المشروع أنفى للخضوع!

منذ 2019-02-02

أليس من لوازم التّصدر النّخبوي أن تكون هذه النّخب في مقدّمة المطالبين بالخروج من تيه التّخلف، وظلام الجهل، ومهانة الضّعف، حتى تجد الأمة لها موضعاً عالياً

تحاط الأمة الإسلامية والعربية، بمشاريع دولية طارئة أو مستمرة، تستهدف السّيطرة عليها، وجعل قرارها تابعاً لغيرها، وثرواتها مكتنزة لمصلحة الكبار، وأراضيها مسرحاً للنّزاعات، والتّجارب، والاستهلاك؛ ولذلك تحضر منطقة الشّرق الإسلامي في صلب أي معادلة دولية، وقلّما ينعقد اجتماع لقادة أي كتلة مؤثرة دون عرض قضية تخصّ عالمنا أو أكثر.

ومن حقّ الأمم والدّول أن يكون لها برامجها ومشروعاتها بلا نكير، وإنّما يشتد النّكير على أمة تمضي في فلك غيرها، وتصبح آلة في مشاريع الآخرين دون أن تفكر في صناعة مشروع خاصٍّ لها، ينطلق من أولوياتها، ويعبر عن ثقافتها، وينتزع شؤونها من أيدي الآخرين حتى ولو قيل عنهم رباعية دولية، أو لجنة أممية، فلن يرعى للأمة مصلحتها إلا أهلها.

ومما يؤسف له، غضُّ الطّرف عن المشروعات المحيطة جواراً أو تأثيراً، مع شدّة خطرها، وسوء تاريخها، وتتابع كيدها ومكرها، وظهور خياناتها وألاعيبها، في مقابل التّحرز من التّعاطي مع أقرب المشروعات إلى منهج أهل السّنة والجماعة، ووضع العراقيل أمامه، وعثاره عن المضي في مشواره، مع أنّ نجاحه إن لم ينفع، فلن يكون ضرره مثل الأضرار النّاجمة عن مشاريع اليهود، والنّصارى، والفرس، والهندوس، والبوذيين!

كما أنَّ بعض الشّخصيات في بلدان المسلمين، تؤدي أعمالاً جبّارة لخدمة مشاريع البعداء، وتجتهد في ذلك لتحوز رضا الأقوياء ومساندتهم، والتّجربة تعلمنا أنّ المسرح سيضيق بهم فيطردوا منه، أو يثقِل وجودهم المركب السّائر، فيقذفون منه في ظلمات المحيطات! وأعظم به من غبن في الدّنيا حين يفني المرء نفسه لصالح غيره، ثم يخرج مذموماً ملوماً، والفجيعة أكبر يوم التّغابن؛ حين يقف الإنسان وحيداً للعرض والحساب.

وإنّ لوم النّفس ومحاسبتها أمر مفيد للغاية إذا لم يقف عن حدّ اللوم والتّقريع، وتبعه سعي نحو العمل الجاد تخطيطاً، وتنفيذاً، ومتابعة، وتقويماً، وهذا الأمر واجب على كل أحد، وفي مجموع الأمة وأفرادها، فرص كثيرة سانحة، وأخرى يمكن صناعتها، والحاجة الملحة تنبت سبعين حيلة صحيحة لمن اجتهد واحتشد لعظائم الأمور.

فعلى الزّعماء واجب بحكم الدّيانة، وبموجب مسؤولية القيادة، يتمثل في رعاية المصالح العامة والعليا، ولا يكون ذلك إلا بتجاوز المصالح الشّخصية، والخلافات البينية، من أجل صنع مشروع مستقل للأمة، يظهر شخصيتها، ويعظم قوتها. ولا تزال الأمم والبلدان تذكر بتوقير بالغ رجالاتها التّاريخيين، وكل حضارة تفاخر بعظمائها، وإن أمتنا لولود منجبة، والخيرية باقية فيها، وإنّ جيل العزيمة الرّاشدة لجدير بإنجاز عظائم الأمور خلف أي قيادة صادقة أمينة.

وعلى نخب المجتمع واجبات ثقيلة، فهل يرضى العلماء أن يعيشوا في عصور الضّعف دون موقف شرعي؟ وهل يكتفي المفكرون بجلد الذّات دون توعية الجماهير والجموع؟ وهل يتوافق الشّرف العسكري مع البقاء في ذيل القائمة، وفي خانة المفعول به والتّابع القابل للحذف تحت تأثير أي عامل؟ ألم يأن لهؤلاء وغيرهم من النّخب أن يطرحوا التّشاحن والتّناحر، ويوحدوا الجهود باتجاه مشروع جامع مانع نافع؟

أليس من لوازم التّصدر النّخبوي أن تكون هذه النّخب في مقدّمة المطالبين بالخروج من تيه التّخلف، وظلام الجهل، ومهانة الضّعف، حتى تجد الأمة لها موضعاً عالياً، ومكانة سامية تستحقها، فتنافس بالعلم والحضارة، وتزاحم بالعدد والعتاد والقوة، فلا فائدة من النّخبوية حين تكون حبيسة الأذهان والمشاعر، وإنَّ نجاحهم يتحقق حين تسري أفكار النّخب الملهمة، وتتجاوز الدّوائر الضّيقة، فيتحدث بها الرّجال في مجالسهم، وتتناقلها النّساء بينهنّ، وتختلط مع الشّبان حيثما حلّوا.

ولا يُعفى الأفراد من واجب في أعناقهم حسب الاستطاعة، فعقول الطّلاب وقلوبهم بين يدي المعلم الأمين، وعيون المشاهدين تتبع شّاشة الإعلامي المخلص، وآذان السّامعين تعي نبرات الخطيب المبين، وأعناق المنتظرين تشرئب لمن يبدأ المسير فتنطلق خلفه، فلم يخلقنا الله عبثاً، ولن يتركنا سدى، وهو سائلنا عمّا فعلنا.

ومن الحكمة ألا ينحصر المشروع في حقل أو مجال، وأن يكون التّكامل أبرز خصائصه، فمشروع الأمة حضاري يحفظ دينها وتاريخها ولغتها، واقتصادي متنوع يفيد من خيراتها وثرواتها، وينتج بما يتجاوز الاكتفاء، وعسكري يحفظ للأمة ضروراتها، ويدفع عنها البغي والعدوان، وإعلامي ثقافي دعوي، ينقل للدّنيا حقيقة ديننا، ونصاعة ثقافتنا، وسمو أخلاقنا، ويعرض للعالم منتجاتنا الفكرية بلغة يفهمها، وطريقة تجعله يقبلها أو يتفهمها.

ومن عوامل بناء مشروع حقيقي، أن تتعاون على رعايته بلاد المركز القوية مع غيرها حتى يظهر في صورة مشرّفة، وينمو باتزان إلى أن يصير عملاقاً لا تنظر المشاريع الأخرى إليه شزراً، أو بطرف عين، أو من مواضع عالية، وحينها سنكون أمة تأنف من الخضوع، وذات مشروع يهاب، ويحسب حسابه.

ويحسن معرفة الأوراق المؤثرة التي تمتلكها أمتنا، ثم تحديد كيفية استعمالها، وتوقيته المناسب، وفي غفلة من الآخرين أو استغفال لهم، سيكون خروج ماردنا من قمقمه أكبر تغيير معاصر يعيد صناعة الأحداث، ويجبر الكّافة على إعادة كتابة المعادلة، بحيث يكون لأمتنا موقع مؤثر فاعل بعزّ عزيز أو ذلّ ذليل.

وليس هذا قولاً مرسلاً، أو من قبيل الأحلام اللذيذة، التي يتسلى بها الضّعفة، والأدلة القريبة كثيرة جداً، فحين خرجت ألمانيا مهزومة ذليلة من الحرب العالمية الثّانية، وتبعتها اليابان مع تدمير كبير، لم تقفا عند ما أصابهما، وأعادا البناء، وها هي ألمانيا أقوى دولة في أوروبا، بينما تنافس اليابان على زعامة آسيا، وتكاد أن تحتل الدولتان الصّدارة الاقتصادية، وما من صداع أوجع للقوى الكبرى من خلاف هاتين الأمتين!

وأقرب منهما زماناً ما فعلته البرازيل التي كانت حديقة خلفية لأمريكا، ومنشغلة بمشكلاتها مع الجيران، فبنت مشروعاً ذاتياً، وخرجت للعالم بغير الوجه المعروف عنها، وتمكنت من تطهير علاقاتها من المنّغصات، واستثمار كل قوة لديها، وأصبح قول “لا” يسيراً عليها بعد أن كانت تظنّه مستحيلاً، وغدت منافساً في السّياسة والاقتصاد بعد أن كانت منافستها محصورة في ملاعب كرة القدم!

وفي السّيرة النّبوية الزّكية مثال مقدّس على المشروع الإسلامي الذي ارتبط مع وحي السّماء، حيث استمر النّبي الكريم-صلى الله عليه وسلم- يدعو قريشاً إلى الله والدّار الآخرة سنوات عدداً، ومن خلال هذه الدّعوة بنى الأساس الرّاسخ لأمته، وأنشأ القاعدة الصّلبة لمشروعه المأمور به من لدن حكيم خبير.

ولما لم يجد في مكة ملاذاً آمناً لدعوته وصحبه، بحث عن منطلق أنسب لمشروعه، فكانت الهجرة للحبشة، ثم الذّهاب إلى الطّائف ذات الموقع والمكانة الاستراتيجية، وبعد الطّائف عرض نفسه على قبائل العرب في مواسم الحج وأسواقه المرتبطة به زمانياً ومكانياً، حتى أنجز بيعات العقبة المتتالية.

والحدث الفاصل في المشروع تمثل في الهجرة إلى المدينة، وهناك كانت الخطّة جاهزة، فمن بناء المسجد، ومؤاخاة المهاجرين والأنصار، وكتابة وثيقة الصّحيفة التي ضبطت العلاقات داخل المجتمع المدني المتنوع، إلى إعلان قيام الدّولة الإسلامية بالسّرايا والبعوث والمعارك والكتب والتّحالفات، حتى استيقظت مكة ذات يوم على فاتحها العظيم، الذي ناصبته العداء عدّة سنوات، وناكفت دعوته وأصحابه.

ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ، إذ وصل سفراء الرّسول -عليه الصّلاة والسّلام- إلى قادة البلاد المجاورة، وبعضها دول عظمى تاريخية، وذات حضارات عميقة ممتدة، فمنهم من أجاب، ومنهم من تلّطف بالرّفض، ومنهم من أساء الأدب، وكانت النّتيجة المستقبلية، أن دخلت جميع هذه البلاد تحت راية دولة النّبوة والخلافة الرّاشدة خلال أقل من عشرين عاماً طوعاً أو كرهاً، وقبل وفاة النّبي صلى الله عليه وسلم، نزلت آية عظيمة تشهد له بإتمام المشروع العظيم الذي صرم له ثلث عمره، حيث يقول الله عز وجل: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ (المائدة:03).

وترافق مع تنفيذ هذا المشروع على الأرض آداب وأحكام، ومن أبرزها الأمر الإلهي الصّريح بإقامة العدل، وفعل الإحسان، والنّهي عن الفحشاء والبغي، وهذه التّوجيهات من مقومات السّعادة وركائز الأمن: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (النحل:90).

وإنّ المصدر الذي استقى منه النّبي -عليه الصّلاة والسّلام- مشروعه محفوظ بحفظ الله إلى يوم القيامة، وفيه آيات واضحة في الأمر والتّوجيه، كآية الوحي الأولى الآمرة بالقراءة، ثم آية الصّدع بالدّعوة، وآيات الصّبر واليقين، ثم آيات الهجرة والدّفاع عن النّفس، فنصوص الجهاد المقدّس وإعداد القوة، ثم آيات العلاقات الدّولية، والسّلم والصّلح، والقتال والغنائم، في مواضع من سورة القرآن الكريم.

وفي السّنة النّبوية الصّحيحة، والسّيرة الشّريفة العطرة، من أقوال الرّسول-صلى الله عليه وسلم- وأفعاله وتقريراته، ما يمكن أن يُستجلي منه صورة المشروع الكبير الذي ابتدأ من غار حراء، واستمر حتى وضع للنّاس منهجاً كاملاً شاملاً، فيه تبيان لكل شيء، وتفصيل لما يستحق التّفصيل، وإجمال لما يكفي فيه الإجمال، وإنّما دخل النّقص علينا من هجر مصادرنا الأساسية، أو من الفهم المؤول أو المحرّف لهما، فضلاً عن الدّعة وحبّ الدّنيا، ودنو الهمّة.

أحمد بن عبد المحسن العساف-الرياض

  • 0
  • 0
  • 10,305

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً