الثورات العربية غزارة طاقات.. وشح قيادات.. وفرصة لوذعي..

منذ 2011-07-08

الأمة اليوم تنقبُ بين ثناياها عن علماء يأخذون على يد الأمراء ويأطرونهم على الحق أطرًا، ويوجهون الرأي العام لما فيه صلاحه في الدنيا وفلاحه في الآخرة كالعز بن عبد السلام -رحمه الله-، ذلك العالم الذي قلد لقب سلطان العلماء باستحقاق وجدارة..


بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

على مر التاريخ الإسلامي كان العلماء والدعاة وطلبة العلم هم من يتقدمون بالأمة في طريق نهضتها ورفعتها، هم من يحملون المشعل لينيروا لها الطريق، هم من يحركون ويستنهضون ويعبئون الشعوب في الأزمات ووقت الشدائد، هم من يقفون في مقدمة الصفوف عند مواجهة المخاطر والمصائب، هم من يثبتون عندما يتسلل الروع إلى قلوب الناس وتثبت بثباتهم الأمة، ولولا رحمة الله بهذه الأمة ثم بثبات علمائها لكانت أثرًا بعد عين؛ فقد مرت بها أزمات مدمرة وفتن كقطع الليل المظلم ومصائب وكوارث ما لو طرق غيرها من الأمم لأصبحت من التاريخ الغابر.

والملاحظ على الثورات الأخيرة التي لفت العالم العربي -من مغربه إلى مشرقه- بوشاحٍ من الأمل والتفاؤل؛ هو أن الشعوب لديها مخزون هائل لا مُنتهي من الطاقة -بل من الحمم البركانية المكبوتة- ما لو استثمر استثمارًا جيدًا وتُرك ينساب انسيابًا سلسًا عبر مساره الشرعي لأذاب كل أوضار التخلف والانحراف، ولصهر كل أغلال الظلم والجور، ولانتج من التطور والرقي بساتين خضراء مثمرة، ولانبت من العزة والكرامة والعدل ما لا عين مفكر رأت ولا أذن مثقف سمعت ولا خطر على قلب سياسي.


هذا على مستوى الشعوب أما على مستوى القيادات -التي من المفترض أن تكون هي من يستثمر ذلك الرصيد الشعبي الهائل ويوجه تلك العاطفة الدفاقة- فهناك فقر مدقع وخواء مقلق وشح مهلك وندرة غريبة؛ ولو أنك بحثت وفتشت في البلاد العربية المترامية الأطراف عن قيادات حقيقية على قدر ومستوى الأحداث لأصبت بخيبة أمل وانكسار طرف وذبول همة وكأنك تبحث عن الكبريت الأحمر.

سبب رئيس من أسباب ندرة هذه القيادات واختفائها هو التصفية الممنهجة بكل اصنافها وألوانها لكل من يخرج رأسه من كهف الطاعة العمياء، وطاحونة الانبطاح الدائم، وساقية العبودية الأبدية؛ بمعنى آخر جميع خطوط الإنتاج (إنتاج القيادات) في المجتمع خُرِّبت وأوقفت بقصدٍ وبغير قصدٍ، لأن القيادة صناعة وما أعظمها من صناعة تنتقي لها الخامات الجيدة وتصنع لها الآلات الراقية وتُشيد لها خطوط الإنتاج المتميزة، وخير الصناعات صنعُ الرجالَ فهم أساس نهضتنا والعماد على الدين والعلم تبني النفوس وبالجد صرحُ المعالي يشاد.

والمنصفون يعلمون جيدًا أن الأكثر قدرة على تشييد هذه الصروح الكبيرة وقيادة هذه الأمة الحرة هم أهل العلم الربانيين؛ خاصة بعد أن رفع الساسة أيديهم عنها منذُ زمنٍ بعيد، وغسلت هي يديها منهم، بل إن بعضهم أصبح خنجرًا مسمومًا يطعنها من الأمام ومن الخلف.

والواقع أن الأمة اليوم بحاجة ماسة إلى ذلك العالم الألمعي الذي يتميز إلى جانب العدالة والصلاح والعلم بدراية دقيقة لكليات الشريعة ومقاصدها؛ وفقه للواقع ودهاليزه؛ ويتحلى بعقلية إدارية فذة وحنكة سياسية جزلة.


الأمة اليوم بحاجة ملحة لأولئك العلماء الذين يعيشون همومها، ويتحسسون آلامها، ويضمدون جراحها، ويسعون بكل خفقة قلب ونبضة عرق لسعادتها وفلاحها، الأمة اليوم تفتش بلهف وحسرة بين فلذات كبدها عن أمثال "شيخ الإسلام ابن تيمية"؛ ذلك العالم الفذ الذي تجلت فيه الكثير من صفات القيادة، فهو عالم في تأصيل المسائل العلمية والعملية الدقيقة والجلية، ونبراس في معرفة مكنونات النفس وأعمال القلوب وخفايا الذوات ودقائق الشهوات، وشامة في مجال الإنكار على الأمراء والولاة والقضاة، وغصة في حلوق الزنادقة والمبتدعة وجميع الفرق الضالة. تبحث عنه في رواق السياسية فتبصره يقف على ناصيته، وتسأل عنه في ساحة الوغى فلا تراه إلا في مقدمة الصفوف يحرض الناس على المشاركة في وقعة شقحب الفاصلة، بل يقود الجيوش والمعارك كما في واقعة جبل كسروان، صاحب نظرة ثاقبة في تحليل واقع عصره وشجاعة نادرة في التعامل مع ذلك الواقع، إن نزلت بالمسلمين نازلة أو مدلهمة رأيت الأعناق مشرئبة إليه والأقلام مستعدة لكتابة ما يمليه، يضرب به المثل في العفة والزهد والورع والتخفف من الدنيا والبعد عن المناصب والعطايا، مؤلفاته وكتبه بقيت على مر العصور مشعلاً يضيءُ للأمةِ كثيرًا من دروبِ النجاة.


الأمة اليوم تنقبُ بين ثناياها عن علماء يأخذون على يد الأمراء ويأطرونهم على الحق أطرًا، ويوجهون الرأي العام لما فيه صلاحه في الدنيا وفلاحه في الآخرة كالعز بن عبد السلام -رحمه الله-، ذلك العالم الذي قلد لقب سلطان العلماء باستحقاق وجدارة، فلله دره يوم وقف كالطود الشامخ على منبر المسجد الأموي وصدع بكلمة الحق في وجه السلطان الصالح إسماعيل الأيوبي عندما تحالف مع الصليبين وأراد تمكينهم من رقاب المسلمين في بعض البلاد، ولله دره يوم أن وظف رصيده الشعبي والعلمي وفعل سلاح الفتوى في سبيل رفع الاستبداد الداخلي من قبل الأمراء ودفع الاستبداد الخارجي من قبل الصليبين والتتار.

ولله دره يوم أن حفظ للعلم مكانتهُ وللعالم هيبتهُ، ورفض أن يكون من جوقة التسبيح بحمد الطغاة ومن فرقة التضليل باسم الدين؛ فخلع نفسه من منصبه في القضاء، وركب حماره ليرحل من مصرَ، فخرج خلفه الآلافُ من علماء مصر ومن صالحيها وتجارها ورجالها، بل خرجت النساء والصبيان خلفه تأييدًا له، وإنكارًا على مخالفيه؛ حتى أرغم الملك نجم الدين أيوب إلى اللحاق به واسترضائه، -اللهم جد علينا بأمثاله-.


الأمة اليوم بحاجة كبيرة لجبال راسخة من العلماء تثبتها في ميادين الجهاد، وفي ميادين العلم، وفي ميادين مقاومة التغريب، وفي ميادين النهوض والتطور، وفي ميادين الانكار والأخذ على يد الظالم، وفي ميادين الاصلاح.

وكم أحسست والله بنسيم العزة والسمو يداعب أحلامي كلما قرأت مواقف علمائنا الأفذاذ في هذا المضمار ومنهم: "محمد بن سعد الدين بن حسن التبريري" -رحمه الله-، فقد سجل له التاريخ بحروف باذخة من العز والشرف أنه كان بمعية السلطان "محمد الثالث" في موقعة "أكرى" خلال الحكم العثماني، فكرت جيوش الصليبيين المتحالفة بكل قضها وقضيها على جيش المسلمين، وضايقوهم بشدة إلى أن قاربوا مخيم السلطان الذي همَّ أن يتراجع، فقام الشيخ "سعد الدين" وأمسك بزمام حصان السلطان وحوَّل اتجاهه إلى جهة جيش العدو، بكل رباطة جأش، وقال للسلطان: "إنما نعيش لمثل هذا اليوم، نموت ولا نرى ذل الإسلام"، فكانت النتيجة نصرًا عظيمًا، اللهم أنزل غيثك على أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولا تحرمنا أمثال هؤلاء.

الأمة اليوم إن لم تسلك طريق « العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر»، -والعلم هنا هو العلم الذي يمشي على الأرض، هو العلم الذي يهتف بالعمل فأن أجابه وإلا ارتحل، قالت عائشة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: « كان خلقه القرآن» لا العلم المكدس في الجماجم والمكتبات -إن لم تسلك هذا الطريق فستسلك رغما عنها طريق « حتى إذا لم يجد الناس عالمًا اتخذوا رؤوسًا جهالاً فسألوهم فأفتوهم بغير علم فضلُّوا وأضلُّوا».


أظن أنه من حقنا أن نحلم بعمل مؤسساتي علمائي (يقوده أهل العلم) أو بمنظومة أو بعدة منظومات لأهل العلم والفكر والدعوة يجتمع تحت رايتها جل علماء ودعاة الأمة الربانيون -وهم موجودون في ثنايا وزوايا هذه الأمة غير أنهم متفرقون ومضيق عليهم ويفتقر بعضهم للإرادة القوية-؛ ولا شك أنهم لن يعدموا حيلة للاجتماع ولا ينقصهم مبرر لتولي زمام المبادرة .

ومما يضفي على حلمنا هذا روعة وجمالاً أن تكون هذه المنظومة منظومة احترافية تدار بأعلى مستويات الاتقان والجودة، يتبعها مراكز دراسات متخصصة في كل المجالات الاجتماعية والفكرية والسياسية والاقتصادية وحتى التقنية، وتستقطب العقول الفذة والأدمغة الملتهبة والخبرات النادرة، ويلحق بها كذلك معاهد وكليات لاستقطاب الطاقات وتربيتها لتكون قيادات علمية وفكرية وسياسية واقتصادية؛ ينتظمها جمعيًا العلم الشرعي المؤصل والتربية الإيمانية المعمقة، ويتبعها كذلك شبكة إعلامية متطورة تمتد أذرعها إلى كل بقعة في الأرض تخاطب جميع البشر بألسنتهم وأساليبهم ووسائلهم المشروعة، وتوجه الأمة نحو سعادتها وعزها وفلاحها في الدارين.

لا أظن أن هذا الحلم بعيد المنال صعب المرتقى لو وجد نفوسا رفيعة المصاعد شريفة المطالب سنية المراتب وهمما تذرى سنام المجد وترتقي صهوة العلى؛ خاصة وأن لبنات هذا المشروع قد صبت، ودعائمه قد أقيمت وهياكله قد سبكت، (عبر مئات الكيانات الدعوية القائمة)، ولم يبق إلا اخلاص النيات والتوكل على رب الأرض والسموات والشروع في البناء.


فيا علماء الأمة ويا دعاتها ماذا تنتظرون؟؟!!
الأمة كلها تستصرخكم وهي مكشوفة وبلا قيادة، وفي التاريخ منعطفات مصيرية من يهتبلها ويقتنصها في سبيل تحقيق غايته هو من ينحت على صفحاته المجد، ومجدكم هو نصرة هذا الدين وإعلاء كلمته.

المصدر: وليد وصل المغامسي
  • 0
  • 0
  • 1,521

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً