غداً.. سوف.. بداية الضياع
أبو حاتم سعيد القاضي
تُؤَمِّلُ في الدُّنيا طويلاً ولا تدري إِذا جنَّ ليلٌ هلْ تعيشُ إلى الفجرِ
وكمْ مِن فتًى يُمسي ويُصْبِحُ آمنًا وقد نُسِجَتْ أَكفانُهُ وهو لا يدرِي
- التصنيفات: الزهد والرقائق -
قال عبد بن عمر رضي الله عنهما: أخذَ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلم بمَنكِبي، فقال: " «كن في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابرُ سبيلٍ، وعُدَّ نفسَك في أهلِ القبورِ» ". إنه يُعلِّمُه أن يكون ابنَ يومِه، يعيشُ لحظتَه، يغتنِم كلَّ لحظةٍ من حاضرِه في التزودِ لآخرته، دون تسويف أو تأجيل.
وأخذ ابن عمر بوصيةِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم، فكان يقول: " ««إذا أصبحتَ فلا تُحدِّثْ نفسَك بالمساءِ، وإذا أمسيتَ فلا تُحدِّثْ نفسَك بالصباحِ، وخُذ من صحتِك قبل سقَمِك، ومن حياتك قبل موتِك؛ فإنك لا تدري يا عبد الله ما اسمُك غدًا»» ".
في رجب سنةَ تسعٍ من الهجرة أمرَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلم أصحابَه أن يتجهَّزوا للخروجِ إلى الغزوِ، وأوجبَ على كلِّ من استطاع الخروجَ أن يخرج معهم إلى تبوك.
بدأ كعبُ بن مالك رضي الله عنه يُعِدُّ نفسَه للخروج مع رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم، فجمعَ راحلتين يحمِلُ عليهما زادَه ومتاعَه عندما يتجهَّزُ للخروجِ.
وبدأ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلم وأصحابُه يتجهَّزون ويُعدُّون أنفسَهم للخروج، وأراد كعبٌ التجهُّزَ للخروج معهم، لكنه قال في نفسِه: "أنا قادرٌ على ذلك إذا أردْتُ"، قال هذا ولم يفعلْ شيئًا.
ومر يومٌ، ويومان، وثلاثة، وهو يؤجِّل ويُسوِّف، ويقولُ: "غدًا أتجهَّز"، حتى خرج النبي صلَّى الله عليه وسلم وأصحابُه للغزو، وفارَقوا المدينة.
ولا زال كعبٌ يقول: "غدا أخرجُ فألحَقُ بهم"، قال: "وياليتني فعلْتُ"، لكن اليأسَ قد دخلَ قلبَه، وضعُفت همتُه عن اللحاقِ بهم، فجلس رضِي الله عنه في المدينةِ، وتخلَّف عن الغزو مع رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم، وكاد يهلِك لولا أدركتْه عناية الله تعالى، وتابَ عليه سبحانه تعالى.
إن التسويفُ هو القبر الذي نواري فيه أحلامَنا وطموحاتِنا والفرص النادرة في حياتنا.
كثيرون هم الذين يقفون مع أنفسِهم، ويتخذون قراراتٍ صارمةً لتغييرِ حياتِهم، لكنهم لم يتخلَّصوا من داءِ التسويف والتأجيلِ الذي يدمِّر كلَّ أحلامِهم وقراراتهم ويذهَبُ بها أدراج الرياح.
في دراسة لمجموعة من الباحثين في جامعة أمريكية: أنَّ الطلابَ الجامعيين الذين اعتادوا تأجيلَ أعمالِهم لوقتٍ لاحقٍ، انتهى بهم المطافُ في نهاية كلِّ فصلٍ وهم يعانون من أمراضَ عديدةٍ، وحصَّلوا درجاتٍ منخفضةٍ.
وفي دراسة لجامعةٍ ألمانية: أنَّ من يؤجِّلُ بشكلٍ متكررٍ المهامَ الموكلة إليه يعاني من الضغطِ العصبي، والاكتئابِ، والشعورِ بالخوف، والوحدةِ، والإجهادِ.
تريد أن تعملَ عملًا فتؤجِّلُه خوفًا من الفشلِ وضعفِ الإرادة. تريدُ أن تتوب، لكن تتذكَّرُ فشلَك المتكررَ في التوبةِ من ذنوبِك مراتٍ ومراتٍ، فيملأُ قلبَك الإحباطُ واليأسُ، فتؤجِّلُ التوبة. فإذا أردْتَ فلاحًا فلا فاطرُد أشباحَ الخوفِ والقلقِ.
تريد أن تعملَ عملا فيأتيك شعورٌ بالكسلِ والخمولِ، فتؤجِّله، قد تشعر ببعض التحسنِ، لكن هذا يكون لفترةٍ يسيرةٍ، لتعود نتائجُ التأجيلِ والتسويفِ الكارثية تلاحقُك وتدمِّر حياتَ2ك.
تريد أن تعملَ عملًا لكنك لا تُحب هذا العملَ، مع علمِك بأهميتِه وحاجتِك إليه، لكنه ثقيلٌ على قلبِك، فتؤجِّله لتريحَ بالك.
والذكي يعمَلُ الأعمالَ المهمة التي تحقِّقُ له الخيرَ في دينِه ودنياه، وتوصله لأهدافِه النبيلة التي يسعى لتحقيقِها، لا يشغلُه: هل أُحبُّ هذا العملَ أم لا؟ بل أهم شيءٍ عنده: هل هذا العملُ صوابٌ أم لا؟ هل هو يُحقِّقُ لي أهدافي؟ هل يُقرِّبُني إلى ربي؟
تريد أن تعمَل عملًا لكنك مشغولٌ الذهنِ، مُشتَّتُ الأفكارِ، فتؤجِّله لحين تجدُ الصفاءَ وراحةَ البالِ، وحين تصفو لا تجدُ وقتًا.
تريد أن تعمَلَ عملًا لكنه يحتاجُ إلى وقتٍ طويلٍ، ولا يكفي الوقتُ لإتمامِه حاليًا، فتؤجِّله لحين يتيسرُ لك الوقتُ الكافي، ولو أنك أعطيتَه بعضَ وقتِك المتيسِّرَ الآن لفرغتَ منه.
عندما يُسند الأستاذ واجبًا إلى الطلابِ، ينظرُ الطالبُ إلى واجبِه، ويًقيِّم الجهد الذي يحتاجُه لإتمامه، ثم يضَعُ خطةً لتنفيذِه، ولكن لن يتّبعها غالبًا، وعندما يأتي الوقتُ الحَرِجُ، ولا يبقى على تسليم الواجبِ إلا وقتٌ قليلٌ تراه يبذُلُ جهدا كبيرًا، ويتم واجبَه قبل وقتِ التسليمِ.
هذا يدلك على أن كثيرًا من أسبابِ التسويفِ والتأجيل إنما هي أسبابٌ وهميَّةٌ.
لا تؤجِّلْ عملَ اليومِ إلي الغدِ، بلْ ابدأ الآن، وقمْ بعملِك، فلكلِّ يومٍ عملُه، ولكلِّ وقتٍ ما يشغَله، وأنت إذا أجَّلْتَ تراكمَتْ عليك شواغلُ الحاضرِ والمستقبل، وعشْتَ بين: "لعلَّ، وعسى، وسوف، وأرجو"، ومضَى يومُك، وانقضى أجلُك، وما أتمَمت شيئًا.
من وصايا النجاح تلك التي تقول: افعل ما يجب عليك فعلُه في وقتِه، لا قبلَ الوقتِ فتكونَ عجولاً، ولا بعده فتكون مُسوِّفًا، ففي العجلةِ الندامةُ، وفي التأجيلِ خسارة.
قالوا لعمر بن عبد العزيز رحمه الله: لو ركِبت وتروَّحْتَ؟ فقال لهم: فمن يجزئُ عني عملَ ذلك اليومِ؟ فقالوا: تؤجِّلُه إلى الغَدِ. فقال لهم: كَدَحَني عمل يومٍ واحدٍ، فكيف إذا اجتمعَ عليّ عمل يومين في يومٍ واحدٍ؟.
فلا تؤجل عمل اليوم إلى الغد، فلليوم عمل، وللغد عمل آخر، وتراكمُ الأعمال يؤدي إلى عدمِ القيامِ بها غالبًا، والقيامُ ببعضها يؤدِّي إلى الإخلالِ ببعضِها الآخر، فإيَّاك وتراكمَ الأعمالِ؛ ففيه شتاتُ الذهن، وضعفُ الهمة، وتضييعُ الوقت.
عن الحسن البصري رحمه الله قال: "بادرْ أجلَك، ولا تقلْ غدًا غدًا، فإنَّك لا تدري متى تصيرُ إلى الله".
فدائمًا لا تؤجِّلْ لغدٍ ما تستطيعُ أن تأتِيَ به الآن؛ فالتَّسويفُ بحرٌ لن ينتهِيَ، إن فعلتَ ستظلَّ في تأجيلٍ دائمٍ، وانتظارٍ لا ينقطِعُ.
قال محمد شحادة: "افترضْ أنَّ لديك حسابًا مصرفيًّا، يشترط عليك شروطًا، الشرط الأول: أنه يعطيك 1440 جنيهًا كلَّ صباحٍ، والثاني: استخدمْ هذا المالَ بحسب ما تريدُ، والثالث: أيُّ مالٍ لم يُصرَفْ ذلك اليومِ يَضيعُ عليك، فلا يتراكم المالُ من يومٍ لآخرَ. إنَّ هذا الحسابَ المصرفي هو وقتُك، والمالُ هو تلك الدقائقُ المتاحةُ لك كلَّ يومٍ".
لماذا تؤمل في غد لا تملكُه، قد لا تُدرِكُه؟ لماذا تُضيِّعُ ما في يدِك بما ليس في يدِك؟
وفي ديوان علي رضي الله عنه:
تُؤَمِّلُ في الدُّنيا طويلاً ولا تدري إِذا جنَّ ليلٌ هلْ تعيشُ إلى الفجرِ
وكمْ مِن فتًى يُمسي ويُصْبِحُ آمنًا وقد نُسِجَتْ أَكفانُهُ وهو لا يدرِي
وقال أبو إسحاق الغَزِّي:
ما مضَى فاتَ والأملُ غَيْبٌ ولك السَّاعةُ التي أنت فيها
فلا تلتفِت لأيِّ عذرٍ تؤجِّلُ به أعمالَك المهمةَ، إنها في كثيرٍ منها أعذارٌ وهميةٌ، تخدَعُك بها نفسُك، ويغُرُّك بها شيطانُك.
إن قليلًا تعمَلُه اليومَ خيرٌ من التأجيلِ لغدٍ قد يأتي وأنت تحتَ التراب، وقد ذهبتْ أحلامًك أدراج الرياح. إنَّ العمل اليسير الذي تواظِبُ عليه يكبر بمرور الزمن، والعمل الكثير الذي تنقطع عنه لا قيمة، فانظر إلى كمالِ النهاياتِ، ولا تنظر إلى صِغَر البداياتِ.
كم مرةً أردْتَ أن تحفَظَ القرآنَ لكنك تحجَّجْتَ بكثرة مشاغِلك، وعدمِ وجود وقتٍ لذلك، لكن ألا يمكِنُك توفير عشرَ دقائق من وقتِك يوميًّا تحفَظُ فيها ثلاثة أسطر؟ إن هذا يعني أنك سوف تحفَظُ كلَّ خمسة أيامٍ صفحةً، وفي كل شهرٍ ستَّ صفحات، وفي كلِّ عام 72 صفحةَ، وهي تعدل أكثرَ من ثلاثة أجزاء ونصف، وإذا حفظْتَ كلَّ سنة ثلاثةَ أجزاء ونصف أليس هذا أفضلُ من لا شيءَ؟ لا تستعجل، إنه بمرور الزمانِ وبعد ثماني سنواتٍ ستجد أنك قد ختمْتَ القرآن بهذه الدقائق العشر، يا ترى كم سنةٍ مرَّت عليك وأنت تحاول ختمَ القرآنِ وتفشلْ؟!
من دراسة حياةِ الناجحين نجِد أنهم يتمُّونَ أعمالَهم في أوقاتِها، بينما كلُّ الفاشلين كانوا من المُسوِّفين، إن كلَّ الفاشلين أعضاءٌ في جمعية "الغد" الذي لا يأتي، وهي الجمعية التي شعارها: "اترُكِ الأعمالَ إلى وقتٍ آخرَ".
إنَ التأجيلَ في حقيقتِه يعني أن ترمَي الأشياءَ المؤجَّلةَ في سلةِ المهملاتِ، فهذا الذي تؤجِّلُه مصيرُه إلى الضياعِ والنسيانِ، والانشغالِ عنه. تؤجَّل عملَ اليومِ إلى الغَدِ، وعملَ الغَدِ إلى بعدَ الغَدِ، وتَمضِي حياتُك من تأجيلٍ إلى تأجيلٍ.
جاء يوما إلى الرسام الفرنسي (كورو) أحدُ تلاميذِه الناشئين، وعرَض عليه لوحةً كان قد جهِد في إتقانها، فأوقفَه على بعضِ الأخطاءِ، وطلبَ منه إصلاحَها. فأجاب التلميذ: حسنا يا أستاذُ، سأُصلِحُها غدًا. فقال الأستاذ: ماذا تقول؟! واذا متّ في هذه الليلة، تبقى اللوحةُ غيرَ كاملةٍ، فماذا ستتركُ للبشريَّةِ؟
فانظر إلى همَّتِه في طلبِ الدنيا، وانظرْ إلى همَّتِك في طلبِ الآخرةِ.