قمح على رؤوس الجبال !
وجسَّد صلى الله عليه وسلم أرقى نموذج لرعاية الحيوان والإحسان إليه، فانكب الفقهاء من بعده على تحديد واجبات المسلم إزاء الدابة والطير ونحوها، وفصلوا في الأمر تفصيلا لم تسبق إليه حضارة أخرى.
من المواقف المنسوبة إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز أنه لما جيء إليه بأموال الزكاة أمر بإنفاقها على الفقراء، فقالوا: ما عاد في الأمة فقراء. فأمر بتجهيز الجيش، و تزويج الشباب، ثم قضاء الدين على المدينين. ولما بقي مال قال: اشتروا به قمحا وانثروه على رؤوس الجبال، لكي لا يقال: جاع طير في بلاد المسلمين !
سواء صحت هذه الرواية أم لا فإن لعمر بن عبد العزيز مواقف شتى مع الحيوان في فترة حكمه.
غير أن ما يعنينا في هذه الأسطر المعدودة أن ذاك الموقف يؤخذ كمحصلة عجيبة للعدل الذي شاع في عهده، و للثروات التي تدفقت على بيت المال، وجرى توزيعها بشفافية نادرة همت حتى دواب البريد.
لكن خلف الاندهاش تستقر حقيقة غابت للأسف الشديد عن أذهان كثير من المسلمين، وهي أن نصوص الكتاب والسنة أرست دعائم تصور جديد لعلاقة المسلم بما حوله من الموجودات. وأن التعبير القرآني قد عرض لحقائق وإشارات تستدعي التدبر، كي يدرك المرء أن السلوك العمري تجل فريد لما ينبغي أن يكون عليه كافة المسلمين .
شكل نزول الوحي مرحلة جديدة للقطع مع قراءة سالفة، لا قيمة فيها للحيوان سوى ما يؤديه من خدمة للإنسان غير مشكور عليها. فتوالت الآيات التي تعيد للكائنات اعتبارها، وتنص على ما يقتضيه التسخير والتكريم من إحسان ورعاية، ومعاملة قوامها التخفيف والرفق.
إن اندراج الحيوان في المنظومة الحياتية للمسلم عبر عنه القرآن الكريم والهدي النبوي ضمن خطوط ثلاثة هي : نعمة التسخير، ووظيفة التسبيح، وضرورة الرفق.
في نعمة التسخير يحدد القرآن المقصد من وراء تمتيع الإنسان بموجودات أخرى، فهو أحد تجليات التكريم الإلهي لابن آدم، وتهيئة الوسائل التي تضمن أداءه مهمة الاستخلاف وإعمار الأرض على أكمل وجه. يقول تعالى: ( {والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون. ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون. وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم. والخيل والبغال الحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون} ) [النحل.5-8] .
ويقول جل جلاله: ( {خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها. وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون} ) [الزمر-6-] وتأمل كيف زاوج سبحانه في الآية بين خلق الإنسان وإنزال الأنعام، ليتحرر عقل المسلم ووجدانه من رواسب التملك الجاهلي للحيوان، وما يفضي إليه من سلوكات جائرة.
وأما وظيفة التسبيح فيحيل إليها التعبير القرآني على عالم الحيوان بلفظ "أمم"، وذلك في قوله تعالى: ( {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم. ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون} ) [الأنعام-39] . يقول القرطبي مفسرا: هم جماعات مثلكم في أن الله عز وجل خلقهم، وتكفل بأرزاقهم، وعدل عليهم. فلا ينبغي أن تظلموهم، ولا تجاوزوا فيهم ما أمرتم به. وقيل : هم أمثال لنا في التسبيح. وتتأكد هذه الوظيفة التعبدية في قوله تعالى: ( {يسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن. وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا} ) [الإسراء- 44] . ومتى استشعر المسلم هذا القاسم المشترك فإنه سيوجه جزءا من اهتمامه للرعاية والإحسان، والتماس الأجر والثواب نظير المعاملة الحسنة.
نتج عن الفهم السديد لنعمة التسخير ووظيفة التسبيح إرساء وطيد لمنظومة من الحقوق التي سيتمتع بها الحيوان منذ عصر النبوة. وتزخر كتب الحديث والسيرة بعشرات المواقف التي هذب من خلالها النبي صلى الله عليه وسلم سلوك المسلمين إزاء الحيوان، وحض على نبذ عوائد الجاهلية.
عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فانطلق لحاجته.
فرأينا حُمّرة معها فرخان فأخدنا فرخيها، فجاءت الحُمرة فجعلت تفرش، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " «من فجع هذه بولديها؟ ردوا ولديها إليها» ". [رواه أبوداود في كتاب الجهاد-2675-]
وفي المستدرك أنه صلى الله عليه وسلم «رأى رجلا قد أضجع شاة وهو يحد شفرته فقال: أتريد أن تميتها موتتين؟ هلا أحددت شفرتك قبل أن تُضجعها» . [-7626-]
واتخذ الهدي النبوي من المنهيات أسلوبا لإشاعة ضرورة الرفق في الواقع اليومي، فنهى عن اتخاذ شيء فيه الروح غرضا للنبال والحجارة، أو تعذيبه بالنار، أو وسمه في الوجه. وفي باب الترغيب و الترهيب عرض النبي صلى الله عليه وسلم لنماذج من المعاملة التي قادت إلى الثواب أو العقاب، كما في خبر المرأة التي دخلت النار في هرة حبستها، والرجل الذي غفر الله له لأجل كلب سقاه.
وجسَّد صلى الله عليه وسلم أرقى نموذج لرعاية الحيوان والإحسان إليه، فانكب الفقهاء من بعده على تحديد واجبات المسلم إزاء الدابة والطير ونحوها، وفصلوا في الأمر تفصيلا لم تسبق إليه حضارة أخرى.
تكشف الخطوط الثلاثة أعلاه عن تهافت خطاب الرفق بالحيوان، كما يتردد في وسائل الإعلام الغربية. لأن هذا الأخير تعبير عن أزمة ووضع كارثي قاد إليه غرور الإنسان المعاصر، وهوسه بالعنف والسيطرة على الطبيعة. فهل يستوي في هذا المقام موقف عمر بن عبد العزيز وهو يوجه رسالة إلى والي مصر، تمنع الحمالين أن يحملوا على ظهور الإبل فوق ما تطيق، مع موقف عالم الاجتماع الأمريكي إيريك هوفر الذي قتل أزيد من نصف مليون حيوان بري في روديسيا بحجة مكافحة ذبابة النوم ؟
- التصنيف: