ومضات تربوية وسلوكية:المقال الخامس
إن الشهرة سراب زائف. إنها مثل «المستقبل» الذي يركض وراءه الناس كلهم فلا يصلون إليه أبدا، لأنهم إن وصلوا إليه صار «حاضرا» وعادوا يفتشون عن مستقبل آخر يعدون إليه، كحزمة الحشيش المربوطة برأس الفرس، يسعى ليدركها وهي تسعى معه أبدا!
بسم الله الرحمن الرحيم
تذخر بطون الكتب بالعديد من الأفكار الذهبية والعبارات المحورية الجديرة برصدها وتدوينها للوقوف على كنوز مفكرينا وكُتابنا العظام، وللانتفاع بالفائدة المرجوة منها، ولذلك حرصت خلال جولتي بين دفوف الكتب أن أرصد هذه الثروات الفكرية والتربوية والتحليلية، وأنقلها بنصها كما وردت فيها أو باختصار طفيف في بعض الأحيان، هذا كي يستفيد منها القاسي والداني، سائلا المولى عز وجل أن ينفع بها الكبير والصغير، وأن يكتب لكاتبها وجامعها وقارئها الأجر والمثوبة إنه نعم المولى ونعم النصير.
(طاووس بن كيسان)
كان طاووس بن كيسان من سادة التابعين في اليمن، مات بمكة حاجاً فحمل نعشه عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وبعث هشام بن عبد الملك ولي عهده حرساً في موكب جنازته، ولم يعلم بموته أحد من الحجاج إلا سار في موكبه، حتى لقد سقطت قلنسوة عبد الله بن الحسن، وتقطَّع رداؤه وهو يحمل النعش؛ لشدة الزحام.
ومن أقوال طاووس:
- لكل شيءٍ غاية، وغاية المرء حسن عقله. 14/180.
- لا يتم نسك الشاب حتى يتزوج. 14/180.
- حج طاووس فخرج على القافلة التي هو فيها أسد أزعجها طول الليل فلم ينم من أهلها أحد، فلمَّا زال عنهم الخطر ساعة الفجر ناموا كلهم وقام طاووس يصلي ويتهجد، فقيل له لقد بت الليلة متعباً فهلاَّ تنام ؟ فقال: هذه ساعة ما كنت أحسب أن أحداً ينام عنها ولو أوتي بها مثل جبل أبي قبيس ذهباً. 14/183. [كتاب (الحديقة)، تأليف العلامة محب الدين الخطيب]
(الصحابة رضوان الله عليهم)
أترون الصحابة الذين قتلوا قبل الفتوحات وقبل الجهاد، هل ينقص من أجورهم ومنازلهم عن الذين شهدوا ذلك؟ بل ربما سبقوهم، ألم يقل عبد الرحمن بن عوف -وهو أحد العشرة المبشرون بالجنة- «مات مصعب بن عمير وهو خير مني» رضي الله عنهم قال ذلك وشهد له بالخيرية عليه ومصعب رضي الله عنه لم يشهد الفتوح التي فتحت وإن كان رضي الله عنه سببا لفتح المدينة بالقرآن وبالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والعلم والحلم والصبر حتى دخلت بيوت الأنصار في الإسلام بفضل الله ثم دعوته رضي الله عنه، وأسلم على يديه من أسلم تمهيدا لهجرة النبي صلى الله عليه وسلم، كانت أسس وضعت لبناء هذا المجتمع والذي ترتب عليه بعد ذلك كل الخير الذي ملأ المشارق والمغارب.
يثاب مصعب رضي الله عنه عن إسلام كل واحد منا، كما يثاب كل واحد من الصحابة رضي الله عنهم وهو لم يشهد شيئا من ذلك، ولكنه بذل ما يقدر عليه رضي الله عنه، وهكذا ياسر وسمية رضي الله عنهما رغم أنهما لم يشهدا حتى الهجرة ولكنهما كانا في نوعية الإيمان الذي كان في قلبيهما نوعية نادرة فريدة لا يكاد يوجد مثلها مع أن غيرهما ربما كان أسبق بكثير من الأعمال، ولكن هؤلاء كانوا أسبق بنوعية الإيمان وكيفيته.
قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «أنتم أكثر صياما وأكثر صلاة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم كانوا أفضل منكم» قالوا: ولماذا يا أبا عبد الرحمن؟ قال: «هم كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة» [منطلقات الدعوة إلى الله، ياسر برهامي، دار الفتح الإسلامي، ص 130]
(التبرير)
إن أكبر المصائب أن يصاب الفرد بنفسه وأن يلقي التبعة دائما على غيره، ويعلق أخطاءه على مشجب الآخرين، وهذا يريحه من تأنيب الضمير وعتب العاتبين، ومن أكبر المصائب أن نبرر أخطائنا ولا نعترف بها، نبررها بأسباب سطحية تافهة، ونسوغ ما نحن فيه ولا نعترف بعجزنا، ونلجأ إلى خداع النفس لكي تتهرب من الواقع. ومن المصائب أننا لا نبحث أمورنا بشكل جدي، بل نبحثها على مستوى السمر والتسلية وهو مرض استسهال الأمور.[المسئولية، د. محمد أمين المصري، دار الأرقم- برمنجهام- بريطانيا، ص 9]
(سراب الشهرة)
إن الشهرة سراب زائف. إنها مثل «المستقبل» الذي يركض وراءه الناس كلهم فلا يصلون إليه أبدا، لأنهم إن وصلوا إليه صار «حاضرا» وعادوا يفتشون عن مستقبل آخر يعدون إليه، كحزمة الحشيش المربوطة برأس الفرس، يسعى ليدركها وهي تسعى معه أبدا!
إنني أقول هذا من أعماق قلبي مؤمنا به، ولقد مر علي زمان كان أحلى أماني فيه أن أسير فيشير إلي الناس بالأيدي يقولون: «هذا على الطنطاوي»، وأن أعلو خطيبا كل منبر، وأن أجد أسمي في كل صحيفة، وكان قلبي يتفتح للجمال ويستشرف للحب، فلما جربت هذا كله وذقت لذته صار كل ما أرجوه أن أتوارى عن الناس وأن أمشي بينهم فلا يعرفني منهم أحد.
لقد مر بي أكثر العمر، ورأيت الحياة ونلت لذاتها وجرعت آلامها. لم تبق متعة إلا استمتعت بها، فلا اللذائذ دامت ولا الآلام، ولا الشهرة أفادت ولا الجاه.
ولقد شهدت حربين عالميتين، ورأيت تعاقب الدول على الشام من العثمانيين إلى الفرنسيين إلى من جاء بعد، ومن قام ومن قعد، ومن أتى ومن ذهب، ولو أردت الوزارة وسلكت طريقها لبلغتها من زمان كما بلغها من مشي على إثري في الدراسة وفي الحياة، ولو شئت لكنت من المشايخ الذين تقبل أيديهم ثم تملأ بالمال، فيملكون الضياع والسيارات ويصيرون –بحرفة الدين- من كبار أبناء البلد!
ولكني ما وجدت شيئا يدوم. تذهب الوزارة فلا تترك إلا حسرة في نفوس أصحابها، ويصحو الناس فيعلمون أن الذي يأكل الدنيا بالدين لا يمكن أن يكون من الصالحين المصلحين.. فزهدت في المناصب والمراتب والمشيخات، وهانت علي وصغرت في عيني، ولم يبق لي من دنياي الآن إلا مطلب واحد: يقظة قلب أدرك بها حقائق الوجود وغاية الحياة وأستعد بها لما بعد الموت. [من حديث النفس، على الطنطاوي، ص 275-276]
د/ خالد سعد النجار
- التصنيف: