الليبرالية في ميزان الشرع:المقال الأول
ملفات متنوعة
حيث لا تعترف بهيمنة الدين على الحياة الإنسانية، فقد نمت هذه الفكرة في أجواء رافضة للدين، ومعترضة عليه، وهي تريد أن تعطي الإنسان حريته المطلقة بالتحلل من قيود الأديان
- التصنيفات: مذاهب فكرية معاصرة -
الليبرالية
الليبرالية – كما سبق – فكرة غربية مستوردة، وليست من إنتاج المسلمين، وهي تنفي ارتباطها بالأديان كلها، وتعتبر كافة الأديان قيودا ثقيلة على الحريات لابد من التخلص منها.
وقد تقدم الكلام حول حقيقتها، وتصورها لمفهوم الحرية، ومن خلال ما تقدم يتبين لنا أن الليبرالية مناقضة للإسلام في أصوله ومنهجه وأخلاقه وقيمه.
ومحاولة التوفيق بين " الليبرالية " و " الإسلام " هي تغيير لمفهوم كل واحد منهما، وتبديل لمعناه يخرجه عن حقيقته إلى مفهوم مشوه، وصورة غير صحيحة لكل منهما.
ومن البديهي أن نقول: إن فلاسفة الليبرالية ومفكريها الذين وضعوا أصولها في فترات مختلفة قد شكلوها خارج إطار الأديان جميعا، ولم يدعي أحد منهم ارتباطها بدين من الأديان ولو كان دينا محرفا.
ومع هذا الوضوح يبقى من يصر من المسلمين على أنه بالإمكان الجمع بين منهج مادي يرفض قيود الأديان، ومنهج الإسلام الرباني، ولهذا سنبين بما لا يدع مجالا للشك أن الليبرالية تعني في الإسلام ألوانا متعددة من الكفر والشرك المناقض لحقيقته، وأشكالا مختلفة تنافي أخلاقه وقيمه الكريمة.
أولا: نواقض الإيمان في الليبرالية :
إن دارس الليبرالية يجد أنها دعوة إلى الإلحاد ورفض الأديان حيث لا تعترف بهيمنة الدين على الحياة الإنسانية، فقد نمت هذه الفكرة في أجواء رافضة للدين، ومعترضة عليه، وهي تريد أن تعطي الإنسان حريته المطلقة بالتحلل من قيود الأديان والقيم والأخلاق، فأساس الفكرة قائم على تعظيم العقل الإنساني وماديته، ولهذا ارتبطت عبارة " الفكر الحر" في كتابات الغربيين بالإلحاد والرفض للدين والقيم وعليه فإن الليبرالية لا تتفق مع الإسلام.
و في هذه الفقرة سأذكر بعضا من أنواع الكفر والشرك الواقعة في الليبرالية، ليتبين من خلالها الحكم الشرعي في الليبرالية :
كفر الاستحلال:
الاستحلال معناه: أن يعتقد في المحرمات أنها مباحة، ويجوز فعلها مع علمه بأن الله تعالى حرمها ، وقد أجمع العلماء على أن المستحل لما حرمه الله تعالى مما هو معلوم من الدين بالضرورة ومتواتر فهو كافر خارج عن دين الإسلام ، يقول القاضي " عياض " : " وكذلك أجمع المسلمون على تكفير كل من استحل القتل أو شرب الخمر أو الزنا مما حرم الله بعد علمه بتحريمه، كأصحاب الإباحة من القرامطة، وبعض غلاة المتصوفة" .
.......وضابط الأمر المستحل هو أن يكون أمرا ظاهرا متواترا لا يوجد فيه خلاف ولا شبهة مثل تحريم الزنا والربا وأكل الخنزير وغيرها .
وسبب كفر المستحل التكذيب أو العناد، فإن اعتقاد إباحة أمر محرم يدل على تكذيبه لمن حرمه أو عناده له، وكلاهما مناقض لحقيقة الإيمان .
فلا يشترط لتكفير المستحل أن يصرح بالتكذيب أو يعتقده، لأن الجحود في حد ذاته كفر ينقل عن الملة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " ومن جحد وجوب بعض الواجبات الظاهرة المتواترة: كالفواحش والظلم، والخمر والميسر، والزنا وغير ذلك، أو جحد حل بعض المباحات الظاهرة المتواترة: كالخبز واللحم والنكاح. فهو كافر مرتد، يستتاب فإن تاب وإلا قتل " .
وهذا النوع من الكفر موجود في الليبرالية، لأن من مفاهيم الليبرالية المتعلقة بالحرية " منع التحريم "، أو " منع المنع "، فلا يمكن أن يجتمع الفكر الليبرالي مع التحريم الإلهي المقيد لحرية الفرد، كما يقول جون مل: " إن التحريم يمس حرية الفرد لأنه يفترض الفرد لا يعرف مصلحة نفسه " ومن بديهيات الليبرالية " إباحة الزنا "، وهي إباحة عقائدية، وليست مجرد ممارسات عملية، ولا يمكن أن يكون الرجل ليبراليا وهو يعتقد تحريم الربا، والبيوع المنهي عنها لأن هذا يتعارض مع حرية التجارة والاقتصاد، كما أنه لا يمكن أن يكون ليبراليا وهو يعتقد تحريم الزنا والتبرج والشذوذ الجنسي لأن هذا يناقض الحرية الشخصية.
والليبرالية مذهب فكري يحدد للفرد الممنوع واللازم قبل أن يكون ممارسة عملية، فهو اعتقاد وتصور واع لسائر أنماط الحياة البشرية.
كفر الشك:
الشك هو عدم اليقين، والتردد بين شيئين، وعدم القطع بالصحة أو البطلان، أو الخطأ أو الصواب، ونحو ذلك، وعدم وجود القطع واليقين هو من الريب والشك.
ومن أساسيات الإسلام وجود اليقين في التوحيد والإيمان، فالتوحيد والإيمان لا يغني فيه إلا اليقين الجازم، ولهذا عده العلماء شرطا أساسيا من شروط لا إله إلا الله.
يقول تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [ الحجرات: 15]، فاشترط في صحة إيمانهم عدم الريبة، وهي الشك والظن ، ولهذا جاء الشك والريب وصفا للمنافقين فقال تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [ التوبة: 45]، ولقد جاء في الحديث : ((أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة)) . وجاء في حديث أبي هريرة مرفوعا: ((من لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة)) .
" فاشترط في دخول قائلها الجنة أن يكون مستيقنا بها قلبه غير شاك فيها، وإذا انتفى الشرط انتفى المشروط" .
.......والفكر الليبرالي لا يعتقد عقائد جازمة غير حق الفرد في الحرية الفردية مهما توصل له من أفكار وعقائد وآراء، فهو لا يملك عقيدة يقينية محددة، لأن كل عقيدة قابلة للتغيير، ومن حق الآخر أن يعتقد خلافها، وهذا الفكر لا يملك جوابا محددا على أوضح الأمور مثل وجود الله تعالى وربوبيته، لأن المنهج السيال الذي يعتمد عليه يجعل كل أمر قابل للصواب أو الخطأ، وربما أوصلت المنهجية الليبرالية إلى عقائد متناقضة.
وبهذا يتبين أن الليبرالية تصحح العقائد المتناقضة، والأفكار المتعارضة، ولا تجزم بحقيقة عقدية، وتبني قاعدة " قولي صواب يحتمل الخطأ، وقولك خطأ يحتمل الصواب "، وتجعل ذلك قاعدة عامة في أصول العقائد وسائر الأديان.
فالمنتسب للإسلام منهم يعتقد أن إسلامه صحيح يحتمل الخطأ، وعقيدة الآخر (الكافر) خطأ يحتمل الصواب، ويرفضون الجزم العقائدي في جانب الصحة أو البطلان . وهذا هو الشك بعينه.
كفر الإباء والامتناع:
حقيقة الإباء والامتناع هي عدم الانقياد والاستسلام لأمر الله تعالى وشرعه، ومن المعلوم أن الإيمان يتضمن أخبار تقتضي التصديق، وأوامر تقتضي الانقياد والتسليم، ومناقضة التصديق يكون بالتكذيب، ومناقضة الانقياد والتسليم يكون بالإباء والامتناع .
وقد ينضاف إلى الإباء والامتناع " الاستكبار " مثل كفر إبليس وفرعون واليهود ، وقد يكون الإباء والامتناع دون " استكبار" .
وقد قرر أهل العلم أن الطائفة الممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة يجب قتالها، وأجمعوا على ذلك، كما فعل الصحابة مع الممتنعين عن أداء الزكاة، وقد رجح شيخ الإسلام ابن تيمية أن الطائفة الممتنعة إذا قاتلهم الإمام على ذلك فقاتلوه فهم كفار وليسوا بغاة .
......ولا ريب أن الفكر الليبرالي يؤسس للامتناع عن شرائع الإسلام في مجال السياسة والاقتصاد، ولهذا تكونت الدول الليبرالية بعيدة كل البعد عن شرائع الإسلام في نظمها السياسية والاقتصادية.
ومن ذلك امتناع الدول الليبرالية من تطبيق الحدود والعقوبات الشرعية، وكذلك الامتناع عن تحريم الربا في البنوك والمؤسسات المالية، وهكذا.