الشعر الحر أو شعر الحداثة..في ميزان الشيخ الأديب علي الطنطاوي
و أقول ههنا مُذَيِّلا لا ينبغي لأحد أحب الأدب المعاصر و بحث فيه أن يجاوز كتب العلامة الأديب الأريب صاحب القلم السيال علي بن مصطفى الطنطاوي– رحمه الله –
الشعر الحر أو شعر الحداثة..في ميزان الشيخ الأديب علي بن مصطفى الطنطاوي -رحمه الله -
بسم الله..
لا ينبغي لمن صاحب الأدب لفظا و معنى أن يتخطى في كتب القدامى كتابَ الأغاني - مثلا- الذي عبر عنه بلذة عارمة العلامة الإمام محمد البشير الإبراهيمي -رحمه الله- بقوله :" لا تسألني عن خصائصه التي أثرت في نفسي و جلبت قيادي إليه... لا تسألني عن ذلك ،فكل أديب قرأه و كرر قراءته وجد في نفسه من التأثر مثل ما أجد، أو فوق ما أجد ،(وتجددت عنده صوره من روعة الأدب العربي و جلاله) ! " 1
و أقول ههنا مُذَيِّلا لا ينبغي لأحد أحب الأدب المعاصر و بحث فيه أن يجاوز كتب العلامة الأديب الأريب صاحب القلم السيال علي بن مصطفى الطنطاوي– رحمه الله – تــ 1420هـ الذي يُعد أسلوبه مبتكرا ،فإن كتبه "تشعرك بالقدرة على الكتابة و العجز عنها في آن معا..! و هذا ما نعبر عنه بالسهل الممتنع.. تقرأ له فتشعر بقرب كتابته و سهولة أسلوبه ؛ و كأنه يتحدث إليك و يسامرك ، لكن ما إن تذهب إلى محاكاته حتى يتعثر القلم و يكل عن الاسترسال. " 2 و هذا أسلوب نادر يجمع بين المتعة و القدرة العلمية الفائقة !
و إني لأعجب حين أَسأل أحد أساتذة اللغة العربية و باحثيها الأكادميين ! عنه فلا يعرفه.. بل يقف ساكتا مندهشا من غرابة هذا الاسم..! فيقول في نفسه : لعله روائي جديد ،و لعل أفضلهم جوابا - و ليته سكت -أن يُتَمتِم بقوله : لا يخفى عليَّ هذا الاسم.. اه! لقد طرَق أذني.. لكن أين؟.. أين ؟ و هل مع العين أين يا صاح!!
عجب عُجاب في الحركات الأدبية في زماننا هذا! تجده مولعا بشكسبير و كتب إحسان عبد القدوس و محمد شكري !! و يَدَّعي غرامه بهم لأنهم رواد الأدب العربي..(!!) جهل مُطبق لا فتح له! و تجده إن ادعى الشعر.. كتب نثرا! و إن ادعى الفصاحة كتب عجمة!
نعم ؛ نعطي للأدب بأنواعه قيمته التي لا تخفى على من شم رائحته ، و نشن الحرب على الروايات و القِصص الهابطة التي أدرجت في الأدب العربي ظلما ، بل دُرٍّست لنا و نحن في الثانوية !؛ كيف لي أن أستسيغ جرَّ القلم لأنصح القراء بهذه الروايات التي يفتخر بعض الذين في عداد القراء المُكثرين( !!) داخل العالم الأزرق بقراءتها و قطف الفواجع منها و نشرها !
فــ"هل تريدون مني أن أقدّر شعر بودلير وقصص أندريه جيد، وأن أقدّر بيرون الذي بدأ بالحب قبل أن يبدأ تعلم أحرف الهجاء، ففسق وهو في السابعة وأحب الغلمان الحسان الأماليد، ثم انتهى به الأمر أن أحب أخته، أخته يا سادة، حباً أثمر حَبَلاً؟! أتريدون أن أغتفر له هذا كله وأنأصفق له وأعدّه مع العباقرة الخالدين، لأنه استطاع أن يصف هذه الأعمال (بكلام بليغ) !!؟.. لعنة الله على الشعر الجميل والوصف العبقري إن كان لا يجيء إلا (بذهاب الدين والفضيلة والعفاف)!!، وعلى كل أديب يُفسد عليّ ديني ويَذهب بعرضي ويحقّر مقدساتي ليقول (كلاماً حلواً ) !"2
و إني بعد هذه التقدمة التي أنتقي فيها كلام بعض أهل العلم لعِلَّة التنبيه بفضلهم و بيان جماليات كتابتهم و حجتهافي بابها!
أحببت أن أنتقي كلاما لأديبنا -من خلال ما وقفت عليه ضمن كتبه - في ضرب من ضروب التجنيس اللغوي 3 الذي منه : الشعر الحر أو ما يسمى بشعر الحداثة و هو : "الشِّعر المُتَحرِّر من الوزن والقافية"4
و لا يسعفني المقام هنا في تفصيل القول فيه كثيرا 5
لكنني سأدعك أيها المنصف الحصيف ، و يا محب الأدب و أهله أن تتأمل في الأسلوب و المضمون عَلَّك تحب لغتك -علما و عملا! بعيدا عن العجمة و الترَّهات المُبتذَلة !
ü الشعر الحر لا يقارن أبدا بالشعر الجميل
وأظنّ أن الأستاذ الملائكة زميلَنا هو أبو الشاعرة نازك، أظنّ ولا أُحقّق،وقد نشرَت أول العهد بها في«الرسالة» شعراً نفيساً أثارَ إعجابنا وتقديرنا،شعراً حقيقياً لا هذا الشعر الذي سمّوه حُراً أو شعر الحداثة،فهل يبقى الحدَث حدثاً أم يشبّ ويعقل ويغدو رجلاً، فإن لم يستقم أخذوه إلى «إصلاحية الأحداث»؟!
سَمّوه حُرّاً، ومن الحرية ما هو فوضى؛ فإن رأيت الجند يمشون صفاً واحداً مرتّباً منظوماً نظم اللآلئ في العقد، ينتقلون كأرجل جواد المتنبّي: «رِجلاهُ في الرّكضِ رِجْلٌ واليدانِ يدُ»، فخرج واحد منهم عن الصف وعلى نظامه، فمشى على غير مشيته وبسرعة غير سرعته، وربما توجّه وجهة غير وجهته، فإن وضعوا أقدامهم رفع قدمه وإن رفعوها وضعها، وإن أسرعوا أبطأ وإن أبطؤوا أسرع ... أو مثل جوقة من المغنّين يغنّون جميعاً لحناً واحداً على إيقاع واحد، فخرج واحد منهم بلحن آخر وبنغمة أخرى، أو كمن يعزف مقطوعة من مقام البيات أو الرّست (الرصد) فنشز فإذا هو ينتقل فجأة إلى النهاوَنْد أو الصَّبا ... أليس هذا هو ما يسمونه بشعر التفعيلة: شعر تفعيلاته صحيحة الوزن ولكن لا ارتباط بين أبياته ولا تناسق بينها: تنتقل الأذن من إيقاع إلى إيقاع كالذي ذكرتُه هنا، وهو النشاز. وإن الشعر الحقّ هو الذي يثير الشجون ويحرّك العواطف، مع اتّساقه في الأذن ومحافظته على الإيقاع.
والغريب أنهم يتنازعون فخر البداءة بهذا الشعر الحديث أو الحرّ، وعهدنا بالناس أنهم يتنازعون المَكرُمات كلٌّ يدّعيها، لا الجرائم ولا المَعرّات .
[الذكريات3/400]
ü تألم الشيخ عند ذكر أيام اضطراره لشرح الشعر الحداثي و أطنابه
ومن أشدّ الذكريات التي لا أزال كلما خطرت على بالي أحس أنها تحزّ في قلبي، أنني اضطُررت في آخر عهدي بالتدريس أن أشرح للطلاب بعض المختارات من الشعر العربي المعاصر، بل الذي يسمّونه شعراً وما هو بالشعر. وكنت أحسّ كأنني أحتقر نفسي حين أهبط إلى هذا الحضيض فأُضطرّ إلى العناية به وشرحه، وأني أخدع الطلاّب حين أُوهِمهم أن هذا من بليغ القول وفصيح الكلام وأنه أدب رفيع، وما هو إلاّ هذيان وضيع وهذر أحمق رقيع، وأصحابه كالثعلب الذي أراد أن يقطف عنقود العنب فوثب إليه فما استطاع أن يصل، فعزّى نفسه قائلاً لها: إنه حصرم حامض، وذهب يذمّه.
هذا مثال دعاة الشعر الجديد: المنثور منه والمشعور والمحطَّم المكسور. ومثله ما دُعي الآن بشعر الحداثة. ولست أدري لماذا لا يُساق أصحابه إلى إصلاحيات الأحداث التي تعالج جنايات الحداثة! ولست أدري: متى يجاوزونها ويبلغون سنّ الرشد؟
[الذكريات6/321]
ü شعر الحداثة شيء لا يُفهم ، و هو حدث لا يُرفع بالماء!
هل ترونني تفلسفت وأغربت وجئت بشيء لا يُفهَم، كما يفعل أدعياء الشعر الجديد أو شعر الحداثة، أي شعر الحدَث الذي يستوجب الوضوء إن كان صغيراً والغُسْل إن كان حَدَثاً أكبر!على أن من شعر الحداثة ما لا تذهب بأوضاره ولا تطهّر صاحبَه منه شلالات نياغارا لو وقف تحتها واغتسل بها."
[ الذكريات 7/303]
ü عام 1987 تبدَّلت على الشيخ كثير من الأشياء حتى أصبح (المنثور شعرا) !
تبدّل عليّ في هذا العمر الطويل كل شيء: العادات والأزياء وحجاب النساء وأدب الأدباء وشعر الشعراء؛ بدأَت في أيامنا فتنةالشعر المنثور، الذي سُئل عنه الأستاذ المازني يوماً فقال (على عادته في السخرية والتهكم): هو نثر مشعور.
وأنتم تعرفون أن الزجاج إذا انشعر انكسر.
أما هذا الكلام المصفوف صفاً الذي يُنشَر اليوم في الجرائد على أنه شعر وعلى أن أصحابه شعراء، فما فيه من الشعر إلاّ أنه طُبع على هيئة أبيات القصيدة، فهو شعر المسطرة! أمّا موسيقى الشعر وطرب الشعر وسموّ الشعر، فما فيه منه شيء.
[ الذكريات 8/128]
ü أين الشعراء ؟ !
أين الشعراء؟ هل شغلهم عن هذا الذي نريد عكوفهم على وصف الغيد، وهذا الخزي الجديد الذي سمّوه شعر «الحداثة» الذي لا يدفع إلى طريق المعالي ولا إلى ذرى المجد؟ إنه شعر «الحدث الأصغر» الذي يدفع إلى دخول الحمّام للاستبراء منه والاستنجاء! كان للجاحظ تعبير عجيب فيمَن أعمى الله بصيرته حين زُيّن له سوء عمله فرآه حسناً وراح يتمدّح به، كان يقول عنه: "إن هذا لا يجيء إلاّ بخذلانٍ من الله" ، أوَليس من الخذلان أن القطّ يستر بالتراب ما يخرج منه وهؤلاء يُظهِرونه ويفخرون به؟ أفلا يصحّ فيهم ما قال الجاحظ؟
[ الذكريات 8/168]
ü العقاد و شعر الحداثة !
رحم الله الأستاذ العقّاد، عندما كان رئيس لجنة الشعر قدّموا إليه بعض هذا الذي يسمّونه «شعر الحداثة» فأحاله إلى لجنة النثر، لأنه أراد أن يدخل مدينة الشعر بجواز مزوَّر فردّه إلى موطنه، ولولا أنه رحمه وأشفق عليه لأحاله إلى محكمة الجنايات بتهمة التزوير!
[الذكريات8/373]
ü شعر الحداثة كيد بالإسلام
لقد حاقت بالعربية نكبات واعترضت طريقها عقبات ونزلت بها من نوازل الدهر المعضلات، ولكن ما مرّ بها يومٌ هو أشد عليها وأنكى أثراً فيها من هذا الأدب المزوَّر الذي سمّيتموه «أدب الحداثة». إنه ليس انتقالاً من مذهب في الشعر إلى مذهب ولا من أسلوب إلى أسلوب، ولكنه لون من ألوان الكيد للإسلام بدأ به أعداؤه لمّا عجزوا عن مسّ القرآن لأن الله الذي أنزله هو الذي تعهّد بحفظه، فداروا علينا دَورة وجاءونا من ورائنا. وكذلك يفعل الشيطان، يأتي الناس من بين أيديهم وعن أيمانهم ومن وراء ظهورهم. فعمدوا إلى إضعاف الإسلام بإضعاف العربية؛ إنها بدعة لم يسبق لها من قبل نظير (1)، إنها ردّة عن البلاغة كالردّة عن الإسلام التي كانت عقب انتقال الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى، ولكنها ردّة (كما يقول أخونا الأستاذ أبو الحسن الندوي): ردّة ولا أبا بكر لها.
[ الذكريات 8/376]
و الحمد لله رب العالمين..
===================================
الحواشي :
1- الآثار ( 4/374) و انظر نقد الكتاب حتى لا تتوهم الخلط بين الأدب و التاريخ و العقائد ! لأديبنا الشيخ علي الطنطاوي في كتابه : فصول في الثقافة و الأدب ص 102
2-فصول في الدعوة والإصلاح للأديب علي الطنطاوي - رحمه الله – ص 191 بتصرف
2- اقرأ..و ارق للدكتور علي العمران - وفقه الله –ص 39
3- انظر بيانه : التعالم للعلامة بكر أبو زيد ص 82 يسر الله وقفة معه بعنوان : المتعالمون الزُّرق .. شُهب بكرية من كتاب : التعالم و أثره على الفكر و الثقافة
4- معجم اللغة العربية المعاصرة (1/469)
5- يُنظر للتوسع : المذاهب الأدبية في الشعر الحديث لجنوب المملكة (1/137) ، أهدى سبيل إلى علمي الخليل (1/119)
كتبه محمد ياسين الشرقاوي - غفر الله له -
- التصنيف: