محاكمة بن علي.. الجزاء من جنس العمل
تعد محاكمة بن علي، رسالة لكل طاغية بأن الطغيان له حدود، وكفى بالموت واعظا، ورسالة للضحايا بأن القصاص دوام العمران، قال تعالى " ولكم في القصاص حياة" فغياب العدل موت ، وإفي قامته الحياة الطيبة ..
يدور الزمان دورته، ويصبح الجلاد في حالة فرار، كما هو حال سيدة قصر
قرطاج، سابقا، التي عملت مع زوجها بعد رفض الجيش تطبيق أوامرهما بقصف
المتظاهرين،على حرق تونس بمرتزقة القذافي، قبل أن تدور عليه الدوائر
هو الآخر.. وتصبح ليلى الطرابلسي والمخلوع بن علي، على قائمة
المطلوبين لدى السلطات التونسية والانتربول. ويذوق الجميع ما أسرفوا
فيه من مظالم بحق الأحرار من أبناء تونس، فعهد بن علي كان قاتما
قاحلا، شهد إحدى أكبر مظالم العصر المتمثلة في سجن أكثر من 30 ألف من
خيرة أبناء تونس من كل الكفاءات والتخصصات ومن كل الكليات إذ كانت
أغلبية المساجين من الشباب الجامعي، قضى الكثير منهم أحاكاما بالسجن
لمدد طويلة وصلت في بعض الحالات إلى أكثر من 20 سنة سجنا، وهجر من
البلاد نحو 10 آلاف آخرين. وذاقت ميئآت الآلاف من الأسر الحرمان
والعذاب واضطرت الاستاذة الجامعية والطبيبة والمهندسة والمحامية للعمل
كخادمات في البيوت بعد أن حرمن من وظائفهن لأنهن ملتزمات بالحجاب أو
ناشطات في مؤسسات المجتمع المدني أو عضوات في جمعية اسلامية أو أم أو
أخت أو زوجة لسجين سياسي.
وفي 20 يونيو 2011 م صدر حكم غيابي على المخلوع وزوجته بالسجن لمدة
35 سنة، أي سيقضيها حتى بعد وفاته بعون الله، وذلك بعد ثبوت الإدانة
وهي الاستيلاء على المال العام والاختلاس.وغرامة مالية بما يناهز 20
مليون يورو، بالإضافة لغرامة ب 25 مليون يورو. ولا تزال الادانات
تتوالى ضد المخلوع الذي حول تونس، إلى مرتع للموساد، وللفساد بكل
أشكاله. ولم يكن هناك ما يشغل المخلوع إلى حد الهوس سوى الحالة
الاسلامية في البلاد ، حتى إنه كان يتصل بالمستقيلين من نظامه ومن
مؤسساته إبان الثورة ليقول لهم بالحرف الواحد" إذا كنتم ترغبون في عدم
استلام الخوانجية ( الاسلاميين ) للحكم فلاتستقيلوا". ولم ينقم على
الاسلاميين سوى أنهم " قوم يتطهرون" فلا علاقة لهم بالمخدرات التي
وجدت في قصر الحكم، ولا بالدعارة،.
كما لا علاقة للإسلاميين بقضايا الفساد والرشوة التي كانت تزكم
الأنوف في عهده ، والمتورط فيها حتى الآن 1131 من أتباعه ، و50 ملفا
يتعلق بالمخلوع وبأفراد أسرته ومن بينها ملفات تتعلق بالإتجار
بالاسلحة، وتكوين شبكة لتهريب السيارات واستهلاك المخدرات والصفقات
المشبوهة. كما أعلنت لجنة تقصي الحقائق حول الفساد والرشوة في عهد
المخلوع عن اقتراحها إدراح 47 اسما جديدا من عائلة المخلوع لضمها
لقائمة الأشخاص الذين جمدت أموالهم . ولا تزال السلطات المؤقتة في
تونس تبحث عن صيغ قانونية لتعويض ضحايا المخلوع منذ 7 نوفمبر 1987 م
وحتى 14 يناير 2011 م وهي الفترة التي حكم فيها المخلوع بقوة الحديد
والنار وبكل أشكال الخسة والنذالة والفجور في الخصومة. وهناك مرسوم
ستعرضه لجنة تقصي الحقائق على السلطات التونسية يضمن حق التعويض ورد
الاعتبار للمتضررين ، كما يخول للإدارة مراجعة الامتيازات التي منحت
لأشخاص أو جهات في عهد المخلوع سواء كانت جبائية أو إدارية أو
غيرها.
ولم تكن جرائم بن علي محلية فحسب بل دولية أيضا فقد أمر القضاء
الفرنسي بفتح تحقيق يتعلق بغسل أموال ، وقد فتح التحقيق فعلا يوم 14
يناير 2011م وذلك على إر شكوى تقدمت بها شركاتان تدعمهما المنظمة
العربية لحقوق الانسان.
لقد حاول المخلوع وعن طريق محاميه الفرنسي الدفاع عن نفسه، ونفى تهم
التآمر على الدولة، وإساء استخدام السلطة، والاختلاس، وغسل الأموال،
والإتجار في المخدرات، حتى الأموال الطائلة التي عثر عليها في قصور
الحكم في قرطاج والمرسى وسيدي بوسعيد والحمامات نفى وجودها رغم عرضها
على شاشات التلفزيون مرارا. بيد أن شكاوي رجال أعمال كبار من عمليات
ابتزاز وتقديمهم أموالا طائلة لعائلة بن علي من أجل الحصول على
امتيازات أو خدمات تفضيلية أو الاشتراك في مشاريع ضخمة بالمليارات
تفند ذلك التكذيب ، ويبقى ما قيل على ذمة التحقيق وفي يد القضاء . لكن
الملفت للانتباه حقا هو تعليق محامي المخلوع، الفرنسي، ايف لوبورني،
على محاكمته بأنها" محاكمة المنتصر للمنهزم". وأن " العملية القضائية
ضد موكله هي وسيلة تصفية". نه يعيدنا بذلك إلى سنة 1991 عندما بدأت
حرب تجفيف الينابيع ضد الإسلام والاستئصال للحركة الاسلامية في تونس
بكل فصائلها، ولا سيما ، النهضة. عندما تعرض المساجين لشتى صنوف
التعذيب، حتى قص الأسابع وليس خلع الأظافر فقط مورس ضدهم، حتى محاولات
دفعم للواط لم تغب عن عقلية المخلوع، وأتي ب( أطباء ) نفسانيين يزينون
لهم فعل قوم لوط ، وهو أشد نوع من أنواع التعذيب النفسي والبدني مورس
على المساجين.
لا شك أن أيدي المخلوع ملوثة بالدم، وملفه مترع بالجرائم، وإن كانت
المحاكمة لن تعيد شهيدا، ولن تعوض معاناة سجين مهما كانت التعويضات،
على أهميتها، فإن ما يشغل التونسيين في هذه الظروف الاجتماعية
والاقتصادية الصعبة إلى جانب تعويض الضحايا وأسرهم، هو إعادة الأموال
المنهوبة التي سرقها المخلوع وزوجته، وقد تظاهر العديد من التونسيين
في الداخل والخارج أمام السفارات التونسية مطالبين بإرجاع كل الأموال
المودعة في حسابات اسمية أورقمية بالبنوك السويسرية العمومية والخاصة
.وقد رفع المتظاهرون شعارات معبرة من بينها" الأموال عندكم والبطالة
عندنا" وط مالي وكرامتي ولا حاجة للصدقة " و" ايواء المجرمين جريمة"
و( في الخارج ) " طرقاتكم نظيفة ولكن بنوككم متسخة"
لقد خدعت أبواق بن علي العالم، بأنه جعل من تونس" معجزة " حتى دول
الجوار انخدعت بتلك الأكاذيب، ففي زيارة الرئيس الجزائري إلى تونس
نهاية العشرية الماضية، أشاد بالتقدم الحاصل في تونس، وب" المعجزة "
التي حققتها. بينما كانت ( المعجزة ) إن حصلت، فهي نجاح بن علي في
التريج لها، وتصديق الآخرين، بأن نسبة الفقر في تونس تقلصت إلى 4 في
المائة، وأن نسبة الطبقة الوسطى بلغت 81 في المائة من مجموع السكان.
وقد تبخرت هذه الأرقام، ليس بعد عقود من الزمن ( كما هو الحال بين حكم
الملك فاروق، وجمال عبد الناصر، على سبيل المثال، ويا للمفارقة )
وإنما بعد أيام معدودة، وتحديدا في 27 فبرايرالماضي، عندما أعلن رئيس
الوزراء التونسي المستقيل، محمد الغنوشي، بأن هناك 200 ألف أسرة ( من
بين 10 ملايين نسمة ) ترزح تحت خط الفقر، وأن 150 ألف أسرة لا يرتقي
دخلها الشهري إلى مستوى العيش الكريم. بيد أن هذه الأرقام ليست سوى
عيينة من مناطق بعينها، في حين أن الواقع الموضوعي أتعس من ذلك بأضعاف
مضاعفة. ففي السنوات الأخيرة من حكم المخلوع بن علي، شهدت تونس عملية
إفقار للطبقى الوسطى، ولم يكن هناك من يجرئ على تقديم أرقام صحيحة، أو
معلومات تعكس واقع تلك الطبقة التي حولها الديكتاتور وأزلامه، إلى
طبقة فقيرة غير قادرة على أن تعيش بكرامة. وتهاوت معظم الطبقات
الوسطى، لتصبح طبقات فقيرة، يعيش أهلها على أقل من دولار واحد في
اليوم. والأجر الأدنى المضمون حاليا في تونس يقارب 250 دولار، في ظل
ارتفاع تكلفة المعيشة وعدم توازنها مع تنامي الحاجات الاستهلاكية
للمواطن التونسي، وقدرته الشرائية . لقد بدا ذلك واضحا من الصورة التي
لم يكن يسمح بظهورها إبان الدكتاتورية، وهي صورالفقر، والتخلف،
والمعاناة، ومكابدة آلام الظلم، والخصاصة، والجرائم التي كانت ترتكب
بحق الشعب التونسي. حتى أن الكثير من الأسر التونسية، لا تجد ما تقتات
به، وبعضها يعيش في ما يشبه الكهوف، والحياة في العصر البدائي. بينما
كان الديكتاتوروأصهاره، والمقربين منهم يرفلون في الحلل، ويستقلون
السيارات الرياضية الفارهة، ويملكون الميارات من اليورات، والدولارات،
والدينارات، في المصارف الداخلية والخارجية، وهو شاهده الجميع صوتا
وصورة . وكانت منظمة الشفافية العالمية،
Transparency International
قد صنفت تونس في المرتبة ال 65 سنة 2008 م، ولكن ذلك كما سيأتي، دون
الحقيقة بكثير، فهناك ما لا يمكن كشفه بسهولة، وبالتالي لا يمكن
إعطاءه رقمه الحقيقي في سجل الترتيب.
يشير خبراء الاقتصاد في تونس التونسي، إلى أن الثروة المتوفرة في
البلاد، ورغم محدوديتها، قادرة على القضاء على البطالة، لولا الفساد
الذي كان مستشريا في عهد الديكتاتوربن علي، واستئثار المقربين منه
بتلك الثروة ، واستغلال النفوذ، وعدم دفع الضرائب المستحقة، حيث كانوا
يملكون أضخم المشاريع والمؤسسات المتخصصة، وابتزاز المستثمرين
المحليين والأجانب، وجميع تلك المظاهر ساهمت وإلى حد كبير، في عجز
متواصل لتخطي حاجز ال 5 في المائة من النمو الاقتصادي على امتداد
العقدين الماضيين.
والحقيقة هي أن الديكتاتور الملخوع، لم يكن ليفعل ما فعله، ويرتكب كل
تلك الجرائم بحق المواطن والوطن، لولا الإعلام الخسيس الذي استند
عليه، في قلب الحقائق ونشر الأكاذيب، وصبغ البشاعة التي كان عليها،
ليظهر بمظهر مغاير. لقد أجرمت وسائل الإعلام المملوكة للدولة، وشبه
المستقلة، في عهد المخلوع في حق الشعب التونسي، فقد كانت تقتات من
موائد النظام الفاسد،على حساب الشعب التونسي، بوضعه تحت قدميها،
وتغطيته بأوساخها، واسكاته بنعيقها، حتى لا ترى معاناته، وحتى لا يسمع
صوته . وبعد الثورة، بدت الساحة على حقيقتها، بنوك، ومؤسسات، وفنادق،
وأراضي، يملكها الديكتاتور وأعوانه، وآلاف الأسر تعاني الحرمان بما
يشبه المجاعة . وقد اندهش الكثيرون، عندما رأوا الأموال الطائلة في
قصور الطاغية المخلوع بن علي، بما يذكرهم بخزائن قارون، بينما الشعب
يتضور جوعا، قصورفخمة، وذهب، وألماس، في الخزائن الخاصة لبن علي،( وما
خفي أعظم ) بإمكانها تشغيل آلاف الأشخاص، وإقامة آلاف المشاريع
التنموية في مختلف مناطق تونس. وفي تقرير للخبير المالي ديف كار،
ذكرأن " تونس فقدت 9،3 مليار دولار بين عامي 2000 و2008 م في شكل
تهريب مالي بالعملة الصعبة. وأكد على أن ، هذا الرقم قد يكون الجزء
الظاهر من جبل الجليد، أي ما أمكن إحصاؤه لوقوعه تحت طائلة الحساب.
وأوضح بأن، الحجم الحقيقي لما تم نهبه قد يكون أضعاف أضعاف ذلك.
كما أشارت منظمة الشفافية الدولية، في تقرير لها، إلى أن، تونس كانت
( في العهد البائد ) تمثل أكبر نسبة هروب مالي غير شرعي في العالم (
إلى جانب مصر ) بالمقارنة مع حجمها الاقتصادي. وأن، أهم أساليب تهريب
المال خارج البلاد هي التحايل على القانون لشراء أسهم وسندات في شركات
أجنبية، ثم تضخيم فواتيرالإستيراد والتخفيض من فواتير التصدير. إضافة
إلى أن، أكبر الوسائل المستخدمة في تبييض المال وتهريبه إلى خارج تونس
في الأعوام الأخيرة، هي تهريب البضائع والتجارة السوداء، ولا يمكن
تقدير حجمها لأنها تتم بشكل كامل في الظلام، ولا تظهر إلا في شكل
بضائع في الأسواق مستوردة من الصين، أوافريقيا، مثل الموز الذي كان
أفراد من عائلة زوجة المخلوع يحتكرون استيراده. وقد أعلن القضاء
البلجيكي أن حسابات مالية وأملاك عقارية هامة تعود إلى أسرة
الديكتاتورالمخلوع ، وأن تحقيقات جارية للكشف عن كل ذلك.
أخيرا تعد محاكمة بن علي، رسالة لكل طاغية بأن الطغيان له حدود، وكفى
بالموت واعظا، ورسالة للضحايا بأن القصاص دوام العمران، قال تعالى "
ولكم في القصاص حياة" فغياب العدل موت ، وإفي قامته الحياة الطيبة
.
21/7/1432 هـ
- التصنيف: