نصيحة الباجي

منذ 2019-02-10

نشأ أبو الوليد سليمان الباجي(هـ 474-403) في بيئة علم وصلاح بالأندلس؛ فقد كان أبوه عالما وأمه فقيهة وكذلك جده.

حميد بن خيبش

في غمرة الكتابة، والتأليف في شؤون الدين والفكر وقضايا المجتمع، لم يَغفل ثلة من فقهاء وعلماء الأمة عن توجيه غيض من فيض التهذيب والنصح لأبنائهم. وبذلك حفظت لنا المكتبة الإسلامية نماذج تربوية مشرقة، تحيل على دور الفقيه في الشأن التربوي تنظيرا وممارسة !

نشأ أبو الوليد سليمان الباجي(هـ 474-403) في بيئة علم وصلاح بالأندلس؛ فقد كان أبوه عالما وأمه فقيهة وكذلك جده. وأخذ العلم في بداية حياته على يد أحد فقهاء الأندلس هو أبو بكر بن شماخ. ثم رحل إلى الحجاز وبغداد والشام ومصر طلبا للعلم على يد أكابر الشيوخ في ذلك العصر.

صنف الباجي في مختلف العلوم من عقيدة وحديث وعلم كلام وغيرها. وذكره الفتح بن خاقان في (قلائد العقيان) كشاعر مجيد له نظم رائق في الوعظ والزهد؛ منه قوله:

       إذا كنت أعلـم علـما يقينا       بـأن جـميع حياتـي كساعة

       فلم لا أكـون ضنينـا بـها        وأجعلها في صلاح وطاعة ؟

وأما الوصية التي أفردنا لها هذه المقالة فهي موجهة لابنيه أبي الحسن محمد وأبي القاسم أحمد. وقد حرص المؤلف على تبليغها لولديه قبل أن يتولى تعليمهما، خشية أن توافيه المنية على حين غرة. وهذا النهج الاستباقي في النصح للأولاد يكشف عن فطنة وتبصر بحال الدنيا التي لا ينبغي للبيب أن يأمن جانبها !

قبل مباشرة الوصية يُذَكر أبو الوليد ابنيه بمقصدين هامين لمبادرة النصح هاته، أولهما أن الوالد أنصح الناس لولده، لأنه ليس في الأرض من تطيب نفسه أن يفضل عليه أحد غير الأبناء، وهذا المقصد يُلزمهما الاستماع والامتثال، وقبول النصح.

والثاني أن الولدين ينتسبان لأسرة عريقة في العلم والتقوى و السمعة الطيبة. وتلك ميزة تقتضي الحفاظ على المكانة، فإن استطاعا الزيادة فذاك، وإلا فليتجنبا التقصير.

يخصص الباجي القسم الأول من الوصية لما يلزم من أمور الشريعة، فيبدأ بركنها الأول وهو الإيمان بالله، حيث يعرض لما وصى به إبراهيم عليه السلام بنيه، وما نهى عنه لقمان ابنه. وفي استحضار هذا التجلي القرآني للعلاقة الأبوية تجسيد للمسؤولية الخطيرة التي يضطلع بها الأبوان لغرس القيم الإيمانية، وإدراك للبعد الوقائي الذي ينطوي عليه ركن التوحيد في تحصينه المرء من الزيغ والضلالة والتيه.

ثم ينتقل في إيجاز بليغ إلى عرض بقية الأركان مع التنبيه إلى مقاصدها، وكيفية أدائها بما يحقق الغاية. فيدعوهما إلى التصديق بأركان الإيمان، وحفظ القرآن والعمل به، وطاعة الرسول ومحبته، والحرص لمعرفة سنته.

وفي توجيهه الخاص بمحبة الصحابة ينصحهما بلزوم حسن التأويل فيما شجر بينهم، واعتقاد الجميل فيما نُقل عنهم. كما يوصي بتوقير العلماء ،وإقام الصلاة ،وأداء الزكاة دون محاباة ولا متابعة هوى، وصوم رمضان، وحج البيت، والجهاد إن كانت بهما قدرة عليه.

ويفرد أبو الوليد حيزا للحث على طلب العلم الذي به يتأتى لهما أداء الفرائض. فيتناول فضل العلم ورفعة أهله، ومكانة علم الشريعة بين سائر العلوم. ولأنه يضع بحسبانه إمكانية أن يتخذ الولدان قرار السير في اتجاه آخر، فإنه يدعوهما في حال التقصير عن بلوغ ذلك، إلى التماس الحديث والمسائل على مذهب الإمام مالك، وينهاهما عن قراءة كتب المنطق و الفلسفة قبل التمكن في الدين.

وفي الجزء الأخير من قسم الشريعة، يعرض لجملة من الكبائر والمنهيات التي لا يتم إيمان العبد إلا باجتنابها، كالزنا والربا والظلم ،وشرب الخمر وشهادة الزور وغيرها. ويُلحق بها آفات تعترض مسيرة الشباب في عصره فتضيع أوقاتهم، وتبطل أعمالهم. حيث ينهاهما عن الاستماع للغناء لأنه يورث الفتنة في القلب، والشطرنج الذي يفسد العمر، والتنجيم الذي يُخرج مُصدقه عن الدين .

أما القسم الثاني من الوصية فيذهب فيه أبو الوليد إلى تحديد شكل العلاقات الاجتماعية التي ينبغي أن ينسجها ولداه مع الأقارب والناس عموما، أكان ذلك في زمان السلم أو زمان الفتن. ولا يحيد المؤلف بشكل عام عن مضمون الكتاب والسنة في رعاية حقوق الأهل و الجيران، وصلة الأرحام، وإيثار الأخوة على متاع الدنيا، وغيرها من التوجيهات التي تقلل من نوازع الشر وأسباب القطيعة بين الأفراد.

ويبدو خوف الأب على ابنيه واضحا عند تناوله لآخر وأهم توجيه في هذا القسم من الوصية، وهو المتعلق بالسلطان، والموقف من الفتن والاضطرابات التي يمكن أن تحدث، إضافة إلى الاحتياط الواجب اتخاذه في حال قادتهما المشيئة إلى الانضمام لحاشيته. إذ نجده يحثهما على عدم الخروج على السلطان العادل، والصبر على السلطان الجائر واعتزال الفتن بإغلاق الأبواب وقطع الأسباب حتى يستقر الأمر. كما يدعوهما إلى اجتنابه متى وسعهما ذلك، فإن امتُحن أحدهما بصحبته فلا يطلب لنفسه إمارة، ولا يرغب في جاه أو مال.

يحرص أبو الوليد على توريث الحياد السلبي الذي سبقه إليه جم غفير من الفقهاء إزاء السلطان وشؤون الإمارة. ويبدو وفيا لنهج اعتزال شؤون السياسة، والإبقاء على الفقيه خارج مدار الفتن والقلاقل التي تؤثر على استقرار المجتمع.

ومن جهة أخرى تحيل الوصية على أسلوب مميز من أساليب التربية الوالدية، يسدد به الآباء خطى الأبناء عبر مزج ذكي بين العاطفة وضرورات التأديب والترهيب. وهو المنهج الذي يغيب اليوم عن كثير من الأسر في سعيها لحصر التربية والتنشئة ضمن نطاق مادي محدود، قوامه تلبية الرغبات، وإشباع متطلبات الجسد دون عناية بغرس القيم والعوائد النبيلة.

حميد بن خيبش

كاتب إسلامي

  • 7
  • 0
  • 13,529
  • radi fassi

      منذ
    ولعل الفقيه الباجي من خلال نصائحه لولديه يعبر أصدق تعبير عما ينبغي أن يكون عليه المومن من تقوى وورع وخوف من اللّٰه علاوة على محبة للعباد والبلاد؛وكأني به يقصد بهذه النصائح الناس أجمعين؛وهذا لعمري هو نهج السلف الصالح في كل زمان ومكان.ما أحوجنا اليوم إلى أمثال الباجي لنخرج من غيابات الجهل إلى رحاب العلم النافع للناس كافة والسلام. ذ علي الراضي ـ المغرب
  • radi fassi

      منذ
    السلام عليكم ورحمة اللّٰه وبركاته،قال رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم:الدين النصيحة؛وهذا دليل على أن النصيحةتشمل الدين كله والعكس صحيح أيضا

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً