شجون الإمام أحمد!!
حمزة بن فايع الفتحي
تحمل وعثاء الطريق وافتقر وعانى، وأجر نفسه للجمّالين وأهل الزرع بالأجرة وأكمل رحلاته العلمية.
- التصنيفات: التاريخ والقصص -
شخصية تاريخية وأحد الأعلام، حفظَ ونبغَ وصنف وأتقن.
عاش يتيماً، فلم يحُلْ يتمُه دون العلاء والبلوغ والانجاز.
اهتمت به أمه وربته تربية عالية، وصانته عن أسباب الفتن، وهيأت له ما يصلح أن يكون مقدمات النبوغ العلمي. سافر إلى علامة اليمن عبد الرزاق الصنعاني رحمه الله، وجاع وافتقر في الطريق وما بالى، وكان سمع عنه أنه في مكة للحج،. ولكن قال: (والله لا أغير نيتي).
تحمل وعثاء الطريق وافتقر وعانى، وأجر نفسه للجمّالين وأهل الزرع بالأجرة وأكمل رحلاته العلمية.
وصل وانتهى لمنزلة علمية عليا وأثنى عليه الشافعي ويزيد وابن معين وبات علَما على السنة والأثر، حتى صار إماما مهيبا وعلما مقدما. امتُحِن بفتنة خلق القرآن، فصمد وأبى تغيير عقيدة الناس وتهمم وقال: القرآن كلام الله غير مخلوق! هاتوا لي دليلا من الكتَاب والسنة على ذلك المزعوم.
وناظروه فظهرت حجته عليهم وغلبهم وأخرسهم. (فغُلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين) سورة الأعراف، وفي هذا درس الوعي العلمي، وقوة البديهة في المناظرة القاطعة.
فكافؤوه بالسجن والجلدات المتوالية والبلاء الشاق وقال له سجين: يا أحمد إنما هو سوط وسوطان ولا تشعر بالباقي.
ومن كلماته الروائع : أعز أمرَ الله يُعزّك الله. وقال: لو وُضع الصدقُ على جرحٍ لبرئ.
كان على السنة والهدوء والوقار والسمت العجيب، ويحضر مجلسه(٥٠٠٠) آلاف طالب، (٥٠٠) يكتبون والباقي يتعلمون السمت والهدي الحسن.
صار رمزا للسنة والاتباع حتى قال بعضهم: أضحى ابن حَنْبَل محنة مامونةً وبحب أحمدَ يُعرف المتنسكُ! وإذا رأيت لأحمد متنقصا! فاعلم بأن ستورَه ستُهتّكُ!
وبرغم الذيوع والشهرة كان زاهدا متباعدا يحب التخفي وخمول الذكر وقال: ليتني ما عرفتُ الشهرة.
زاره العلامة الأندلسي بَقيّ بن مخلَد أيام الفتنة من بلاد الأندلس فأكرمه وأفاده حديثيا وتربويا، وزاره في فندقه حينما مرض.
وحمل المحبرة دواة الحبر وهو شيخ للمسلمين مقصود معروف ، فقيل له في ذلك؟ فقال: مع المحبرة إلى المقبرة! أي لا نزال نتعلم إلى حضور الموت.
ونظمها بعضهم: ولا يزال حامل المحابرِ! مجتهدا دوما إلى المقابرِ! قد جعل العلم له شعارا! يلتمس القرانَ والآثارا!
لم يطغَ العلم عليه بحيث ينسيه العبادي من صلاة وأوراد، فكان يتنسك دائماً، وجدوله العبادي منتظم، ولم تخلُ دروسه ومواعظه وأخلاقه من اللمسات الربانية، حتى قال تلميذه الإمام ابو دَاوُدَ صاحب السنن (كانت مجالس أحمد مجالس الآخرة لا يذكر فيها شيء من أمر الدنيا).
أعرض عن الدنيا وتباعد عنها، ورفض المناصب والأعطيات، والتحف الزهد حبا وعزا وديانة. وكان حريصا على الوقت ومرحلة الشباب حتى قال (ما شبهتُ الشباب إلا بشيء كان في كُمي فسقط).
برغم بروزه العلمي وإتقانه الفقهي لم يظهر للناس إلا بعد سن الأشد والرسوخ والحكمة الزمانية، قال العلامة ابن الجوزي رحمه الله: إن أحمد رحمه الله، لم ينصب نفسه للحديث والفتوى إلا بعد أن بلغ الأربعين! وفي هذا درس لطلاب العلم المستعجلين، الذين حضروا مرةً ومرتين، وكتبوا شيئا وشئين، فخولوا لأنفسهم التفقه والنقد والإفتاء في سنوات مبكرة! ثم ما هي إلا مدة يسيرة وينكشف عوارهم للخلائق والله المستعان وقد قال السلف (من تعجل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه).
في قصته معلَم وضاء للثبات والصبر على المبدأ، وأن العالم مبتلى ومختبر في علمه وحفظه ودرسه، والا فما قيمة العلوم والنشاط الدعوي حينئذ ، فقد رفض الانصياع للمبتدعة والظلمة، وحاجج عن الحق وأزهق الباطل، بثباته التاريخي في فتنة خلق القرآن، يقول بشر بن الحارث رحمه الله: (لولا هذا الرجل – يعني: الإمام أحمد: لكان العار علينا إلى يوم القيامة).
كان يحفظ مليون حديث بالآثار والفتاوى والمكررات ولكنه ليس آلة صماء كبعض معاصرينا، بل كان عاملا مثابرا ومتسننا مبادرا يقول: (ما بلغني حديثٌ إلا عملت به ، وما عملت به إلا حفظته).
والنية الصالحة حاضرة في حياته وساير سلوكه ويقول (انوِ الخير فإنك لا تزال بخير ما نويت الخير).
ويدرك رحمه الله حاجة الأمة لانتشار العلم وهيمنته عليهم، وكيف يغير حياتهم وشؤونهم حيث يقول (الناس يحتاجون إلى العلم مثل الخبز والماء لأن العلم يحتاج إليه في كل ساعة، والخبز والماء في كل يوم مرة أو مرتين).
وتلقى في قصته درس العلم وتصديره، والثبات وبروزه، والزهد ومصداقيته، والفقر وايثاره، والعفاف وعلامته، والإخلاص وبيانه، والتفقه ودليله، والسنة وانتهاجها، والاتباع وبرهانه.
ومن ثم صدق فيه وصح أنه (إمام أهل السنة والجماعة) صدّق قولَه عملُه، ودعواه سلوكه، وتنظيره ثباته، فهو من المحدثين العاملين، والفقهاء الراسخين.
ومن المهم في سيرته: أَن يتعلمها النشء، ويتأملوا ما فيها، ويصطفوا من دروسها وعظاتها، ولا يغيبوا عن سير الكبار، وينقطعوا للسفه والأقزام، بجهلنا أو بفعل بعض وسائل الإعلام الصادة عن سواء السبيل، والمظهرة لسقط المتاعِ، على حساب الأفذاذ الأعلام.
مات أحمد سنة (٢٤١) للهجرة ولم تمت سيرته ولا غابت أخلاقه، أو ذبُل مسنده العظيم، وكتابه النافع المفيد، والذي قال فيه لعبدالله ابنه (احتفط بهذا المسند فإنه سيكون إماماً للناس).
والواجب على المربين والدعاة إشهار هذه السيرة ونشرها بين الناس ( {فاقصص القصص لعلهم يتفكرون} ) سورة الأعراف.