الفأل والتفاؤل
أبو محمد بن عبد الله
الأصل في تحصيل النتائج هي الأسباب التي جعلها مقدمات، مما أمر به أو أباحه أو أرسل حكمه. والأسباب لا تستقل بالتأثير إلا بجعل الله لها مؤثرة منتجة، ولو شاء الله لسلبها التأثير المعهود
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحابته ومن والاه، وبعد:
فبسبب مقالاتي الثلاث: "وانكشفت الأستار.. فأبشري يا أمة المليار" وكانت بمناسبة انكشاف أستار الكعبة المشرَّفة (1439هـ)، وقد تفاءلنا بها بانكشاف كروب الأمة وغمومها، وقد سبقنا إلى ذلك ابن كثير رحمه الله فيما حدث عام (644هـ) في عهد دولة بني العباس.. وكأني ببعض الناس- وهم قلة- احتاروا في هذا الربط والتفاؤل.. فكتبت كلمات نشرتها على ثلاث مقالات، فوجدتني في حاجة لهذه الكلمات في الفأل.
الأصل في تحصيل النتائج هي الأسباب التي جعلها مقدمات، مما أمر به أو أباحه أو أرسل حكمه. والأسباب لا تستقل بالتأثير إلا بجعل الله لها مؤثرة منتجة، ولو شاء الله لسلبها التأثير المعهود، كما سلب النار الإحراق فجعلها بردا وسلاما على إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وما سلب ماء البحر سيولته فصار صلبا يبسا فسار عليه موسى عليه الصلاة والسلام وصحابته، وأعادها إليه ليغرق فرعون عليه لعنة الله وعذابه، بل وأكرم به بعض صحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فساروا على البحر بخيولهم، وكما سلب بطن الحوت القدرة على الهضم التلقائي فلم يهضم سيدنا يونس عليه الصلاة والسلام، وغيرها كثير وقدرة الله تعال لا يعجزها شيء في الأرض ولا في السماء، وإنما أمره إذا أراد شيئا أن قول له كن فيكون. وهي للأنبياء الكرام معجزات ربانية، تأييدا لهم وتصديقا وإيناسا حين تدلهم الخطوب.. وهي لأتباعهم على منهجهم كرامات تؤنسهم وتؤيدهم.. هي لهم كرامات ولأنبيائهم معجزات..
ولكن من رحمته سبحانه بعباده ثبات السنن، لتسير حياة الناس على طريق معهود، وإلا تعثرت مسيرتهم وعذرت حياتهم.. فأمرهم ببذل الأسباب واتخاذ السنن، ولهم أن يدعوا الله تعالى فيفعل لهم ما يشاء بقدرته لا يُعجزها شيء فيعطيهم ما يشاء.. فلله الحمد والمنة.
وكذلك نتائج الأسباب لم يُعلِم اللهُ بها خلقَه فقد يُسببون ولا يُنتجون، ويسيرون ولا يصلون، وإن وحصلت فلا يدرون أين ومتى وكيف، إلا بمقدار بما يُثّبِّت الله تعالى بهم لهم السنن، يعلمون تأويلها بحدوثها..
وقد يعطيهم إشارات تنبيهية، مبشرات، هي نبوءات جزئية، تصدق بقدر ما يصدق أهلها قولا وفعلا، وبقدر ما يُمَسِّكُون بالهدى ودين الحق، وهي الرؤى الصالحة، حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لم يَبْقَ من النُّبُوَّةِ إلا المُبَشِّراتُ. قالوا: وما المُبَشِّراتُ؟ قال: الرؤيا الصالحةُ" (البخاري)، وفي رواية: "يراها الرجل أو تُرى له"، فتبشره بمرغوب أو تحذره من مرهوب، وتكشف له بعض ما غاب عنه.. وعبر تاريخ الصالحين من المسلمين كانت رؤاهم تأتي كفلق الصبح، ورغم أنها لا تحل حلالا ولا تحرما حراما، إلا إنه يُستعان بها ويُستفاد منها... لا كما فعل بعض المهوسين من سلاطين الجور، ممن كان يحكم على خصومه برؤيا يراها أو ترى له فيهدر دمهم!!
بل حتى عتاة الكفرة قد يرون رؤى تتحقق كفلق الصبح أيضا، تكون لهم من الله تعالى نذيرا، أو عقوبة.. وما رؤيا عزيز مصر عنا ببعيد، وقد أولها سيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام، فوقعت كما أولها..
وها هنا آمر آخر، أيضا استعمله النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، ألا وهو الفأل أو التفاؤل..
إن الفأل بالقول والفعل والحدَث يحدث ليس خرافة، ومع أنه لا يرد قضاء، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجب ويستعمله أيضًا، فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا طيرة، وخيرها الفأل» قالوا: وما الفأل؟ قال: «الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم»(متفق على صحته). وقال الأصمعى: "سألت ابن عون عن الفأل فقال: هو أن تكون مريضًا فتسمع يا سالم، أو تكون باغيا فتسمع يا واجد". وقال ابن تيمية: (والفأل الذي يحبه هو أن يفعل أمرا أو يعزم عليه متوكلا على الله، فيسمع الكلمة الحسنة التي تسره مثل أن يسمع: يا نجيح، يا مفلح، يا سعيد، يا منصور، ونحو ذلك، كما «لقي في سفر الهجرة رجلا فقال: ما اسمك؟ قال: يزيد، قال: يا أبا بكر يزيد أمرنا») [الفتاوى الكبرى]،
فكان النبي-صلى الله عليه وسلم- يسأل عن اسم الخيل والأرض والإنسان فإن كان حسنًا سُرَّ بذلك واستبشر به وإن كان سيئًا ساء ذلك. ومن الفأل باللفظ والقول، قوله حين أتى في صلح الحديبية؛ فقيل له عن مبعوث قريش أتى سهيل؛ فقال: «سهل الله أمركم»، وفي الطريق إلى خيبر؛ "وصلوا إلى مفترق الطرق ووجدوا بها أربع طرق، كلها مؤدية إلى شمال خيبر، فطلب النبي من الدليل تسميتها له، فسماها له: حزن، وشاش، وحاطب، فامتنع منها وكرهها لسوء أسمائها، فقال الدليل: ما بقي إلا طريق واحد، قال عمر: ما اسمه، فقال: مرحب، فتفاءلوا به وسلكوه" فاستعمل الفأل عمليا وسلك طريقه؛ وكان الفتح.
واستعمل الفأل وتَطَلَّبّه في الاستسقاء، حيث يقلب رداءه، قال المهلب: "وتحويل الرداء إنما هو على وجه التفاؤل بتحويل الحال عما هي عليه، والله أعلم، ألا ترى أن النبي، (صلى الله عليه وسلم) ، كان يعجبه الفأل الحسن إذا سمع من القول، فكيف من الفعل؟".
وسلّ أبو جهل سيفه فضرب به متن فرسه قبل معركة بدر، فقال له إيماء بن رحضة: بئس الفأل هذا؟ وكانت هزيمة قريش في بدر! وكان فألا على إثر فعلٍ مشين، يتمثل في الصد عن سبيل الله وعن بيت الله والمسجد الحرام.. ومن منع أمة من الناس وصدهم عن بيت الله، وحبسه خيار الأمة ومنعهم من بيت الله، كله بئس فأل له يضرب بها متن سلطته وسطوته فتصير مهلكته! فيحيق به –إن شاء الله- ما حاق بأبي جهل في بدر!
وختاما هذه دعوة للتفاؤل والاستبشار بقرب النصر، فإن النصر ضوء بعد اشداد ظلمة الليل، ونتناقل هذا التفاؤل، ولنُبشِّر بالنصر، ولنبعث في الأمة حسن الظن بالله تعالى مع دعوتها لحسن القول والعمل، والأخذ بالأسباب في أريحية واطمئنان بأن الله تعالى لا يضيع إيمان المؤمنين ولا أجر المحسنين..
اللهم لا مانع لما أعطيت ولا مُعطي لا منعت، ولا راد لقضائك ولا معقب لحكمك، اللهم لا تخيب رجاءنا فيك.
أبو محمد بن عبد الله 11/ 2/ 1439هـ/ 30/ 08/ 2018م