للذين يسألون أين المشروع السلفي؟
ما أثار دهشتي هو إصرارُ هؤلاء على الانتقاص من السَّلَفيَّةِ، لكونها - في نظرهم - لا تملك مشروعًا سياسيًّا، دون أن يُكلِّفوا أنفسهم مراجعة الواقع من حولهم ليقولوا لنا قبل أن يغمزوا في السَّلفية: أين المشروع الإخواني؟ وأين المشروع التبليغي؟
أين المشروع السَّلفي؟ أين المشروع السَّلفي؟ أين المشروع
السَّلفي؟
سؤالٌ غريب تكرر عليَّ من كل صوب، حتى أثار فيَّ الدهشة بشكل لم
أتصوره من نفسي حيال هذا الموضوع تحديدًا، فقد طرحه عدد من كتَّابِ
المقالات في بلادنا، وفي البلاد العربية، في سياقٍ من الانتقاص
للتَّوجه السَّلفيِّ الَّذي يسمونه من باب الخطأ الشائع تيَّارًا،
فيزعمون أنَّ الأحداثَ الأخيرة في البلاد العربية كشفت - بما لا يدع
مجالًا لشكِّهم - ما يُعانيه السَّلفيون من فراغٍ في جانب المشروع
السِّياسيِّ، وأنهم لذلك تخبَّطوا في هذه الأحداث خبطًا عشواء، فلم
يستقم لهم رأي، ولم تستبن لهم طريقة، وقد أثَّر هذا السؤال وما ورد
عليه من إجاباتٍ على كثيرٍ من السَّلفيِّين، فأمَّنُوا على ما ورد
فيه، وفحصوا الأرض بأرجلهم يبحثون فيها عن مشروع لهم لم تلده الأيام
بعد.
ما أثار دهشتي هو إصرارُ هؤلاء على الانتقاص من السَّلَفيَّةِ،
لكونها - في نظرهم - لا تملك مشروعًا سياسيًّا، دون أن يُكلِّفوا
أنفسهم مراجعة الواقع من حولهم ليقولوا لنا قبل أن يغمزوا في
السَّلفية: أين المشروع الإخواني؟ وأين المشروع التبليغي؟ وأين
المشروع التنويري؟ وأين المشروع الليبرالي؟ وأين المشروع الماركسي
والاشتراكي وهلم جرًّا؟ أين هذه المشاريع؟
لو تأمَّلوا الواقع بإنصاف لأيقنوا: أنَّه لا يوجد في هذه الأزمة
خاصة أي مشروع لكل تلك الجماعات, إسلاميَّةً كانت أم غيرَ
إسلاميَّةٍ.
فلماذا هذه الهجمة وهذا الانتقاص والاستخفاف على التيار السَّلفي
وله، وبه؟
من يقرأ هذه التساؤلات وما كُتِب وراءها من نقدٍ للسَّلفية، وتهويلٍ
لمظهر الفراغ الَّذي لحقها جرَّاءَ الأحداث الأخيرة، يعتقد أنَّ
الإخوان قد كوَّنوا دولتهم بشعارها الَّذي نشأت عليه: الإسلام هو
الحل، وأنَّ التنويريين قد اكتسحوا الانتخابات البرلمانية في أكثر
الدول العربية، وأنَّ الليبراليين قد نعموا بالحرية الَّتي أرادوها
وأسعدوا بها من حولهم، وأنَّ اليساريين قد فرغوا من لمِّ شتاتهم
الَّذي أحدثه سقوط الماركسية السوفيتية.
لم يسألوا أنفسهم: هل هذه الثورات الَّتي حدثت صنعتها هذه
التَّوجُّهات الفكرية الناعية على السَّلفيين ما هم فيه من فراغ مزعوم
أم صنعها غيرهم؟
الجواب: بل صنعها غيرهم، بدليل أنَّ أحدًا لم يدَّعِ لنفسه حتَّى
اليوم أنَّه هو من صنعها.
ثم هل نجح أيٌّ من هذه التَّوجهات أنْ يحلَّ بديلًا عن أي نظام من
الأنظمة الَّتي سقطت أو الَّتي سوف تسقط؟
الجواب أيضا لا, لم يستطع أيُّ توجه أن يحل محل الأنظمة الساقطة، بل
لم يستطع أن يُقدم أحدٌ منهم نفسه بديلًا، ولعلِّي أخص بالحديث
الإخوان المسلمين فإنهم أعرق الحركات المعاصرة في العمل السياسي، كما
أنَّ نجاحَهم لو تمَّ وفق مشروعهم الأصيل لكان ذلك مكسبًا لكل
التَّوجهات الإسلامية والسَّلفية منها على وجه الخصوص، وذلك لأنَّ
الكثير من رجالاتهم العاملين في المقدمة سلفيون من حيث الانتماء
العقدي والفقهي، حتى هم حين قدَّموا أنفسهم للعمل السياسي في تونس
ومصر أجَّلُوا مطالبهم العتيقة من أجل ذريعة السياسة، فلم يعودوا
يرفعون شعار الإسلام هو الحل، كما كانوا يفعلون حين كانوا حركة
محظورة، بل إنَّ المتأمل في مشروعهم المطروح بعد الثورتين التونسية
والمصرية يحسب أنَّ هذا التأجيل تخلٍّ عن تراث الإخوان الَّذي استشهد
من أجله حسن البنا وحسن الهضيبي وسيد قطب وعبد القادر عودة وغيرهم،
والَّذي ضاعت في سبيله أعمار زكية بين جنبات السجون العسكرية، ذلك
التراث الذي يوجزه لنا رسم السيفين المتقاطعين يحملان مصحفًا.
مشروع الحزب السياسي لإخوان اليوم أقرب ما يكون إلى مشروع أي حزب
علماني يعلن عن مبادئ الحق والحرية والعدالة والمساواة، لا كبير فرق
بينهم وبينهم.
هل هذا هو المشروع الإخواني الذي طالما سمعناهم يرددونه ملخصًا في:
الله غايتنا، الإسلام طريقنا، الجهاد سبيلنا، والأبيات الَّتي قالها
سيد قطب رحمه الله رحمة واسعة وتقبله في الشهداء:
أخي أنت حرٌّ وراء السدود
أخي أنت حرٌّ بتلك القيود
إذا كنـت بـالله مستعصمًا
فماذا يُضيرك كيد العبيد
إنَّ ما نقرأ عنه اليوم في تونس ومصر ليس هو المشروع الإخواني، بل هو
مشروع حزب يتبنى فكرة العلمانية الجزئية الَّتي نادى بها المسيري
يرحمه الله، ولا قد ينحصر اختلافه عن أي حزب ليبرالي في أنَّ القائمين
عليه لهم تاريخ مشرف في الحركة الإسلامية في كل من تونس ومصر، أما أن
يُقال: إن ما نقرأه اليوم هو مشروع الإخوان المسلمين فكلاَّ.
بالنسبة لي: لا أعيب على الإخوة الَّذين تبنوا هذا الطرح السياسي
ميلهم إلى أخف الضررين، وأهون المفسدتين، ومحاولة الإصلاح بتقديم
التنازلات من قبيل الانحناء للريح، ومحاولة الإصلاح قدر المستطاع, لا
أعيب عليهم ذلك، فقد يكون ما فعلوه شيئًا من الحكمة، لكن العيب كل
العيب هو أن يُصوروا هذه التنازلات وهذا الارتخاء على أنه هو المنهج
الإسلامي في الحكم، ويستدل عليه أحدهم من الكتاب والسنة على أنَّه
مطلبُ القرآن، وأنَّه الإسلام الَّذي ناضلوا منذ الأربعينات الميلادية
من أجله.
إذاً ليس من المطابقة للواقع القول: إنَّ ما يُقدمه الإخوان الآن في
تونس ومصر هو المشروع الإخواني (الإسلام هو الحل)، وكذلك ما يقوم به
الإصلاحيون اليمنيون اليوم من المطالبة بإسقاط النظام، ضمن لقاء مشترك
يجمعهم مع أعداء المشروع الإسلامي، ليس من المطابقة للواقع أن يقال
إنه هو المشروع الإصلاحي، كل ذلك إنما هو نشاطٌ سياسيٌّ لا يختلف فيه
هؤلاء عن غيرهم من الأعداء التقليديين لأطروحاتهم، بدليل أنَّ الجميعَ
الآن لا فرق بينهم في أدوات النضال ولا مصطلحاته وأولوياته.
أعود لتأكيد أني لا أنعى عليهم عملهم السياسي، بل آمل أن يحقق الله
على أيديهم الكثير من الخير، لكنني لا أسلِّم لهم بأن ما يقومون به هو
المشروع الإسلامي الَّذي عرفناهم به قديمًا.
إذًا فالإخوان دخلوا السياسة بعد الثورات، ولكن ليس بمشروعهم، بل
بمشروع مستعار،
نعم مشروع مستعار يشبه إلى حد كبير المشروع الَّذي دخل به النورسيون
في تركيا حلبة النزاع السياسي، وفازوا بسدة الرئاسة من خلاله، لكن
الأتراك أعلنوا أن هذا ليس هو مشروعهم الحقيقي حين وصفوا حزبهم صراحة
بالعلمانية، وأقرُّوا أنهم لا يستطيعون العمل في هذه الظروف ببرنامجهم
الَّذي يعبِّر عنهم.
فعلى التسليم جدلا بأنَّ السَّلفيين لا يملكون مشروعًا سياسيًّا، لا
يحقُّ لأحد أن ينعى عليهم ذلك ما دام الواقع أثبت أن من لديهم مشروعًا
سياسيًّا لم يستطيعوا التقدم به إلى الحلبة، وأخذوا بدلًا عنه ثوبًا
مستعارًا من خصومهم الَّذين ينازعونهم في مشروعية وجودهم.
أما لماذا اضطربت مواقف السَّلفيين؟ فسؤال ينبئ عن عدم معرفة صحيحة
بطبيعة التَّكوينِ السَّلَفِيِّ, فالسَّلفيون ليسوا جماعةً تخضع
لقيادة فكرية أو حركية حتى تتوحد مواقفها تبعًا لهذه القيادة أو تلك،
بل هم أصحاب مدرسة دعوية، ومنهج استدلالي يذهبون إليه في العقيدة
والفقه والأخلاق, وحين تأتي النوازل يعرضونها على طريقتهم في
الاستدلال، وتختلف رؤاهم حولها بشكل طبعي، تبعًا لاختلافهم في فهم
النصوص أو تنزيلها على الواقع، وتبعًا لرؤية كل منهم للمصلحة والمفسدة
وطرق تقديرها.
لذلك نجد أن من السلفيين من هم أعضاء في جماعاتٍ سياسيةٍ، كالإخوان
والنهضة والإصلاح، ومنهم من لا ينتمي إلى جماعة سياسية، وله انتماءات
مذهبية أو فكرية أخرى يرى أن مواقفها لا تتعارض مع ما يوصل إليه
المنهج السَّلفي في الاستدلال.
من يعرف ذلك عن السَّلفيين لن يستغرب اختلاف مواقفهم في هذه الأحداث،
بل ربما يجد الغرابة فيما لو اتحدت مواقفهم، فهذه طبيعة البشر حينما
لا تجمعهم قيادة فكرية أو سياسية يدينون لها بالتسليم، لابد أنْ
يختلفوا، وليس ذلك في المواقف الحاسمة وحسب، بل حتى المواقف التافهة
قلَّما تجد بين أصحاب المصلحة الواحدة اتفاقًا بشأنها، ما لم يجتمعوا
على صوت واحد يسلِّموا له، ويقفوا عند رأيه.
هناك معضلة أخرى يشترك فيها السَّلفيون مع غيرهم، وهي أن فرصة الحديث
في كل أمر جليل متاحة للجميع, ويجد الكثيرون ممن ليسوا أهلًا للفتوى
من أنفسهم الجرأة على الإقدام على إبداء آرائهم في النوازل الخطيرة،
وصبغ هذه الآراء بصبغة الفتوى، أي أنها فيما يرون هي حكم الله تعالى
في المسألة دون أن يؤدوا ما عليهم من واجبٍ شرعي، وهو استفراغ الوسع
في الاجتهاد في هذه النازلة، باستخدام كل ما يعرفه علماء أصول الفقه
من أدوات الاجتهاد.
وأقول: إن هذه بلوى عامة لدى السَّلفيين وغيرهم، لكنَّها قد تبدوا
أكثر جلاء عند السَّلفيين، لكونهم لا يخضعون - كما قدمت - لقيادات
علمية تجمع شتات آرائهم في مثل هذه المواقف، وتحدد من له أهلية الكلام
ممن يجب أن يلتزمَ الصمت.
أما غير السَّلفيين فإنهم وإن كانوا يرجعون إلى قيادات تجمع شتات
فكرهم، إلا أنَّ سيطرة التوجهات الحزبية على هذه القيادات تحول دون
استشرافهم للنصوص الشرعية الاستشراف اللائق بها، ولذلك تأتي
اجتهاداتهم في النوازل مطلية بطلاء الهوى المحض الَّذي يُخفي ما يشاء
من النُّصوصِ ويبدي ما يشاء منها.
وفيما يتعلق بالمشروع السياسي، أين المشروع السياسي السلفي؟
في ظل هذه الحركات الشعبية بدأ الكثيرون من السَّلفيين الشباب يشعرون
بسحر السياسة وتحركاتها، ولم يجدوا عند علمائهم سوى أحاديث الطاعة
لولي الأمر، والَّتي يختلفون أيضًا في طُرق تنزيلها على الواقع،
فأحسوا بصدق القول بأنَّ السَّلفية تفتقر إلى مشروع سياسي يتناسب مع
مطالب العصر.
وللجواب لابد أنْ نعلمَ أنَّ مصطلحَ المشروع مصطلح لا يزال غير محرر
عند أكثر من يتحدثون عنه، لاسيما كتَّاب الصحافة والإعلاميين، الَّذين
هم أكثر الناس جدلًا بشأنه، وعندي أنَّ المراد به في العرف الفكري
المعاصر: مجموعة المبادئ والوسائل والغايات التي تتبناها جماعة ما،
لتحقيق رؤيتها للنهضة والإصلاح في مجتمعها، وحين نتأمل الفكر السَّلفي
ممثلًا في الإنتاج الغزير لأبرز رموزه، وهو شيخ الإسلام ابن تيمية،
نجد أنه يرشد إلى مشروع متكامل للنهضة والإصلاح في الأمة، لكن الإصلاح
السياسي في هذا المشروع يأخذ مكان الثمرة الَّتي تنتج بعد الاشتغال
بالإصلاح الدِّيني للأمة بكل مكوناتها، والقادة والقائمون على الشأن
السياسي جزءٌ غير منفصل عنها.
فليست السياسة هي مشروع السَّلفيين للنهضة والإصلاح بل هي جزء من هذا
المشروع، ولهذا نجد أنَّ التغيير السياسي ليس أوليًّا في برنامجهم إلا
في جانب النصيحة لأئمة المسلمين، كما في حديث: «
الدِّينُ النَّصِيحَةُ
»، قلنا: «
لمن يا رسول الله؟
» قالَ: «
للهِ ولِرَسُولِهِ
ولأئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وعَامَّتِهِمْ
»(1)، وهو الحديث الَّذي يؤكد على الفكرة الَّتي
يتبناها السَّلفيون من عدم الفصل في مشروعهم بين الحكام والمحكومين،
وتتضمن النصيحة واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الثابت لعموم
الأمة كأحد مظاهر خيريتها الثابتة في قوله تعالى: {
كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ
تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ
وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ
خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ
الْفَاسِقُونَ} [آل
عمران:110]
أما التخطيط والترتيب من أجل الوصول إلى سدة الحكم، فهذا في حال عدم
ثبوت الكفر البواح من الحاكم، شأن فردي لا يتدخل المشروع السَّلفي فيه
كثيرًا, بل يغلب عليه أنَّه كسائر تصرفات العباد تنتابه الأحكام
التكليفية الخمسة، فقد يكون واجبًا، وقد يكون محرمًا، وقد يكون
مكروهًا، وقد يكون مستحبًّا، وقد يكون مباحًا, فللسَّلفيين حكم فقهي
مستفاد من نصوص الشرع، أو من الأدلة الأخرى المستفادة حجيتها من
النَّصِّ الشرعيِّ على كل من يصنع ترتيبًا كهذا أو يُشارك فيه، سواء
أكان فردًا أم جماعة، لأنَّ السَّلفيين هم - كما قدمت - أصحاب منهج
استدلالي في الاعتقاد والفقه، ولهذا فهم يحكمون على التصرفات البشرية
بما يرونه مناسبًا لها من الأحكام التكليفية.
وقد يخرج من السَّلفيين من يأخذ طريقه في العمل السياسي، فعمله إذ
ذاك لا يكون حجة على المنهج السَّلفي، أو عورة عليه، كما يقول بعض من
يريد الإساءةَ للسَّلفية، بل إنَّ سلفية هذا الناشط لا تعصمه من أن
يحكم إخوانه من علماء المدرسة السَّلفية على تصرفاته بأحد الأحكام
الَّتي يرون أنها تُلائم ما قام به من عمل، حسب ما لديهم من طرق في
استنباط الأحكام.
وللسلفيين بمجموعهم نظرة دقيقة جدًّا، وفريدة لا نظير لها، فيما
يحكمون عليه بالوجوب أو الندب من المشاريع السياسية، وبالتالي تجد
أنَّ هذه المشاريع قليلة الوجود في التاريخ الحديث، بل ربما نادرة، أو
قل: إنَّ الذاكرة الحديثة المدونة لن تسعفنا إلا بأمثلة قليلة منها:
مثال الدولة السعودية بأطوارها الثلاثة، وأمثلة جميع الثورات
الإسلامية المسلحة، والحركات غير المسلحة ضد الاستعمار الصليبي
والماركسي قديمه وحديثه.
أما الحكم بالإباحة فالغالب على السَّلفيين عدم الاعتراض على النشاط
السياسي الذي يقوم به إخوانهم من أبناء الحركات الإسلامية ضمن حدود
النظام داخل الأنظمة الَّتي تدَّعي الديمقراطية، وتسمح لمواطنيها
بالتعددية السياسية، أقول الغالب، لأنَّ من السَّلفيين من لا يرون
المشاركة ضمن أنظمة لا تحتكم لشرع الله تعالى على اعتبار أنَّ ذلك
تعبير عن الرضا بحكم الطاغوت.
أما الكراهة والتحريم فيحكم السَّلفيون بهما على كل تحرك سياسي ضمن
نظام لا يسمح بالمشاركة السياسية، ويكون بقاؤه رغم ما فيه من استبداد
محققًا لقدرٍ من مقاصد الشريعة سوف يكون تحقيقها في خطر حين حدوث
الصدام بين هذا النظام، وبين الحركات السياسية الإسلامية, وهي خلاصة
الحكمة الَّتي يرونها في الأحاديث الموجبة لطاعة الولاة، وتحريم
الخروج عليهم، والَّتي يلتزمونها بشدة، لكونها قاطعة في دلالتها،
قطعية في ثبوتها.
قلت قبل قليل: إن المشروع السياسي لا يتدخل كثيرًا فيما إذا لم يكن
من الحاكم كفر بواح، وأقول هنا: إنه إذا وُجِد الكفر البواح, أو حين
يكون النظام من الظلم بحيث لا يمكن حالًا أو مآلًا أن تتحقق على يديه
مقاصد الشريعة، فإنهم لا يحرمون العمل ضده, ولكنهم يتحرزون أشد التحرز
في أخذ عُدَد التمكن والاستطاعة، لأنَّ العملَ دون تمكن ودون استطاعة
خطير الأثر من حيث المآلات القريبة والبعيدة، كما أن نظامًا من هذا
النوع يعسر تحت رايته, بل ربما يستحيل تطبيق المادة الأولى والأهم من
المشروع السَّلفي، وهي تديين المجتمع وتعبيده لله سبحانه وتعالى, فإذا
استحال في ظل نظام ما التَّحَرُّكُ السَّلفي لإعادة المجتمع إلى
مفاهيم الإسلام وقيمه، استحال بالتالي ما يترتب على هذه العودة وهو
الإصلاح السياسي، وهنا يكون التغيير السياسي بشتى طُرقه متاحًا
ومباحًا، ما لم يغلب على الظن إفضاء محاولات التغيير إلى شر هو أعظم
مما يمكن من الخير.
أين الثورات الشعبية الحالية من هذا كله:
لا السَّلفيون ولا غيرهم كانوا وراء قيام هذه الثورات الشعبية، وقد
كانت كما يقول الكثيرون مفاجِئَةً للجميع حتَّى من أيدوها فور حدوثها،
ومن شاركوا فيها, وكان السَّلفيون حين قامت هذه الثورات مشغولين حقًّا
بمشروعهم الدعوي العلمي بشكل يبعث إعجاب محبيهم، وسخط شانئيهم، فلهم
قنوات فضائية عديدة تستقطب جمهورًا عريضًا في الوطن العربي كله، رغم
محدودية مواردها، وبساطة قدراتها الإعلامية, ويُشرفون على مواقع
إلكترونية ذات تخصصات مختلفة تغطي أكثر احتياجات المستهلكين لخدمات
الإنترنت، من موسوعات علمية إلكترونية، ومنتديات تخصصية، ومنتديات
أخرى حرة وغرف بالتوك متخصصة في العقائد، وأخرى في الاستشارات, وصحف
تعد من أكثر مواقع الإنترنت زيارة وتأثيرًا, كما يقومون على الكثير من
المساجد الَّتي استطاعوا أن يُعيدوا لها رسالتها الدينية والاجتماعية,
ناهيك عن الجهود التطوعية الَّتي وصلوا بها إلى قلوب الأرامل والأيتام
والمعوزين في جميع الأقطار, والعجيب في جهودهم أنها سريعة التأثير
عظيمة البركة، فلا يُحصى عدد من تحصن بسببهم من بدعة الرفض, أو أنقذه
الله تعالى بعلمهم من شرك القبورية, أو أعاذه الله بإخلاصهم من شرك
العلمنة، أو فخ التحرر والليبرالية, كما لا يُحصى عدد ما أبطلوه من
الخرافات المتوارثة، والخزعبلات الرائجة, هذا إضافة إلى من أدخله الله
بفضل جهدهم في دين الإسلام، وأخرجه من ظلمات الكفر والفسوق
والعصيان.
حقًّا لقد كان السَّلفيون يسيرون بالمجتمعات العربية بهدوء وتؤدة إلى
طريق النجاح والنجاة، مكتسحين كل ما يقابلهم من عقبات بحكمة المؤمنين
المخلصين لربهم فيما يقولون ويفعلون.
شهد بنجاح السَّلفيين في مصر بعض المعتاشين على رواج الخرافات، وشيوع
الشركيات من نصابي الموالد، وسدنة المقابر، وسماسرة إيران حين عقدوا
مؤتمرًا شارك فيه بعض الأزهريين لمناقشة الخطر السَّلفي على المسلمين
والعالم، وانتهى المؤتمرون إلى أنَّ السَّلفيين أخطر على الإسلام من
الصهاينة، وأنَّه إن لم يقفْ مدهم فسوف يُعاني العالم من وجودهم أمر
العذاب.
كان هذا المؤتمر نموذجًا لضريبة النجاح الَّتي يدفعها السَّلفيون,
وشهادةُ تفوق يرفعها من يشعر على وجوده بالخطر، حين يدهمه صاحب الحق
ويدمغه.
قامت هذه الثورات، وهذا الحال من النجاح هو ما يَعيشه السَّلفيون
فماذا فعلوا؟
لم يختلف منهج السَّلفيين وطريقتهم, فقد نظروا إلى هذه الثورات نظرة
فقهية، كما هي قاعدتهم الَّتي قدَّمت بيانها، وحقًّا قد اختلفوا في
حُكمها الشرعي نظرًا لاختلافهم في تنزيل الدليل، واختلافهم أيضًا في
تقدير المآلات، ومنهم من شارك فيها، ومنهم من توقَّف، ومنهم من
أبى.
لكن الجميع، من شارك ومن توقف ومن أبى، لم يستعيروا ثوبًا ليس من
ثيابهم، كما فعل غيرهم, بل جُلُّهم محافظ على مبادئه مستمسك بسلفيته،
سائر في مشروعه الَّذي قامت الثورة وهو عليه، نعم إنَّ منهم من رفض
الثورة وندم آخرًا على رفضها فما المشكلة؟
رجل أو رجال حكموا بخطأ أمر ثم بدا لهم صوابه ما الضير في ذلك,
ولماذا نتجاوز بمثل هذا الموقف حدوده، ونجعله دليلًا على تذبذب
السَّلفيين، وعدم قراراهم، أو نجعله شاهدًا على فراغهم، وعدم قدرتهم
على تقدير الأمور وجهلهم بالسياسة.
هم في كل الأحوال خير من رجل نعرفه، حكَم بصواب أمر، ثم لمَّا بدا
خطأه أطرق إطراق من لا يعنيه الأمر.
أنتهي هنا إلى جواب سؤال المقال: أين المشروع السلفي؟
فأقول المشروع السَّلفي في إصلاح جميع تركيبات الأمة قائم لم ينقطع،
وحين لا يراه بعضهم فليس ذلك لعدم وجوده، بل لجهلهم به, فالتصديق -
كما يقول الفلاسفة - ناتج التصور.
وحين قامت الثورات وقف السَّلفيون منها موقف العلماء مع النوازل، أول
ما يبحثون فيها عن حكم الله، واختلاف رأيهم ناتج اختلاف معطيات
اجتهادهم.
توصيات في آخر الحديث
1- النظر إلى الذات بعين البصيرة خيرٌ من جلدها، ومما يؤسفني أنَّ
كثيرًا من السَّلفيين بدؤوا بالثانية وتركوا الأولى، مع أنهم لو نظروا
إلى أنفسهم نظرة فاحصة لخفت وطأتهم على أنفسهم وأهليهم.
2- الحملة الجائرة ضد السَّلفية ولاسيما في مصر بعد انتهاء الثورة
وحتَّى الآن جزء من محاولات القضاء على النفسية السلفية المعتدة
بمنهجها, تلك النفس الَّتي كانت وما تزال من أعظم المؤثرات على انتشار
دعوتهم، لأنَّ النفوس مجبولة على حب الأقوياء والثقة بما عندهم.
3- المشاركة من السَّلفيين في العمل السياسي ينبغي أن لا تكون ردة
فعلٍ تجعلهم ينصرفون إلى السياسة بكليتهم، لأنهم إن فعلوا ذلك سيفقدون
مشروعه حقًّا.
4- ما زال الوقت مبكرًا حتَّى نسمي ما قدمته هذه الثورات نجاحًا،
ونحن ننظر مع إشراقة كل يوم إلى غمام جديد يتساقط عن وجه الشمس.
السبت 5 جمادى الأولى1432هـ
____________________
(1) الراوي: تميم الداري - المحدث: مسلم - المصدر: صحيح مسلم -
الصفحة أو الرقم: 55 - خلاصة حكم المحدث: صحيح
- التصنيف: