كبائر في الحدائق الخلفيّة!
أحمد بن عبد المحسن العساف
ويرى الغرب القوي رافع دعاوى الحقوق، أنَّ العالم الضّعيف حديقة خلفيّة له، يفعل فيه كل ما تحظره القوانين الدوليّة
- التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -
الوقوف على الحقيقة مؤلم أحيانًا، لكنّه أفضل من دفن الرّأس في التّراب، فالحقيقة فاعلة سواء انكشفت أم استمرت خفيّة، والتّعامل المبكر مع أيّ إشكال أسهل من تأخيره كي لا يتعاظم، ويكون من مضاعفاته ما هو أسوأ منه.
وبين يدي الإصدار رقم (257) من مركز البيان للبحوث والدّراسات، وعنوانه: الحدائق الخلفيّة: شرح ميسّر لطبيعة العلاقات بين دول العالم وأسرارها من خلال مئات الأمثلة والحكايات، تأليف الكاتب السّياسي أحمد فهمي، وتقع طبعته الأولى الصّادرة عام 1439=2018م في (253) صفحة، من القطع المتوسط، على ورق هادئ لا يتعب العين.
يتكون الكتاب الماتع المحزن(!) من مقدّمة، ثم ستّة فصول، ويعقبها قائمة بالمراجع، فالفهرس. ويشير الأستاذ فهمي في المقدّمة إلى أهمية المعلومات في العمل السّياسي والاستخباراتي، ويعترف بصعوبة الإفادة من المعلومات لسببين متقابلين هما: ليست كلّ المعلومات منشورة، والمنشور منها ضخم متعب للباحث!
ويقسّم الكاتب المعلومات المتداولة إلى ثلاثة أقسام، معلومات المسرح وهي متداولة، ومعلومات الكواليس وهي مخفاة قد تظهر موضّحة جزءاً من الحقيقة، ومعلومات ما بعد الكواليس وهي محجوبة بحرص بالغ، وغالبًا تموت مع أصحابها، وانكشافها يزيل الحجب تمامًا عن الرّواية الكاملة للأحداث.
ولأنَّ السّياسة متداخلة مع حياة النّاس لدرجة التّساهل في فهمها، ومتشابكة مع شؤون كثيرة جلبت لها الصّعوبة والتّعقيد، سعى المؤلف المبدع إلى تقريب فهم السّياسة؛ فهي لا تفهم إلا برؤيتها متحركة متفاعلة، وانتقى أمثلة تجلّي صورة العلاقات الدوليّة، عازمًا على إصدار سلسلة متتابعة، استهلّها بكتابنا هذا، الذي يزيل الغبش عن موضوعات التبعيّة، والنّظام العالمي، والله يعينه على البقيّة.
يهتم الفصل الأول بتأصيل المفاهيم نظريًا، فالحديقة الخلفيّة مكان يفعل فيه النّاس ما لا يجرؤون عليه في الحدائق الأماميّة؛ كي لا يراهم الآخرون، واستخدم سياسيًا في أمريكا لوصف دول أمريكا اللاتينيّة بالنّسبة لواشنطن، ثم تجاوز القارة الأمريكيّة ليشمل العالم كلّه. ومن أسف أنّ جلّ بلاد المسلمين واقعة تحت عبء هذا المصطلح، فمقلّ ومستكثر.
ويرى الغرب القوي رافع دعاوى الحقوق، أنَّ العالم الضّعيف حديقة خلفيّة له، يفعل فيه كل ما تحظره القوانين الدوليّة، ويطلق اليد فيه لديكتاتوريات شرسة تمهد الأرض لعبث العالم القوي دونما حسيب، كما يتخذ الغرب من هذه الحدائق مناطق خدميّة، فيسلب ثرواتها، ويجعلها مكبّاً لنفاياته، وحقلًا لتجاربه الطبيّة والعسكريّة، وسوقًا استهلاكيّة لمنتجاته، ومنجمًا لليد العاملة الرّخيصة المقيمة أو المهاجرة.
ولا يرى الغرب النّصراني الأبيض بأسًا في ذلك البتة، وله تاريخ قبيح من الاحتلال، والإبادة، والنّهب، ويتكئ على أساطيردينيّة، أو نظريات اقتصاديّة، أو اجتماعيّة، لبعض المفكرين أو الملحدين، مثل مالتوس الذي يرى أنّ الزّيادة السّكانية شر لا مناص من تقليصه بأيّ طريقة! ومثل داروين وسبنسر المتشاركين في إثم نظرية البقاء للأصلح، والأصلح هو الأقوى، يعني الغربي يبقى، وغيره لأجله يفنى!
وتعرض الفصول من الثّاني إلى الخامس، أمثلة ونماذج واقعيّة، متعلقة بالتبعيّة للنّظام الرّأسمالي، ويدرس الفصل السّادس واقعة تحويل دولة عربيّة، وإعادة هيكلتها لتصبح حديقة خلفيّة، بكلّ ما يتضمن ذلك من هدم وإعادة بناء؛ كي تكون نموذجًا لمن حولها. وأتمنى أن يجد الكتاب طريقًا سلسًا لأيدي دارسي السّياسة، وممارسيها، والمهتمين بها؛ وما أكثرهم.
ويكشف الكتاب حيل القوي، ووسائله المباشرة وغير المباشرة، والمؤسسات والقطاعات التي ينفذ من خلالها، ويحافظ على حضوره، ويمسك من خلالها خيوط التّأثير والتّوجيه، كما يعري غفلة أو خيانة أناس، وكيانات، وطوائف، وأقليّات، لدينهم، وبلادهم، وبني جلدتهم، وما أعسر الحساب!
ولا يكتفي ساسة الغرب باستخدام زعماء الحدائق الخلفيّة؛ بل يتغلغلون في جميع النّواحي، حيث ينشطون في الرّياضة، والفن، والسّينما، والمسرح، والاقتصاد، والجامعات، والقطاع العسكري، والعمل الاجتماعي، والخيري، والبحثي، ولربّما أنّهم لم يتركوا شيئًا يوصلهم لمبتغاهم لم يلجوا من خلاله.
ويكون الاستخدام بمكر لدرجة أنّه يخفى على المستخدَم المسكين أحيانًا، وقد يبلغ بعض العملاء مستوى من الاحتراف الذي لا يشرّف، فيبعدوا الشّك عنهم، ولا يحوم حولهم ظنّ ولا تأكيد بشري أبدًا، وبالمقابل لا يجد البعض حرجًا من التّصريح بتبعيته، والاعتراف بأنّه دمية بيد الأقوياء، يتلاعبون بها ذات اليمين أو ذات اليسار.
ومن القصص التي تبين مكر الغرب، وطول نفسه، وغفلة العرب أو تبعيتهم، أنّ أمريكا أرادت دعم المنشق النّصراني جون قرنق بالسّلاح، ولكن منعها علاقتها الوثيقة بجعفر النّميري من فعل ذلك مباشرة، فاقترحت على الأخير تدريب معارضين لحكم معمّر القذّافي؛ كي يتسلّلوا إلى ليبيا ويقاوموا نظام معمّر، ففعل النّميري بمشاركة أمريكيّة خفيّة، ثمّ سربت الخبر للقذافي استخباراتيًا، فلما قبض عليهم استشاط غضبًا، وقرّر إمداد قرنق بالسّلاح الذي اشتراه بكميات هائلة من مصانع الشّرق والغرب!
وليس الشّأن أن نعرف فقط، بل يتلوه سؤال حاسم، فهل لدى حكومات المسلمين على وجه الخصوص، رغبة صادقة في تحرير بلدانهم من كونها حدائق خلفيّة لقوى غاشمة أو محتل سابق؟ وأيّ فائدة من حكومة ترضى بهذا الخزي دون أن تحاول الانعتاق منه ولو بخطوات قصيرة؟ وأيّ معنى للاستقلال مادامت البلاد الإسلاميّة تابعة عن بعد؟
وأشنع من ذلك كلّه، أن تكون البلاد الضّعيفة، حجر عثرة أمام أكثرهم جديّة في الخلاص من هذا الوصف المهين؛ فلاهم نفعوا بلادهم، ولا أعانوا غيرهم على الحريّة، ولا تركوا الإضرار به على أقلّ تقدير، مع أنَّ نجاة أيّ عضو من هذا المأزق، وخروجه من نادي الذّل، سيكون تقدمة لهم؛ كي يسلكوا ذات الطّريق، فأمامهم زميل سابق معين مستقر مستقل!
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرّياض
مدونة أحمد بن عبد المحسن العسَّاف