سيادة المبدأ الليبرالي أم الإسلامي؟ (نموذج تطبيقي)
وفي السؤال ثغرات عدة، لكن المقصود هنا إظهار المنظومة المستترة، وأن الإشكال ليس في طريق السلم أو العنف، بل في الإطار الكلي الحاكم الذي صار يحدد لنا أين يجب أن تكون الشريعة!
{بسم الله الرحمن الرحيم }
في الحلقة الأخيرة من حوار سيادة الأمة والشريعة تكرر هذا السؤال كثيراً:
هل نسلك في تحكيم الشريعة مسار التعاقد السلمي، أم التغلب؟
أستأذنكم أن نسحب هذا السؤال إلى باب المدخل الذي تكلمنا عنه بالأمس، فنجعله مثالاً تطبيقاً له.
المدخل يقول:
ليس هناك إرادة مطلقة للأمة، لا يوجد إرادة مفتوحة للأكثرية، الإرادة في كل النظم المعاصرة مقيدة بفلسفة أعلى منها، ليبرالية أو اشتراكية أو إسلامية أو غيرها.
فالنظم السياسية المعاصرة تضع قائمة طويلة من الحقوق والمفاهيم ملزمة للأكثرية، فإرادة المبدأ الليبرالي هو المسيطر هنا، وهي التي تنازع إرادة الشريعة، وأما إرادة الأمة فهي مقيدة على كل حال بمنظومة أعلى منها.
فالنزاع إذن ليس بين سيادة الأمة والشريعة، بل بين سيادة المبدأ الليبرالي وسيادة المبدأ الإسلامي، فأيهما له الحق بأن يكون قيداً ومنظومة عليا للأمة؟
نأتي على سؤال:
هل نحكم الشريعة بالعقد السلمي أو بالتغلب؟
ما هو العقد السلمي؟
هل عليه قيود؟
أم هو عقد مفتوح يجتمع الناس فيضعون ما يريدون ويشتهون وبإرادة حرة مفتوحة؟
طبعاً، عليه قيود كثيرة، وثم مفاهيم وأعراف والتزامات قانونية طويلة جداً لا يمكن أن يتجاوزها هذا العقد، بل إن عملية العقد هذه هي صورة خيالية، وأما الواقع فأنه ليس إلا تصويت للناس في نظام سياسي محدد ومفصل، وليس لهم إلا لزوم هذه الطريقة، ولا يمكن للناس أن يفكروا – مجرد تفكير – في مناقشة أو منازعة هذا الواقع.
فلا يمكن أن تزيل هذه المفاهيم أو تضيقها أو تصوغ شيئاً جديداً يخالفها عبر تداول سلمي، لأنها هي أساسات العقد، ولو تم انتهاك شيء من هذه المفاهيم فيجب إرجاعه ولو بالقوة والعنف لأنه حق طبيعي للشعوب لا يجوز المساس به.
حسناً، لماذا لا تكون أحكام الإسلام القطعية ضمن هذه القيود؟
لماذا لا تكون أحكام الإسلام الخالدة، التي نؤمن أنها هي العدل والخير والرحمة، وهي التي كانت حاكماً فعلياً طيلة قرون طويلة، وهذه بلادها وأهلها؟
الجواب، لأن العقد الليبرالي المعاصر لا يدخلها ضمن العقد السلمي.
فلو قال شخص: لنأت بالشريعة ونضعها ضمن العقد.
سيقال: هذا تغلب ولا يجوز لك أن تفتات على حق الأمة!
لماذا كان تغلباً؟
لماذا لم يكن هذا التصرف تصرفاً سلمياً؟
لماذا نقبل حدوداً كثيرة تقيد العقد ولا يمكن المساس بها ، ولا تكون الشريعة ضمنها؟
لماذا هناك مبادئ فوق دستورية، لا يصوت عليها ولا يمكن أن يجري عليها أي تغيير، وأما الشريعة فلا يمكن لها ذلك وليس هو من حقها؟
بكل بساطة:
لأن العقد مقيد ومؤطر بمفاهيم ليبرالية، فإذا فكرنا من داخل هذا العقل سنقول تقييد إرادة الناس بالشريعة هو عنف؟ ولا يمكن تحقيقه ولو بطريقة سلمية إلا عبر طريق واحد هو التصويت والانتخابات والإعلام وما يترتب عليه من منظومة طويلة.
فلو قلت: هل ممكن للناس في حال العقد أن يتفقوا على حرمان الأقلية من جزء يسير من الحقوق؟
سيصيح في وجهك لا، ولا يمكن، ولا يحق لك، وليس هو من ضمن العقد، والعقد لو قام به فهو عقد جائر.
أها،
أين ذهبت إذن تلك الأسئلة التي كانت توضع في وجه حكم الشريعة؟
لماذا لم يكن إدراج هذه المادة تغلباً؟
لماذا لا يجري عليها تداول سلمي لها كما يجري على الشريعة؟
من الذين سلب الأمة من حقها واستطاع أن يفرض عليها أن لا تفكر – مجرد تفكير – في مناقشة هذه القضية.
أرأيتم الآن:
فسؤال: مسار العنف، ومسار التغلب،
منطلق أساساً من محددات ليبرالية، فسَّرت لك ما هو مسار السلم، وفسَّرت لك ما هو مسار التغلب، وصارت تحدد لك ما يجب عليك أن تفعله، وما لا تفعله.
فلأن الشريعة لم تدخل ضمن القيود فليس لها إلا مسار السلم، ولا يحق لها القوة، ولو جاءت بغيرها فهو تغلب مرفوض، بل لا يمكن أن تطبق الشريعة إلا عبر هذه الطريقة، وأي طريقة حكمت بها الشريعة بغيرها فهو استبداد وتغلب في الحاضر والماضي والمستقبل.
وأما المنظومة الليبرالية فهي مقيدة للعقد ولا يقول أحد إن ذلك تغلب، ولا أن أخذه بالقوة تغلب، لأنه حق طبيعي.
فصورة المسألة أن سيادة الأمة ليس لها علاقة بالموضوع، والنزاع ليس مع سيادة الأمة.
الإشكال في السيادة التي تقيد الأمة وتوجهها وتعلو عليها، هل يكون هو المبدأ الليبرالي، وبالتالي فالعقد لا يمكن أن يتجاوزه، ولو أخذ منها فيجب إعادته ولو بالقوة، وأما الشريعة فشأنها شأن أي منظومة فكرية أخرى، إن حازت الأكثرية حكمت لأن الأكثرية أعطتها الشرعية، وإن لم تحز فلا شرعية لها، وإن ارتفعت دستورياً فيمكن أن تنخفض، والشرعية والطاعة والحكم والخضوع لهذا النظام الذي رفضها وأقصاها، فحقيقة هذا القول أن ثم نظاماً أعلى من نظام الشريعة لا بد أن تمر الشريعة من خلاله، فتقبل وترفض وتقيد بحسب هذا النظام.
بل وحتى لو حكم بالشريعة من خلال هذا الإطار فإنه لن يحكم بها إلا حسب شروط ومفاهيم من وضع لك هذا الإطار، لهذا تحكم الشريعة ويمكن أن تسقط، فهل من تحكيم الشريعة أن تجعل إسقاطها مشروعاً وممكناً وتجتمع له الدوافع وتهيأ له الظروف!
أو تكون السيادة للمبدأ الإسلامي، الذي يجعل أحكام الإسلام إطاراً كلياً لا يتجاوز، وللناس حرية واسعة في اختيار السلطة والنظام والقوانين ومراقبتها ومحاسبتها وكافة الضمانات السياسية والقانونية المعاصرة، مع ضرورة الاستفادة من كافة الوسائل والأدوات التي تحفظ الحقوق والعدل وتمنع الجور والتعدي، فالنزاع ليس في هذه الأدوات، إنما في الإطار الكلي الذي يقصي الشريعة.
فهنا محل الخلاف.
السيادة لأي المبادئ؟
وأما سيادة الأمة فهي مقيدة على كل حال.
وفي السؤال ثغرات عدة، لكن المقصود هنا إظهار المنظومة المستترة، وأن الإشكال ليس في طريق السلم أو العنف، بل في الإطار الكلي الحاكم الذي صار يحدد لنا أين يجب أن تكون الشريعة! يس هذا الموضوع ترفاً ولا هامشياً، هذه تصورات ومفاهيم شرعية ، الخلل فيها يتبعه قائمة طويلة من التأويلات والتحريفات للحريات والجهاد والحدود والمشروعية وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء والفتوحات وغيرها، فهذه الفكرة منتزعة من سياق ثقافي مختلف فالقبول بها لن يستقيم في الفكر إلا بعد تكسير متواصل لمفاهيم ونصوص شرعية عدة ترفض هذه المفاهيم الجديدة.
وتبقى فكرة نظرية لا تصلح واقعاً، ولا تحفظ شريعة.
- التصنيف:
- المصدر:
Ahmed Tayel
منذ