مع القرآن (من الأحقاف إلى الناس) - فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها
فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ
{فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} :
يرشد تعالى عباده إلى ما فيه صلاحهم وعزتهم حال التحام الجيوش وقت القتال بأن يحملوا على أعداء الدين بقوة وشجاعة بلا وهن ولا خور , فإذا وقع منهم أسرى فعلى الجيش المسلم أن يتحفظ عليهم بقوة ثم الأمر إلى إمام المسلمين في طلب الفدية أو المن عليهم بإطلاقهم حسب ما يترائى له من مصالح أو مفاسد.
وهذا تأكيد على ضرورة الأخذ بأسباب القوة والعزة في الدنيا مع الإيمان الجازم بأن مشيئة الله تعلو كل شيء فلو شاء لانتصر من الكفار دون إراقة قطرة دم مسلم , ولكنه شاء أن يختبر الجميع فعسى أن يرجع الكافر ويرعوي وكذا ليميز الله الصف المسلم خبيثه و طيبه, فمن قتل في سبيل الله فله الفضل والمراتب العلية وله الجزاء الحسن في جنات النعيم يدخلونها وهم لها عارفون وكأنها منازلهم في الدنيا.
قال تعالى:
{فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ } [محمد 4-6]
قال السعدي في تفسيره:
يقول تعالى -مرشدا عباده إلى ما فيه صلاحهم، ونصرهم على أعدائهم-: { {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } } في الحرب والقتال، فاصدقوهم القتال، واضربوا منهم الأعناق، حَتَّى تثخنوهم وتكسروا شوكتهم وتبطلوا شرتهم، فإذا فعلتم ذلك، ورأيتم الأسر أولى وأصلح، { {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} } أي: الرباط، وهذا احتياط لأسرهم لئلا يهربوا، فإذا شد منهم الوثاق اطمأن المسلمون من هربهم ومن شرهم، فإذا كانوا تحت أسركم، فأنتم بالخيار بين المن عليهم، وإطلاقهم بلا مال ولا فداء، وإما أن تفدوهم بأن لا تطلقوهم حتى يشتروا أنفسهم، أو يشتريهم أصحابهم بمال، أو بأسير مسلم عندهم.
وهذا الأمر مستمر { {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } } أي: حتى لا يبقى حرب، وتبقون في المسألة والمهادنة، فإن لكل مقام مقالا، ولكل حال حكما، فالحال المتقدمة، إنما هي إذا كان قتال وحرب.
فإذا كان في بعض الأوقات، لا حرب فيه لسبب من الأسباب، فلا قتل ولا أسر.
{ ذَلِكَ } الحكم المذكور في ابتلاء المؤمنين بالكافرين، ومداولة الأيام بينهم، وانتصار بعضهم على بعض { {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ } } فإنه تعالى على كل شيء قدير، وقادر على أن لا ينتصر الكفار في موضع واحد أبدا، حتى يبيد المسلمون خضراءهم.
{ {وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} } ليقوم سوق الجهاد، ويتبين بذلك أحوال العباد، الصادق من الكاذب، وليؤمن من آمن إيمانا صحيحا عن بصيرة، لا إيمانا مبنيا على متابعة أهل الغلبة، فإنه إيمان ضعيف جدا، لا يكاد يستمر لصاحبه عند المحن والبلايا.
{ {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّ} هِ } لهم ثواب جزيل، وأجر جميل، وهم الذين قاتلوا من أمروا بقتالهم، لتكون كلمة الله هي العليا.
فهؤلاء لن يضل الله أعمالهم، أي: لن يحبطها ويبطلها، بل يتقبلها وينميها لهم، ويظهر من أعمالهم نتائجها، في الدنيا والآخرة.
{ {سَيَهْدِيهِمْ } } إلى سلوك الطريق الموصلة إلى الجنة، { {وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} } أي: حالهم وأمورهم، وثوابهم يكون صالحا كاملا لا نكد فيه، ولا تنغيص بوجه من الوجوه.
{ {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} } أي: عرفها أولا، بأن شوقهم إليها، ونعتها لهم، وذكر لهم الأعمال الموصلة إليها، التي من جملتها القتل في سبيله، ووفقهم للقيام بما أمرهم به ورغبهم فيه، ثم إذا دخلوا الجنة، عرفهم منازلهم، وما احتوت عليه من النعيم المقيم، والعيش السليم.
#أبو_الهيثم
#مع_القرآن
أبو الهيثم محمد درويش
دكتوراه المناهج وطرق التدريس في تخصص تكنولوجيا التعليم من كلية التربية بجامعة طنطا بمصر.
- التصنيف: