ومضات تربوية وسلوكية: الثاني عشر
أما المرح المجنون الذي تغرق فيه الجاهلية المعاصرة في لحظات «الانفلات» في المراقص والملاهي والحانات وعلب الليل فليس دليلا على السعادة، بل هو أحرى أن يكون دليلا على فقدانها، ومحاولة التعويض المفتعل عن الخواء النفسي الناشئ من فقدانها.
تذخر بطون الكتب بالعديد من الأفكار الذهبية والعبارات المحورية الجديرة برصدها وتدوينها للوقوف على كنوز مفكرينا وكُتابنا العظام، وللانتفاع بالفائدة المرجوة منها، ولذلك حرصت خلال جولتي بين دفوف الكتب أن أرصد هذه الثروات الفكرية والتربوية والتحليلية، وأنقلها بنصها كما وردت فيها أو باختصار طفيف في بعض الأحيان، هذا كي يستفيد منها القاسي والداني، سائلا المولى عز وجل أن ينفع بها الكبير والصغير، وأن يكتب لكاتبها وجامعها وقارئها الأجر والمثوبة إنه نعم المولى ونعم النصير.
(الجاهلية المعاصرة)
ولعلنا لا نحتاج أن نقول إن الجاهلية المعاصرة برغم كل أدوات التمكين المتاحة لها من القوة الحربية والقوة السياسية والقوة المادية والقوة الاقتصادية والقوة العلمية .. تفتقد الطمأنينة، وتفتقد السعادة التي ينشدها الإنسان في حياته. والخمر والمخدرات والجريمة وحدها دليل على فقدان السعادة والطمأنينة. فضلا عن القلق والانتحار والجنون والأمراض النفسية والعصبية، فالحمر -ومثلها المخدرات- محاولة للهروب من الواقع. فلماذا يسعى الناس للهروب من واقعهم لو كانوا سعداء به؟! والجريمة لون من الشعور المرضي نحو المجتمع، يعبر عن عدم الرضا عن هذا المجتمع .. فلماذا تنتشر الجريمة وتزداد نسبتها؟
أما المرح المجنون الذي تغرق فيه الجاهلية المعاصرة في لحظات «الانفلات» في المراقص والملاهي والحانات وعلب الليل فليس دليلا على السعادة، بل هو أحرى أن يكون دليلا على فقدانها، ومحاولة التعويض المفتعل عن الخواء النفسي الناشئ من فقدانها.
وهذه هي الصورة الكالحة للجاهلية، التي تعجز عن إخفائها المصانع الضخمة، والإنتاج المادي الكبير، والصواريخ الذاهبة إلى القمر أو إلى المريخ.[رؤية إسلامية لأحوال العالم المعاصر، محمد قطب، مكتبة السنة / القاهرة ص 62]
(بين التربية القديمة والحديثة)
النقطة الهامة التي تفارق فيها التربية الحديثة التربية القديمة هي إثارة الاهتمام لدى الطفل، ولكن إثارة الاهتمام هذه تختلف في التربية القديمة عنها في التربية الحديثة. إن التربية الحديثة تعترف بأن الطفل آخذ متلق، ولكنها في الحين نفسه تؤكد أنه كائن حي نشط فعال، والحياة أهم سماتها قدرة الكائن الحي على تلبية دواعي بيئته. فالحياة تنطوي على هذه التلبية، أي على النشاط والفاعلية. وهكذا كان الطفل كائنا حيا فاعلا ناشطا، وهذان المعنيان يتقابلان: أولهما يجعل الطفل كالوعاء يجب ملؤه. وثانيهما يجعل الطفل هو الذي يمارس العمل، وهو الذي ينشط للعمل.
التربية القديمة تعني باهتمام الطفل، ولكنها تعني به في سبيل الأخذ، وفي سبيل التلقي، ثم إنها تحاول استشارة اهتمامه بدافع خارجي لا داخلي، فهي تريد منه أن يهتم ولكن اهتمامه منصب على أخذ المعلومات ودراسة الكتب والتلقي، واستشارة هذا الاهتمام تتم بدافع خارجي وهو الجوائز والحصول على الدرجات العالية، فإذا انقطع الدافع الخارجي انقطع الاهتمام لأن الصلة التي تربط الاهتمام بدافعه ليست صلة وثيقة.
أما التربية الحديثة فتحاول أن تجعل الاهتمام في العمل نفسه والدافع إليه دافعا غريزيا فطريا، وبذلك يعتاد الطفل على أن يجد اللذة بالعمل نفسه.
والبون شاسع بين هذا وذاك، ذاك لا يحب العمل ولكنه يحب الجائزة والعمل ثقيل عليه، ولكنه يهون ثقله على نفسه بتصور الجائزة وتصور النتائج التي تترتب على نجاحه، والثاني كما قال «كلا باريد» لا يترك ليعمل ما يحب، ولكن الأسباب تهيأ له ليحب ما يحمل.
التربية الحديثة –بتعبير موجز- تحاول لأن تكون لدى الإنسان حب العمل للعمل نفسه، والتربية القديمة تحتال لإيجاد الدوافع لحب العمل. لا لذاته بل لثمرته ونتائجه، وقد أطلعتنا التجارب بأن هذه الثمرات وهذه النتائج حين تنقطع ينقطع التعلق بالعمل.
هذه النقطة هي نقطة تحول بين التربية الحديثة والتربية القديمة. غرض التربية القديمة: المعلومات، وغرض التربية الحديثة: تكوين الطفل تكوينا قويا صحيحا، وتدريبه على ممارسة المشكلات ومحاولة التغلب عليها، وتدريب الطفل على مواجهتها وحلها، وسيجد الطفل أمام مشكلة من المشكلات أنه بحاجة إلى العلم
في هذه التربية يوضع الطفل أمام المشكلة فيلجأ إلى العلم فيجد العلم قد حل له مشكلته، وفي التربية القديمة لا يوضع أمام مشكلة ولكنه يوضع أمام العلم ذهابا إلى أن العلم يحل المشكلات.
ولكن الفرق كبير بين الحالين: حال طفل قد استعمل العلم في حل المشكلة، وحال طفل قد حفظ العلم فحسب. في الحالة الأولى يشعر الطفل شعورا واضحا بقيمة العلم وفائدته، وحله للمشكلة فيقدر العلم، وكل هذا يؤدي إلى تفاعل ما تفعله مع نفسه، بمعنى أن الفكرة ترسخ وتثبت ويؤمن بها، وتصبح جزءا من نفسه، ثم إنه يحسن تطبيقها في مناسبة أخرى عندما تعترضه مشكلة أخرى وكل هذ مفقود في الطريقة الثانية.
ومما سبق يمكن أن ننتهي إلى أن التربية القديمة كان غرضها أن يكون لدى الطالب اطلاع واسع على موضوعات كثيرة، وأن يكون قد حفظ من هذه الموضوعات علوما شتى، فهو معروف بغزارة علمه، ووفرة المادة وسعة الاطلاع، فإذا تكلم انهمر كالسيل في أي موضوع وضعته بين يديه، والوسيلة لذلك تبسيط المعلومات بالنسبة للطالب، وتصنيفها وحسن عرضها، وإغراء الطالب بشتى المغريات ليقبل على الدراسة ويختزن في ذاكرته أكبر كمية ممكنة.
أما التربية الحديثة فليس هذا همها، ولكن همها أن تنمي عند الطالب ملكة مواجهة المشكلات وإلقاء الطالب بنفسه في خضمها، والمغامرة في سبيل إيجاد سبل الحل لها، والعمل على تنفيذ ذلك.
إن الطالب الذي نشئ على التربية الحديثة ذو فكر مبتكر وعق مخترع، وغن رجل التربية القديمة محزن علم، وهو شبيه بمن درس أنواع العمليات الحربية دون أن يدخل حربا، ومن قضى ردحا من عمره بين كتب العمليات الحربية، أتراه حينما يدخل ميدان الحرب لأول مرة بذخائر من النظريات، يستطيع النجاح كمن دخل مئات العمليات؟
إن التدريب على مواجهة المشكلات يحتاج إلى مهارة جديدة غير مهارة الحفظ، ذلك أن حفظ المعلومات لا يعني أبدا استخدامها في مواطن الضرورة.
هذه هي النقطة التي تفرق بين الاتجاهين من التربية، التربية القديمة تحسب المعلومات، وحفظها كاف للنجاح في ميادين العمل، والتربية الحديثة تدرب الطفل منذ نعومة أظفاره على العمل في الميدان وتخلق منه إنسانا همه مواجهة المشكلات في كل حين. [المسئولية، د. محمد أمين المصري، دار الأرقم- برمنجهام- بريطانيا، ص 102-110]
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
- التصنيف: