق من تكلف التحدي مع النفس سواء صحت أم لم تصح.
إن احترام لحظات الضعف مهم حقا، روح التحدي والإرادة وهذا الكلام التنموي البراق له مقامه بلا شك لكن المبالغة في تصديره مع كل حالة يعد في أحيان كثيرة من التشرف للفتنة، خصوصا مع تلك المعاصي التي ترتبط بشكل من أشكال الإدمان كمعاصي السر وذنوب الخلوات، بل مع عموم المعاصي.
«وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ» (صحيح مسلم)، تلك كانت نصيحة الرجل العالم لقاتل المائة نفس حين أراد التوبة، تلك الأرض التي شهدت جورك وفجورك وألفت بطشك واعتدائك على حرمات الله لا ينبغي أن تظل فيها إذا صدقت في مطلبك.
التوبة انقطاع وإيقاف للذنب، وبالفعل غادر الرجل أرض السوء وصدق فكان القبول.
هكذا تكون أولى خطوات التعامل مع إدمان المعصية، اجتثاثها وتجفيف منابعها وليس تحديها وإحسان الظن في نفس أمارة وخلق أخبر خالقه أنه ضعيف، وإن أضعف أحوال النفس يكون تجاه ما أدمنته طويلا ومن تشرَّف للفتن استشرفته.
حتى في حالات إدمان المخدرات أو الخمور ستجد من المتعارف عليه لدى المعالجين النفسيين وخبراء التعامل مع تلك الحالات أن من أهم الخطوات اللازمة لنجاح العلاج تغيير العوامل التي أودت بالمدمن إلى طريق المخدرات وليس فقط وقف استخدامها، فالعديد من برامج إعادة التأهيل النفسي للمريض أساسها هو عملية الإبعاد عن المخدرات والكحوليات دائمًا، وليس فترة مؤقتة ثم الانتكاسة مرة أخرى فيجب أن يشمل البرنامج كافة الجوانب التي تضمن ابتعاد مدمن المخدرات والكحوليات عن إدمانه وعدم التواجد في الطريق المؤدي إليه.
ومن هذا التأهيل المتعارف عليه تجنب المخاطرة المباشرة ويضرب لذلك مثل بعدم الذهاب مرة أخرى إلى الحي الذي تم استخدامه للحصول على المخدرات والابتعاد عن البيئة التي شاركها المدمن تعاطيه، ببساطة الاجتثاث الكلي والانقطاع الكامل عن أسباب المعصية والسبل المؤدية إليها هو الحل المبدئي الناجع.
ولنأت للمعصية الأشهر والأكثر انتشارا اليوم كمثال، تضعف وحدك أمام المحمول وتنتظر حتى يخلو المكان لتقضي وطرك مما حرم الله، قد يكون الحل يا صديقي أن تتخلى عن المحمول نفسه.
نعم.. أعلم أن البعض سينتقد اختياري لهذا الحل لكن والله كثير من الحالات لا سبيل لها إلا ذلك، وحين تقطعت بهم السبل وفشلوا في كل المواجهات كان اختيار ترك الجهاز الذكي والاكتفاء بجوال بدائي يتصل ويستقبل ويتلقى الرسائل، وكانت النتيجة جيدة في أغلب الحالات.
فقط حين صارحوا أنفسهم أن العالم لن ينتهي وأن الدنيا لن تخرب حين يغادروا الشبكة العنكبوتية، وحين أقروا بينهم وبين أنفسهم أن الجنة أغلى وأن ضرر النار أكبر من ضرر الترك، وحتى أولئك الذين ترتبط أعمالهم بشكل أو بآخر بالشبكة ووسائل التواصل.. أشك كثيرا أنهم سيعجزون عن التقنين.
يمكنهم الاكتفاء بوجود الإنترنت في مكان عام أو مكان مكشوف في بيوتهم بحيث لا يخلون أبدا مع سبب المعصية
فقط لو صدقوا لهداهم الله إلى حل.
أعجبتني وسيلة ذكرها لي أحد المبتلين بدخول المواقع الجنسية ممن يصعب عليهم قطع العلاقة بالهاتف الذكي، لقد استعان ببرنامج فلترة أو رقابة من تلك البرامج التي يستعملها الآباء كي يعجز الجهاز عن الدخول حتى لو أراد صاحبه.
استغل الرجل لحظة قوة واستعان بها على لحظات الضعف وفعَّل البرنامج وجعل له كلمة سر صعبة جدا وكتب تلك الكلمة في ورقة أعطاها لمن يستأمنه عليها وطلب منه ألا يعطيها له أبدا وإن طلبها وإذا ما اضطر لفتح البرنامج لسبب تقني فيكون صاحبه معه.
لا أدري في الحقيقة مدى جدوى هذه الطريقة وربما كان لدى إخواننا من المتخصصين ما هو أحدث خصوصا أن هناك حملات طيبة لمن أراد الإقلاع عن هذا الذنب المستشري لكن ما أعجبني في صاحبي هذا أنه احترمها، احترم لحظة ضعفه
وتلك اللحظة آتية فكذلك خلقنا{وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء من الآية:28].
بالطبع هناك وسائل عملية أخرى نتحدث عنها تباعا لكن لابد أولا من ترسيخ المبدأ، مبدأ احترام لحظات الضعف والمحاولة الصادقة لاقتلاع المشكلة من جذورها وتجفيف منابعها وإيقاف النزيف المستمر، نزيف الحياء في الخلوة، ونزيف الحسنات.