تاريخ تسلل التشريع الأجنبي إلى مصر
من المطالب الثابتة للشعب المصري عمومًا مطلب تطبيق الشريعة الإسلامية الغراء، والمتتبع لحركة الصراع السياسي في مصر يجد أن هذا المطلب كان دائمًا على رأس أولويات الحركة الإسلامية وذو قبول شعبي...
من المطالب الثابتة للشعب المصري عمومًا مطلب تطبيق الشريعة
الإسلامية الغراء، والمتتبع لحركة الصراع السياسي في مصر يجد أن هذا
المطلب كان دائمًا على رأس أولويات الحركة الإسلامية العلنية والسرية
كما أن هذا المطلب حظي من القبول الشعبي بما جعله مادة رئيسية في
برامج كل الأحزاب والقوى السياسية، سواء في أوساط المعارضة أم في
أوساط الحكومة على السواء.
ومنذ أن دخل التشريع الأجنبي مصر منذ عهد محمد علي ومن بعده وخاصة
الخديوي إسماعيل والخديوي توفيق نجد أن الحركة الشعبية الجماهيرية
اعتمدت مطلب تطبيق الشريعة كمطلب ثابت.
فالحركة الشعبية التي قادها الشيخ الشرقاوي "أحد علماء الأزهر" ضد
ظلم المماليك سنة 1795 التي انتهت بخضوع المماليك للمطالب الشعبية
وكتابة وثيقة بين المماليك والرعية بقيادة العلماء تبين الحقوق
والواجبات بين الحاكم والرعية -قد أكدت ذلك المطلب، ففي الجبرتي "أن
الدفتردار حضر إلى العلماء -الذين اعتصموا بالأزهر احتجاجًا على
الظلم- ووقف بين أيديهم وسألهم عن مرادهم فقالوا له: "نريد العدل ورفع
الظلم والجور وإقامة الشرع وإبطال الحوادث والمكوسات التي
ابتدعتموها"، وعندما جاء نابليون إلى مصر غازيًا سنة 1798 حاول أن
يخدع الجماهير فادعى في منشوره الذي وزرعه بمجرد وصوله "أنه يطيع الله
ويحترم نبيه والقرآن العظيم". مما يدل على مدى تغلغل التمسك بالشريعة
الإسلامية لدى جماهير الشعب المصري وقتذاك.
وفي سنة 1806 حاول السلطان العثماني عزل محمد علي إلا أن العلماء
أرسلوا إلى قائد الأسطول العثماني رسالة جاء فيها: "والشريعة مقامة في
أيامه".. يقصدون أيام محمد علي أي إن إقامة الشريعة في أيامه تبرر
التمسك به وعدم عزله.
وحتى ذلك التاريخ كان الصراع يدور حول جدية تطبيق الشريعة والتمسك
بها من الناحية الفعلية؛ لأن الواقع القانوني والاجتماعي كان واقع
سيادة الشريعة من الناحيتين التشريعية والقانونية أي إن الخروج على
الشريعة لم يكن سياسة قانونية معتمدة، ولكن كان مجرد خروج على النصوص
القانونية المتبعة، أو إهمال التطبيق من الناحية العملية، أما من
الناحية النظرية والدستورية فإنه لم يكن هناك تشريع آخر قد حل محل
الشريعة الإسلامية.
وحينما بدأت عملية تسلل التشريع الأجنبي إلى مصر في عهد محمد علي
وأولاده من بعده، فإن الصراع السياسي كان حول ضرورة إلغاء القوانين
الأجنبية والعودة إلى جعل الشريعة الإسلامية الغراء هي المرجع في
القضايا والقانون، وكانت الشريعة الإسلامية من المطالب الثابتة لزعناء
الأمة.
وتعرض القانون الأجنبي لعملية نقد وسخرية مريرة على يد الثائر العظيم
عبد الله النديم سواء في مقالاته اللاذعة أم في خطبة النارية. كما
كانت مسألة التخلص من القوانين الأجنبية والمحاكم المختلطة من ضمن
برنامج ومطالب الثورة العرابية.
وعندما تسلم مصطفى كامل راية الكفاح الوطني ظلت مسألة التخلص من
القوانين الأجنبية والعودة إلى الشريعة الإسلامية أحد المطالب
الأساسية للحركة الشعبية المصرية ضمن مطالبها الكثيرة الخاصة بالجامعة
الإسلامية والتخلص من الاحتلال الإنجليزي ودعم قيم البلاد وعاداتها
الوطنية لمواجهة الاحتلال وعلى نفس الدرب سار كل من محمد فريد وعبد
العزيز جاويش، اللذين خلفا مصطفى كامل في قيادة الحزب الوطني والحركة
الشعبية عمومًا.
وبظهور جماعة الإخوان المسلمين على يد الإمام حسن البنا سنة 1929 قفز
الاهتمام بتطبيق الشريعة الإسلامية قفزة واسعة إلى الأمام، وأصبح هذا
المطلب من المطالب الرئيسية لجماعة الإخوان ولزعمائها ومفكريها
وصحافتها، وإذا كان مطلب الشريعة في برنامج النديم، ثم مصطفى كامل
ومحمد فريد وعبد العزيز جاويش كان جزءًا من الدعوة إلى تقوية الخلافة
القائمة "الخلافة العثمانية" والصراع مع الاستعمار الإنجليزي والتمسك
بشعار "الجامعة الإسلامية"..
فإن سقوط الخلافة العثمانية عمليًا ونظريًا قبل ظهور جماعة الإخوان
جعل الإخوان المسلمين يفكرون في إقامة جمهورية إسلامية في مصر، أو صبغ
مصر بالصبغة الإسلامية أولاً, ثم توحيد العالم الإسلامي تحت قيادة
واحدة فيما بعد.. أي إن ترتيب الأولويات قد اختلف عما كان عليه
بالنسبة لمصطفى كامل، فقد كانت الخلافة العثمانية قائمة وبالتالي
اتجهت الدعوة إلى تقوية الخلافة والنهوض بالمسلمين والتخلص من
الاستعمار، وكانت الشريعة تدخل ضمن عوالم الصراع من أجل وتوحيد التخلص
من الاستعمار، وبالتالي تكون مصر جزءًا من هذا العالم الإسلامي
الموحد. وبتغيير ترتيب الأولويات بسبب سقوط الخلافة وصعوبة قيامها من
جديد في ظروف قريبة كان على الإخوان أن يعملوا على إقامة نظام إسلامي
في مصر أولاً وأن يتجهوا في حركتهم اليومية، أو في برامجهم السياسية،
أو خطبهم، أو دراسات كبار المفكرين المنتمين إليهم مثل عبد القادر
عودة وسيد قطب، بل ظهرت العديد من القضايا المرتبطة بمسألة تطبيق
الشريعة الإسلامية مثل قضايا تكفير الحاكم الذي لا يحكم بما أنزل الله
"أي الذي لا يطبق الشريعة"، أو تكفير المجتمع الذي لا تسوده الشريعة
الإسلامية وغيرها من القضايا الفكرية والحركية المرتبطة بهذا الأمر،
وبعد سلسلة الصدامات المتوالية مع نظام حكم عبد الناصر وعملية القمع
البشع الذي تعرضت له الحركة الإسلامية في مصر في الخمسينيات
والستينيات ظهرت مجموعة من الأفكار التي سببت حوارًا وخلافًا سواء في
صفوف الإخوان أو في صفوف الجماعات المنشقة، وكلها مرتبطة بقضية تطبيق
الشريعة الإسلامية والحكم على الشخصيات والحكام والمجتمعات التي لا
تطبق ذلك، وظهرت مصطلحات تكفير الحاكم، أو تكفير المجتمع، أو عدم
تكفير هذا وذاك، بحيث غطى الحوار مساحات واسعة من اهتمام الحركة
الإسلامية. وأثر هذا الأمر أيما تأثير على أسلوب الحركة وعلى مجمل
اهتماماتها وعلى صلاتها بعموم المسلمين أيضًا.
فهناك من يعتقد بجاهلية المجتمع وبالتالي يجب هجرته، أو جهاده ومن
يرى أنه من العبث مطالبة الحكام الكفار بتطبيق الشريعة الإسلامية، ومن
يرى بعكس ذلك ومن يرتب على ذلك أو عكسه اتباع أسلوب معين في الحركة،
ومن قال بالأحكام المكية ومن قال بغير ذلك إلى ما لا نهاية. وعلى كل
حال فليس من موضوع بحثنا دراسة تلك الأمور، أو تغليب رأي على رأي،
فعلينا أن نتابع حركة المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية في
مصر.
في نهاية الستينيات ظهرت الجماعات الإسلامية إلى العمل العلني مرة
أخرى بعد أن توارت تحت الأرض في العمل السري، أو خلف القضبان لفترة.
وكان مطلب تطبيق الشريعة الإسلامية هو المطلب الأساسي والرئيسي، وربما
الوحيد في بعض اللحظات، فظهرت الملصقات ومجلات الحائط في الجامعات
وكلها تطالب بالشريعة الإسلامية باعتبارها الأسلوب الوحيد لحل مشاكل
مصر ولإرضاء الله تعالى أولاً، اعتبرت تلك المجلات والملصقات التي
أصدرها طلاب الجامعات خصوصًا أن كل مشاكل مصر من هزائم عسكرية وتخلف
سياسي واقتصادي واجتماعي، فضلاً عن الظلم الاجتماعي والفساد إنما هي
بالتحديد نتيجة مباشرة لعدم تطبيق الشريعة الإسلامية، وسارت على نفس
النهج تقريبًا الصحافة الإسلامية التي ظهرت فيما بعد وفي المقالات
التي كانت تنشرها الصحف الحكومية لبعض المتمسكين بالإسلام من الصحفيين
والكتاب، بل وبدأت المطالب الأخرى التي تنادي بها الحركة الإسلامية في
مصر تتفرع وتنمو من خلال شعار تطبيق الشريعة الإسلامية، فظهرت
المقالات والكتب والخطب التي توضح أن الشريعة الإسلامية ليست مجرد
حدود، أو قوانين، أو محاكم ولكنها منهج حياة يتضمن مبادئ سياسية وأخرى
اجتماعية واقتصادية فضلاً عن القانونية.
وعلى مستوى البرلمان المصري ظهرت المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية
في برلمان 1971 - 1976 على يد النائب الشجاع محمود نافع الذي دخل
البرلمان عضوًا عن دائرة ميت غمر - دقهلية وبدأ حديثه عن الشريعة
الإسلامية في رده على بيان الحكومة في 1971، ثم صار لا يمل من تكرار
هذا المطلب، وقدم العديد من المشروعات الخاصة بتحريم الخمور صناعة
وتجارة واستهلاكًا وإلزام المرأة العاملة بالزي المحتشم وصرف معاش
للمعوقين ولكبار السن كما تنص الشريعة الإسلامية وغيرها من القوانين ،
واعتبر في كل كلامه تحت القبة أن مشاكل مصر تحل بالشريعة وليس بشيء
آخر سواها، وفي الحقيقة فإن محمود نافع كان يعبر عن رأي عام متسع يردد
ذلك الأمر في كل مكان وفي كل موقع في ذلك الوقت لدرجة أن لجان
الاستماع، التي شكلها الرئيس السادات سنة 1971 لمعرفة اتجاهات الرأي
العام المصري بشأن صياغة الدستور - قد استمعت في كل مكان ذهبت إليه
إلى كل فئات الشعب المصري تطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية، وبالفعل
قامت لجنة صياغة دستور 1971 بتضمينه نصًا يقول: "إن الشريعة الإسلامية
هي المصدر الوحيد للقوانين"، إلا أن النص تغير فيما بعد وقبل إقرار
الدستور إلى نص آخر يقول: "إن الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع،
الأمر الذي فهم منه أنها ليست الوحيدة مصدرًا للتشريع وإن كانت مصدرًا
رئيسيًا.
وقد شهد البرلمان المصري فيما بعد ما يسمى بمعركة الألف واللام، حيث
طالب محمود نافع وآخرون معه مثل الأستاذ عبد الفتاح أبو علي والدكتور
محمد معتوق والشيخ رمضان عرفه وغيرهم بتغيير تلك المادة -الثانية من
الدستور- لتكون "الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع" أي
بزيادة ألف ولام على المادة الأصلية، وتمخضت تلك المطالبات التي حظيت
باهتمام شعبي واسع عن استجابة الحكومة إلى ذلك فتم تغيير المادة
الثانية من الدستور بالفعل وأضيفت إليها الألف واللام في سنة 1979،
وعقب هذا التغيير شهدت المحاكم المصرية عددًا من المواقف المهمة التي
تجاوز فيها القضاة نص القانون وحكموا بموجب أحكام الشريعة الإسلامية
مباشرة استنادًا إلى النص الدستوري، واشتهر من بين هؤلاء المستشار
محمود غراب، والمستشار محيي الدين عبد الغفور.. كما شهدت المحاكم
العديد من الطعون أمام محكمة النقض لنقض الأحكام بدعوى عدم مطابقتها
للشريعة الإسلامية، وشهدت الحياة القضائية حوارًا متصلاً حول جواز، أو
عدم جواز التمسك بالقوانين المخالفة للشريعة في المحاكم. وهنا ظهرت
الحاجة، أو الدعوة إلى تقنين أحكام الشريعة الإسلامية في بنود واضحة،
وتقدم الأزهر بعدد من مشروعات القوانين المقننة إلى مجلس الشعب المصري
إلا أن مصيرها كان الضياع في الأدراج، وما زال التعارض بين الدستور
والقوانين القائمة موجودًا حتى الآن، ومن ناحيتها قامت إدارات الأزهر
بإلغاء كافة تعاقداتها الربوية والتزمت بالشريعة الإسلامية في
تعاملاتها استنادًا إلى نص الدستور مما أوجد العديد من المشاكل
القانونية بينها وبين الأطراف الأخرى.
وعقب موت السادات في 1981 -وظهور حزب الوفد الجديد وانتعاش الصحافة
الحزبية والحريات المدنية عمومًا- تضمنت كل برامج الأحزاب النص على
تطبيق الشريعة الإسلامية، واختلفت في تفسيرها كل حسب هواه.. فعلى حين
يرى حزب التجمع اليساري الاقتصار على دعم القيم الروحية والخلقية يرى
حزب الوفد والحزب الوطني الحاكم ضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية ولكن
بالتدريج، مما جعلهما عرضة للقول بأن التدرج هنا المقصود به تسكين
الموضوع الذي أصبح يعتمد على قاعدة شعبية واسعة جدًا ولا يمكن
تجاهلها، أما أحزاب الأحرار والعمل والأمة فبرامجها تنص صراحة على
ضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية فورًا، وبرز في هذا الصدد حزب العمل
الذي مارس نضالاً برلمانيًا وصحفيًا وحزبيًا من أجل تطبيق الشريعة
الإسلامية، بل لقد شهدت جريدة الشعب -لسان حزب العمل- الدعوات الصريحة
لتطبيق الشريعة وصبغ مصر بالصبغة الإسلامية عمومًا وخاصة في عهد رئيس
تحريرها الأستاذ عادل حسين، وقد تدعم هذا الأمر بعد عقد التحالف بين
حزب العمل والإخوان المسلمين.
إذن فقد كان مطلب العودة إلى الشريعة الإسلامية مطلبًا شعبيًا
ووطنيًا في كل الأوقات، وبدهي أن سيادة تشريع أجنبي في مصر أمر ضار
على كل مستوى.. فهو أمر مخالف لأوامر الله سبحانه وتعالى أولاً, ثم هو
أمر يجعل هناك انفصامًا في الشخصية المصرية بما له من عواقب وخيمة على
كل مستوى ثانيًا، وهو أيضًا أمر يجعل استقلالنا منقوصًا ومشكوكًا فيه
من ناحية ثالثة، بل إن البعض يرى أن فشل مشروعات الاستقلال الوطني في
مصر كان يرجع لعدم إدراكها بعد التأكيد على التميز في الهوية
والانتماء وإلغاء القوانين المستوردة.
ومما لا خلاف عليه بين كافة فقهاء الدساتير وعلماء التشريع وعلماء
الاجتماع من كل اتجاه أن القانون لا يحقق الأهداف المرجوة منه ما لم
يستند إلى عقيدة الأمة ووجدانها وعاداتها وتقاليدها، والاستعمار لم
يكن يلهو حين كان يعمل كل ما في وسعه في سبيل إقصاء الشريعة الإسلامية
وإدخال التشريع الأجنبي إلى بلادنا، ولعل أهمية الشريعة الإسلامية في
تأكيد هوية الأمة وتميزها، مما يحقق لها قدرة أكبر على مواجهة
الاستعمار قد جعل ذلك الاستعمار يحاول أن يروج عددًا من الافتراءات
حول هذه القضية، وللأسف فإن عددًا من المفكرين والسياسيين والصحفيين
راح يردد بوعي، أو بدون وعي تلك الافتراءات.
يقول الاستعمار وتلامذته "إن التشريع الأجنبي قد حل محل التشريع
الإسلامي بسبب جمود التشريع الإسلامي وعدم مسايرته للتطور، وأن
الاستعمار لم يكن له يد في إقصائه، ولكن التطور الطبيعي كان هو
المسئول عن ذلك".
وتلك فرية ذات نتائج خطيرة بدءًا من فشل مشروعات الاستقلال التي لم
تدرك أهمية التميز في الهوية والانتماء ولم تغير التشريع الأوروبي إلى
تشريع إسلامي وانتهاء بغربة سياسية واجتماعية وقع فيها المثقفون إلا
من رحم ربك.
وإذا كان التشريع الأجنبي قد بدأ يتسلل إلى مصر عام 1840، وتأكد عامي
1875 و1883، فإن التحقيق التاريخي يثبت أن هذا السبب غير سليم؛ لأن
المجلة العثمانية التي كانت تنشر القوانين الإسلامية مقننة كانت قائمة
قبل هذا الوقت، ولأن محمد قدري باشا في مصر كان يقوم فعلاً بتقنين
الأحكام وقتها، كما أن الوثائق التاريخية تكشف عن أن السبب الذي دعا
حكام مصر إلى الأخذ بالتشريع الأوروبي هو رغبتهم في أن يقدموا لدول
الامتيازات نظامًا قانونيًا ينشأ على شاكلة النظام القانوني في
بلادهم، أو هو أمر مبيت بليل في أروقة التخطيط الاستعماري.
"إن لفقه الشريعة الإسلامية مرونة وتقبل للمعاصرة وقابلية للتقنين
تظهر بوضوح في مجلة الأحكام العدلية، وهي مجلة تقنين شكلت لها لجنة
برئاسة أحمد جودت باشا بدأت في 1869 وانتهت في 1876، وأخذت أحكامها من
كتب ظاهر الرواية في المذهب الحنفي إلا القليل أخذت فيه بأقوال
المتأخرين من الحنفية مراعاة للأنسب والأنفع في تقرير الأحكام". وإن
هذه المجلة كانت عملاً تقنينيًا أي تجميعيا للأحكام وتصنيفها وترتيبها
بتبويب منطقي وعلمي على هيئة حوارات متتابعة".
ولقد كانت أكمل تقنين أُخذ عن الفقه الإسلامي في ذلك الوقت، كما أنه
قد سبقها في هذا الإطار الجهد التجميعي الذي قام به شيخ الإسلام أبو
السعود بن محمد بن مصطفى العماد" وكذلك الخلاصة التي صنفها من جزأين
الشيخ إبراهيم الحلي باسم "ملتقى البحر", ثم جاء في القرن السابع عشر
الجهد التجميعي الفذ الذي أعده فقهاء الهند في ستة مجلدات ضخمة بتكليف
من السلطان محمد أورنك زيب عالمكير واشتهرت باسم "الفتاوى الهندية
الشاملة للعبادات والمعاملات والعقوبات على مذهب أبي حنيفة", ثم هناك
"القوانين نامه" التي كان يصدرها سلاطين العثمانيين مشتملة على
تنظيمات إدارية وجزائية.
وإذا كان التوثيق التاريخي يثبت تهافت القائلين بأن التشريع الأجنبي
قد حل محل التشريع الإسلامي بسبب جمود التشريع الإسلامي وعدم مسايرته
للتطور، فإن المزيد من الدراسة يثبت أن ذلك كان أمرًا مقصودًا ومبيتًا
ومخططًا له من دوائر الاستعمار، ففي سنة 1908 طبع حزب الإصلاح
الدستوري كتابًا مترجمًا بعنوان: "رسائل مصري لسياسي إنجليزي كبير في
1905.. تضمن الكتاب أربع عشرة رسالة: كتبها المصري بالإنجليزية وعثر
عليها في أوراق العضو الليبرالي في البرلمان الإنجليزي "سير
روبرتسون"، وورد بالرسالة الخامسة "أن النظام التشريعي القضائي الجديد
نشأ في مصر فجأة في يوم واحد وبالقوة القاهرة وعلى يد أمة أجنبية
وجعلوا نظامه على نمط أنظمة بلاد بعيدة فرموا به شعبنا دون أن ينبهونا
إليه ولا راعوا عواطفنا وإرادتنا وأخلاقنا الوطنية وتقاليدنا
القومية.. إنكم غذيتم المصريين بطعام لم يألفوه ولا يستطيعون هضمه..
إن بناء القضاء يجب أن تكون جدرانه من المادة الوطنية.. بمعنى أن يكيف
ذلك النظام القضائي على ما يوافق فطرة العقل الوطني الأصلية، أن يعتمد
على الوسائل الوطنية.. ولا تكون للقضاء فائدة إلا إذا كان موافقًا
لميول الشعب وعاداته وشعائره الدينية وتقاليده، والحق يقال فإن هذه
البلاد المصرية ما زالت منذ زمن بعيد ترزأ بالقوانين الأوروبية غير
الموافقة ودون مراعاة لعادات الوطنيين وتقاليدهم, ثم ختم رسالته
بقوله: "أقول الحق الذي لا نزاع فيه: إن تشعب غرس أجنبي سيئ التأثير
والمناسبة والحجم، قد أفسد وشوه تقاليد هذه البلاد، وقد شكلت أغصانه
الممتدة الضخمة ظلاً مظلمًا على الشعب".
وإذا كان القضاء في الإسلام له أهمية كبيرة لدرجة أن الرسول الأعظم r
قد مارسه بنفسه، وإذا كانت الحضارة الإسلامية قد أفرزت مدرسة قضائية
عادلة ومتميزة، سواء إبان صعود الحضارة الإسلامية أو حتى في أوقات
ضعفها واستشراء عوامل التفكك في داخلها، وإذا لم يكن غريبًا أن تحفل
كتب التاريخ بآلاف الأمثلة التي تدل على نزاهة القضاء الإسلامي ومدى
مرونة الشريعة وصلاحيتها لكل زمان ومكان، بل بالمواقف الشجاعة
والمتميزة للقضاة في مواجهة ظلم الحكام، أو غيرهم وصدوعهم بالحق مهما
كانت النتائج. فإننا سوف تقدم مثلاً قضائيًا فذا حدث قبيل دخول
التشريع الأجنبي إلى مصر ليكون هذا المثل دليلاً واضحًا على أن
الشريعة كانت ولا تزال حتى اللحظة الأخيرة في أوج قوتها وصلاحيتها بما
يقطع حجج المرجفين والمنافقين.
"ففي يوم 12 مايو سنة 1805 اجتمع زعماء الشعب في دار المحكمة وطلبوا
من القاضي أن يرسل في استدعاء وكلاء الوالي ليحضروا مجلس الشرع فأرسل
يستدعيهم على عجل فحضروا، وعندما انعقد المجلس عرض الزعماء ظلامة
الشعب وحرروا مطالبهم وهي ألا تفرض من اليوم ضريبة على المدينة إلا
إذا أقرها العلماء وكبار الأعيان، وأن تجلو الجنود عن القاهرة وألا
يسمح بدخول أي جندي إلى القاهرة حاملاً سلاحه، وأن تعاد المواصلات في
الحال بين القاهرة والوجه القبلي".
وقد أقرت المحكمة هذه الطلبات وأبلغت بها الوالي خورشيد باشا إلا أن
الأخير لم يذعن لحكم المحكمة فانعقدت المحكمة في اليوم التالي وأصدرت
حكمًا بعزل الوالي، بل وأصدرت المحكمة سندًا شرعيًا بذلك جاء فيه: "إن
للشعوب -طبقًا لما جرى به العرف قديمًا ولما تقضي به أحكام الشريعة
الإسلامية- الحق في أن يقيموا الولاة ولهم أن يعزلوهم إذا انحرفوا عن
سنن العدل وساروا بالظلم؛ لأن الحكام الظالمين خارجون عن
الشريعة.
بدأت تسلل التشريع الأجنبي إلى مصر في عام 1840، وهو العام الذي
أبرمت فيه معادة لندن بين محمد علي وبين الباب العالي, أو قل العام
الذي فرضت فيه أوروبا رأيها على كل من محمد علي والسلطنة العثمانية
معًا بعد أن دمر محمد علي قوة السلطنة العثمانية وجيوشها تمامًا وأصبح
قريبًا جدًا من الآستانة، وهنا تدخلت الدول الأوروبية مجتمعة وفرضت
صلحًا بين الطرفين يحقق لها تقليص نفوذ محمد علي والهيمنة على الخلافة
بعد أن حقق لها تدمير القوة العسكرية للخلافة، فقررت أوروبا أن تبقي
على الخلافة محتضرة ولا تسمح بظهور خلافة جديدة تحت حكم محمد علي تجدد
شباب العالم الإسلامي، إذن ففي 1840 كانت الخلافة المنهكة بفعل حروبها
مع محمد علي قد وقعت عمليًا تحت النفوذ الأوروبي، واستطاعت أوروبا أن
تفرض نفوذها على الخلافة ومحمد علي معًا. فتدخلت أوروبا في الوقت
المناسب -بعد إنهاك قوى الطرفين- وأجبرت بجيوشها وأساطيلها محمد علي
على توقيع اتفاقية لندن 1840، وبخضوع محمد علي لذلك كان عليه أن يفتح
الأسواق المصرية على مصراعيها أمام التجارة الأوروبية تنفيذًا
للمعاهدات المبرمة من قبل، وأصبحت مصر مأوى للمغامرين والمرابين
وغيرهم تحت ظلال نظام الامتيازات الأجنبية. وعلى كل حال، فقد أنشأ
محمد علي في سنة 1840 ما يسمى بمجالس التجار "مجالس أحكام التجارة"،
وهي عبارة عن محاكم تجارية للفصل في المنازعات التجارية بين الأهلين،
أو بينهم وبين الإفرنج، وتتألف هذه المحكمة من رئيس وباش كاتب وكاتب
وثمانية من التجار: خمسة منهم من الوطنيين وثلاثة من الأجانب، وكان
بكل من القاهرة والإسكندرية محكمة من هذا النوع. وبتمثيل التجار
الأجانب في هيئة المحكمة، فإن الباب قد فتح عمليًا أمام التشريع
الأجنبي ليتسلل إلى مصر، واستمرت تلك المحاكم تعمل حتى عهد إسماعيل،
وأضيفت إليها محكمة استئناف تسمى "مجلس الاستئناف"، كما زاد عدد
الأجانب فيها فأصبح مساويًا لعدد الوطنيين وقد ألغيت هذه المحاكم لتحل
محلها المحاكم المختلطة سنة 1876.
وبالإضافة إلى تلك المحاكم، أو مجالس التجار فإن الامتيازات الأجنبية
التي تمتع بها رعايا الدول الأجنبية عمومًا والأوربية خصوصًا كانت هي
الأخرى بابًا واسعًا لتسلل التشريع الأجنبي إلى بلادنا، وقصة
الامتيازات الأجنبية تتلخص في أن الدولة العثمانية -في سبيل تحصين
بلاد المسلمين ضد النفوذ الأجنبي- كانت قد منعت الأجانب من حق تملك
العقارات في بلاد السلطة العثمانية, ثم عادت تحت الضغط الأوروبي
فأعطتهم هذا الحق عندما ضعفت وخضعت للابتزاز الأوروبي سنة 1867، وفي
مقابل هذا الحق قبلت الدول الأوروبية خضوع رعاياها للوائح والقوانين
المالية والعقارية التي تضعها السلطنة العثمانية من غير حاجة إلى
موافقة الدول الأوروبية، بل خضوع هؤلاء الأجانب للمحاكم التركية في
المنازعات العقارية سواء كانوا مدعين، أو مدعى عليهم، كما اشترطت
تركيا اختصاص المحاكم العثمانية بنظر قضايا الأجانب -مدنية، أو
جنائية، أو تجارية- إذا كان في الخصومة صالح أهلي، وتفصل في هذه
المنازعات طبقًا للقوانين الأهلية دون حاجة إلى حضور القنصل، أو
مندوبه أثناء المحاكمة.. وكذلك نص هذا القانون على أن تسري أحكام
القوانين العثمانية الخاصة بالعقوبات على الرعايا الأجانب كما تسري
على الأهلين سواء بسواء، وكذلك تسري عليهم القوانين الجنائية ويحاكمون
أمام المحاكم العثمانية، أما إذا كانت هناك منازعات غير عقارية
وطرفاها أجانب وليس فيها صالح أهلي فيمكن للطرفين اللجوء إلى قناصل
بلادهم للحكم فيها بينهم.
وإذا كانت تركيا قدمت ذلك منحة وفي حدود ضيقة كما يظهر من نص القانون
فإن الدول الأوروبية راحت تطور تلك المنحة وتستغلها أبشع استغلال، بل
بصورة مخالفة للقانون الصادر في 1867 واستغلت تغلغل نفوذها في مصر في
عهدي سعيد وإسماعيل وجعلت من الامتيازات الأجنبية اعتداءً صارخًا على
السيادة المصرية، وصار للامتيازات الأجنبية في مصر مظاهر ومميزات
مختلفة تمامًا عما خوله لها القانون الصادر في 1867، وإذا كان النفوذ
الأجنبي ظل ضعيفًا في مصر وكذلك التواجد الأجنبي في عهد محمد علي
وإبراهيم وعباس الأول فإن فتح قناة السويس ومد السكك الحديدية وظهور
العديد من الشركات والبنوك الأجنبية التي تعمل في مصر جعل تلك
الامتيازات بلا حدود وجعلها اعتداء صريحًا على السيادة المصرية، وقد
طغى الأجانب الذين بلغ عددهم في عهد إسماعيل 100 ألف نسمة أمام ضعف
الحكومة، فقد كان سعيد باشا كثير السخاء معهم ولم يكن يرفض أي منحة
يطلبونها وكان ينساق من غير تبصر إلى أي مشروع يعرضونه عليه، فإذا لم
ينالوا من تلك المشاريع ما يبغونه من ربح عوضهم سعيد باشا ما فاتهم من
الأرباح، وكان القناصل يتدخلون لتأييد مطالب هؤلاء الأجانب ويكرهون
سعيد باشا على إجابتها، وكانوا يتحرجون في عهد عباس الأول من هذا
التدخل لما كان لديه من الوسائل لوقفهم عند حدهم، وقيل إنه كان لديه
نمر يألفه ويضعه بالقرب منه محجوبًا عن الأنظار فإذا اشتد الجدل بينه
وبين أحد القناصل استدعى النمر في رفق وهدوء إلى حيث يراه القنصل
فكانت لهذه الوسيلة "الدبلوماسية" أثرها في حسم النزاع.
إذن فقد ظلت الامتيازات في مصر تتبع أوضاعها الأصلية على عهود محمد
علي وإبراهيم وعباس، كما كانت بالإسكندرية والقاهرة محكمتان تسمى كل
منهما المحكمة التجارية، أو مجلس التجار تفصل في المنازعات التجارية
بين الأوروبيين والمصريين، وقضاتها من الوطنيين والأجانب، والغالبية
فيها للوطنيين كما سبق أن وضحنا، ولكن مع ضعف سلطة الحكومة في عهد
سعيد وازدياد النفوذ الأجنبي بفعل الديون في عهد إسماعيل طغت سلطة
الأجانب ونالوا عددًا من المزايا بالعرف والعادة كما يلي: -
· انتزع القناصل سلطة الحكم فيما يقترف رعاياهم من الجرائم التي تقع
على الرعايا الوطنيين.
· التزم الأهالي عندما يقاضون الأجانب بأن يرفعوا دعاواهم أمام
المحاكم القنصلية، وأن يكون التنفيذ في حضور القنصل، وبدهي أن القناصل
كانوا يمتنعون عن الحضور إذا كان الحكم في غير صالح الأجانب، فيضطر
الأهالي للتوسل إلى القناصل لحضور التنفيذ وهنا يقوم القناصل بمساومة
الأهالي والوصول معهم إلى اتفاقات مجحفة لصالح الأجانب، فيضطر الأهالي
لقبولها بدلاً من تعديل التنفيذ إلى ما شاء الله.
· كما اغتصب القناصل سلطة الفصل حتى في القضايا التي يرفعها الأجانب
على الأهالي، أو على الحكومة المصرية ذاتها.
وعلى سبيل المثال فقد حكمت المحاكم القنصلية بتعويضات وصلت إلى 2.8
مليون جنيه في مدى أربع سنوات (1864 - 1868).
وقد عبر فان بلمن عن هذه الحالة بقوله: "إن الأوروبيين يعبرون عن
الاختصاص المختلط للقنصليات بأنه نشأ عن العرف، وفي الحقيقة فإنه وليد
الاغتصاب الواقع من الأقوياء على الضعفاء".
وبدهي أن ذلك حقق قدرًا هائلاً من الاضطراب والظلم للوطنيين، فكل
قضاء قنصلي يحكم طبقًا لقانون بلاده، فلم يكن التعامل بين الناس
قائمًا على قواعد معلومة وضوابط مرسومة، بل صارت المعاملات عرضة
لأهواء المحاكم القنصلية وقوانينها، وإذا علمت أن القنصليات العامة
للدول المتمتعة بتلك الامتيازات كانت 17 قنصلية.. أي إنه كانت بمصر 17
محكمة قنصلية تحكم كل منها بقوانين بلادها، وأنه لكي تستأنف حكمًا
منها كان عليك أن تقدم هذا الاستئناف أمام محكمة إكس بفرنسا، أو
أنكونا بإيطاليا، أو أثينا باليونان، أو لندن في إنجلترا، أو محكمة
تريستا بالنمسا، أو محكمة نيويورك بأمريكا على حسب جنسية طرف الخصومة
الأجنبي، وبدهي أن الأجانب كانوا يستأنفون أمام تلك المحاكم مما يؤدي
إلى تنازل الطرف الوطني عن الخصومة بدلاً من الدخول في تلك المتاهات
التي لا يعرف لها آخر.
فكر الخديوي إسماعيل في إصلاح ذلك الخلل ولكنه - بدلاً من أن يعالجه
بأن يكون القضاء الأهلي وشريعة البلاد هما المرجعان في التقاضي بصرف
النظر عن أطراف الخصومة انتهى إلى اتفاق مع أوروبا بإنشاء محاكم
مختلطة يكون العنصر الغالب فيها للقضاة الأوروبيين وتحتكم إلى القانون
الفرنسي والإنجليزي والإيطالي، وتفصل فيما يقوم من المنازعات بين
الوطنيين والأجانب وتختص بنظر الجنايات والجنح والمنازعات المدنية
والتجارية، واستثنت بعض الجنح والجنايات التي يرتكبها الأجانب فظلت من
اختصاص المحاكم القنصلية، وقد وقع هذا الاتفاق كل من الولايات المتحدة
- النمسا - المجر - بلجيكا - الدنمرك - فرنسا - ألمانيا - إنجلترا -
اليونان - هولندا - إيطاليا - البرتغال - روسيا - إسبانيا - السويد -
النرويج.. وذلك في سنة 1875، وكانت كل القوانين المعمول بها أجنبية في
تلك المحاكم والغلبة فيها للقضاة الأجانب.. ويصف القاضي الهولندي فان
بلمن ذلك بقوله: "إن المحاكم المختلطة ركن قوي من أركان السيطرة
الأوروبية على مصر".
وبهذا القضاء المختلط تمت السيطرة الفعلية على القضاء المصري، بل
التشريع المصري ذاته، حيث إنه لم يعد في مقدور الحكومة أن تصدر
قانونًا بدون موافقة الأجانب عليه، وبذلك تكون مصر قد خسرت حتى
استقلالها التشريعي كما يقول جابرييل شاوم، فتلك المحاكم قد شاركت
الحكومة سلطة التشريع، ولم يعد في مقدور الحكومة أن تصدر قانونًا
نافذًا إلا إذا صدقت عليه الجمعية التشريعية للمحاكم المختلطة.. أي إن
تلك المحاكم تمارس أيضًا سلطة البرلمان!!
ومن الناحية التاريخية فإن تلك المحاكم قد تسببت في ضياع استقلال
مصر، ففضلاً عن كونها في حد ذاتها اعتداء على السيادة وانتقاصًا
للاستقلال الوطني، فإنها وقفت مع الدائنين في صراعهم مع الخديوي
إسماعيل سنة 1879، وألغت مرسوم 22 إبريل 1879 مما أدى إلى تكريس
الرقابة الثنائية التي كانت في حد ذاتها أول أشكال الاحتلال الأجنبي -
كما أنها مع تزايد أعداد الأجانب في مصر أدت بأحكامها إلى زيادة ثروة
هؤلاء على حساب ثروة الوطنيين، الأمر الذي مهد الأرض للاحتلال تمامًا،
يقول القاضي فان بلمن في هذا الصدد: "إن المحاكم المختلطة صارت سلطة
أقوى من سلطة الحكومة المصرية، وقد أدرك الخديوي إسماعيل -في الوقت
الأخير وبعد وقوع المحظور- أنه بإبرامه الاتفاقات المنشئة لهذه
المحاكم قد خلق لنفسه أسيادًا جددًا إلى جانب سيادة القنصليات ويضيف:
"إن هذه المحاكم التي يرتدع لها الخديوي والباشاوات لم تكن مستقلة
تمام الاستقلال عن العنصر الأجنبي في مصر فبينما حكومة البلاد
والأهالي عزل أمامها كان الأجانب يعدونها محاكمهم ويرون أنها أنشئت
خصيصًا لمناصرتهم في جميع الأحوال والقضاء لمصلحتهم ضد العرب والترك
والخديوي "يقصد بالعرب المصريين"، فكانوا منها في موقف حصين إذ يحميهم
الرأي العام الأوروبي والمحامون ورجال الأعمال والصحف فضلاً عن المال،
وتشد أزرهم قوات القنصليات والدول والجاليات الأوروبية التي تتحفز
لمهاجمة كل قاض وكل محكمة لا تنحاز إلى جانبهم، وقد أسرفت تلك المحاكم
في إصدار الأحكام ضد الحكومة والخديوي لصالح الأجانب من المقاولين
والموردين، أو من الأفاقين من مختلف النحل ممن كانوا يطالبون بما ليس
لهم حق فيه، أو بإضعاف ما يستحقونه، ولقد أدى الإسراف في هذه الأحكام
إلى تضخم الديون السائرة التي أثقلت كاهل الحكومة وتفاقم النكبة التي
تولدت منها، وكانت هذه المحاكم هي أداة السيطرة الأوروبية والاستقلال
الأجنبي في مصر فهي محاكم أجنبية تقضي بين الناس بلغة أجنبية وتطبق
قانونًا أجنبيًا، ويعد عملها -على الخصوص في البيوع الجبرية والرهون
العقارية- كارثة على مصر.
ويقول الرافعي: "وصفوة القول إن نظام القضاء المختلط قد أنقص سيادة
مصر واستقلالها، وكان هذا النظام أداة لاستغلال مصر
واستعبادها".
إذن فهناك إجماع على أن التشريع الأجنبي قد دخل مصر بفعل الضغط
الأوروبي وبسبب النفوذ الأجنبي، وأن ذلك كان مقصودًا لتكبيل مصر
وتجهيزها للخضوع للاحتلال الأجنبي، الأمر الذي يؤكد الصلة المباشرة
بين الاستقلال الوطني وسيادة الشريعة الإسلامية كما يؤكد أيضًا أن
التشريع الأجنبي كان أحد أشكال الهيمنة الاستعمارية وأنه كان أحد
أدوات استغلال مصر واستعبادها، وأنه كان وسيلة لإغراقها في الديون
والنفوذ الأجنبي، ولعل كل ذلك يكون قذى في عيون من يقول بأن التشريع
الأجنبي لم يدخل مصر عنوة، أو لم يدخلها بسبب الاستعمار، فالقانون
الأجنبي كان وسيلة استعمارية ثابتة على كل مستوى.
وقد تواكب مع ذلك المخطط الاستعمار الجهنمي قيام الخديوي إسماعيل
بتعريب مجموعات القوانين الفرنسية، وترجمت فعلاً بقلم الترجمة
"القوانين المدنية والدوائر البلدية والمحاكمات والمرافعات والحدود
والجنايات، وطبعت ما بين 1866 - 1868, ثم إن الخديوي إسماعيل استدعى
من فرنسا في سنة 1865 مهندسًا فرنسيًا كان اسمه "فيكتور فيدال"، وكان
حاصلاً على ليسانس الحقوق بالإضافة إلى الهندسة، فكلفه الخديوي
إسماعيل بإعداد لائحة تأسيسية وقانون للإجراءات الجنائية وقوانين
أخرى، وأن يدرس القانون الإداري لولي العهد, ثم أنشأ مدرسة الإدارة
والألسن في أكتوبر 1868 قام منهجها على دراسة الشريعة الإسلامية
والقانون المدني للدول الأوروبية والقانون الطبيعي والقانون الروماني
والقانون التجاري والبحري والمحاسبة التجارية وقانون المرافعات
المدنية والتجارية وقانون العقوبات وقانون تحقيق الجنايات فضلاً عن
اللغات العربية والتركية والفارسية والفرنسية والإيطالية واللاتينية،
أي إنها كلية حقوق بالمعنى الكامل أخفي اسمها تحت اسم لم يكن لمناهجها
منه نصيب هو "مدرسة الإدارة والألسن"، ولم يكن حتى القانون الدستوري
والإداري من مواد التدريس بها ولم يضافا إلى مناهجها إلا بعد عشرين
عامًا من إنشائها 1888، ولعل إخفاء حقيقة تلك المدرسة تحت اسم آخر كان
مجرد حذر من مقاومة قد تظهر من الأزهر لإنشائها.
إذن فقد تم استنبات التشريع الأجنبي في البيئة المصرية عمليًا
ونظريًا وتعليميًا بفعل الضغط والنفوذ الأوروبي ولتحقيق أهداف
الاستعمار وطلائعه الأولى من المرابين والأفاقين المغامرين
والموردين.
وفي سنة 1883 تم إنشاء المحاكم الأهلية، وقد نص الأمر العالي
بإنشائها على أن تكون القوانين التي تطبقها المحاكم الأهلية هي نفس
قوانين المحاكم المختلطة وصدر القانون المدني في 28 أكتوبر سنة 1883
وقانون التجارة والقانون التجاري البحري وقانون المرافعات وقانون
العقوبات وقانون تحقيق الجنايات في 13 نوفمبر 1883، وقد شكلت المحاكم
الأهلية من قضاة من المصريين الذين شغلوا المناصب القضائية بالمحاكم
المختلطة، أو أتموا دراساتهم القانونية في أوروبا وفي مصر مع تعيين
بعض القضاة الأجانب بشرط مراعاة أرجحية من يكون منهم عارفًا باللغة
العربية، وكذلك من قضاة من المجالس المحلية القديمة, وهكذا فإن ظهور
تلك المحاكم على أساس القانون والتشريع الأوروبي قد كرس التبعية
القانونية لبلادنا للأجانب على مستوى القضاء الأهلي والقضاء المختلط
معًا، ولعل هذه كانت من الأمور التي تروق للاستعمار الإنجليزي الذي
احتل مصر سنة 1882، فلو لم يكن موافقًا على ذلك لما سمح به وقد عطل
أكثر من مشروع دستور وغير من سلطات مجلس النواب بشكل يقلص نفوذه
وأهميته، وتسامح أو تشجيع الاستعمار الإنجليزي لذلك كان شكلاً جديدًا
ومتسعًا للهيمنة الأجنبية على بلادنا، وقد تم تأسيس تلك المحاكم في
المدن الكبرى في الوجهين القبلي والبحري، كما تم إصدار مجموعة من
اللوائح المنظمة لاختصاصات المحاكم وضرورة نشر القوانين في الجريدة
الرسمية وعدم قابلية القضاة للعزل وعدم جواز سريان القوانين بأثر رجعي
وغيرها من المبادئ القانونية التي تتفق فيها كل التشريعات الحديثة،
وهي أيضًا غير مخالفة للشريعة الإسلامية إلا أن كل القوانين المعمول
بها في تلك المحاكم الأهلية كانت مستمدة من التشريعات الأوروبية، كما
تم إنشاء محاكم الاستئناف وتنظيم للنيابة العامة. وإذا كان البعض قد
امتدح عملية تنظيم القضاء وضبطه وتقنينه عن طريق المحاكم الأهلية،
فإنه قد فاتهم أن استخدام التشريع الأوروبي في تلك المحاكم قد جعل كل
مميزاتها في النهاية بلا قيمة حقيقية.
وفي عام 1937 تم عقد معاهدة مونترو التي نصت على إلغاء المحاكم
المختلطة بعد مرور 12 عامًا، وقد تم هذا الإلغاء في 14 أكتوبر
1949.
وفي عام 1948 صدر القانون رقم 131 الذي ألغى القانون المدني المعمول
به أمام المحاكم الأهلية الصادر في 28 أكتوبر 1883، والقانون المدني
المعمول به أمام المحاكم الصادرة في 28 يوليو 1875، واستعيض عنهما
بالقانون المدني الصادر في 1948 على أن يعمل بهذا القانون ابتداء من
15 أكتوبر 1949، أي بعد إلغاء المحاكم المختلطة, وهكذا تم صدور
القانون المدني الذي ما زال يعمل به حتى الآن، واستند ذلك القانون في
تشريعاته أيضًا على النصوص الأوروبية وخاصة القانون الفرنسي، ولكي
نعرف موقفه من الشريعة الإسلامية فإننا نورد نص المادة (1) من هذا
القانون "تسري النصوص التشريعية على جميع المسائل التي تتناولها هذه
النصوص في لفظها، أو في فحواها، فإذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه
حكم القاضي بمقتضى العرف، فإذا لم يوجد فبمقتضى القانون الطبيعي
وقواعد العدالة".
وقد فسر الأستاذ أنور العمروسي تلك المادة بأنه "ما دام المجتمع وليد
العقيدة الإسلامية فقد أصبح قانونه الطبيعي هو القانون الذي أنتجته
والذي ازدهرت حضارته وبقيت على أساسه 14 قرنًا تفرد خلالها بحمل أعلام
الحضارة بين الأمم". وأضاف الأستاذ أنور العمروسي: "أن تلك المادة
ترتب مصادر التشريع كالتالي: "النصوص - العرف - مبادئ الشريعة
الإسلامية - مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة".
أي إن الشريعة الإسلامية هي المصدر الثالث بعد النصوص، والعرف، ومن
العجيب أن يقرر في مصر وليد العقيدة الإسلامية، ومع ذلك يأتي ترتيبها
الثالث في 80 رجال القانون أن المجتمع مصادر التشريع!!
وعلى مستوى القوانين الجنائية صدر تقنين للإجراءات الجنائية عمل به
ابتداءً من 15 نوفمبر 1951، أما تقنين العقوبات فقد تم تنحيته مرتين
الأولى سنة 1904 والثانية 1937.
وفي عام 1961 بعد ظهور الموجة الاشتراكية في مصر - ظهر اتجاه لتعديل
القوانين بما يتلاءم مع تلك الموجة الاشتراكية، وتم تشكيل لجان لهذا
الغرض إلا أن معظم أعمال هذه اللجان لم ير النور فيما عدا تقنين
المرافعات الذي صدر في 1968 وكذلك قانون الإثبات.
وظلت الشريعة الإسلامية بعيدة عن مجال التطبيق ومستبعدة، وتأتي في
المرتبة الثالثة من مصادر التشريع كما جاء في قانون 1949 اللهم إلا في
قانون الأحوال الشخصية الذي استمد من الشريعة الإسلامية.
وفي سنة 1971 - ونتيجة للضغط الشعبي- نص في المادة الثانية من
الدستور على أن تكون الشريعة الإسلامية مصدرًا رئيسيًا للتشريع، ثم
تعدل هذا النص في 1979 لتكون "الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي
للتشريع" ومع ذلك فما زالت النصوص القانونية غير مستمدة من الشريعة
الإسلامية حتى الآن.
30/7/1429 هـ
- التصنيف: