البخاري غير معصوم .. لكن كل ما في كتابه صحيح:2-2
ملفات متنوعة
وسمع هذا الكتاب من فم البخاري تسعون ألفاً من طلاب علم الحديث النبوي
- التصنيفات: الحديث وعلومه -
وهذا أوان بيان بعض هذه الحجج لمن كان يقدر الحجج قدرها، ويبني مواقفه على قوتها.
قال لنا البخاري إنه لم يدخل في كتابه هذا من الأحاديث إلا ما كان صحيحاً، بشروط الصحة الموضوعية المتفق عليها، والتي ذكرناها سابقاً.
ثم إن البخاري دفع بكتابه هذا الذي قضى في تأليفه وتنقيحه ست عشر سنة، إلى علماء جهابذة، منهم الإمام أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، فاستحسنوه وشهدوا له بالصحة، إلا أربعة أحاديث. قال العقيلي: والقول فيها قول البخاري، فهي صحيحة[6]، وسمع هذا الكتاب من فم البخاري تسعون ألفاً من طلاب علم الحديث النبوي[7]، والذين أثنوا على الكتاب وشهدوا له بإصابة الصواب، ومدحوا مصنفه وعظموه، لم يكونوا كما قد رأيت من عامة الناس، بلا ولا من عامة العلماء، وإنما كان “معظم من أثنى عليه ونشر مناقبه شيوخة الأعلام المبرزون، والحذاق المتقنون”[8]
إن احتمال أن يُخطيء البخاري أمر وارد ما في ذلك شك. أما أن يكون في كتابه خطأ لم يكتشفه أحد من تلك الآلاف المؤلفة من العلماء الجهابذة الأتقياء على مر العصور، ثم يعثر عليه شخص في زماننا هذا، فأمر لا يقول به عاقلٌ أمينٌ يعي ما يقول.
إن مثل احتمال اكتشاف خطأ جديد في كتاب الجامع الصحيح، كمثل احتمال وجود خطأ في مسألة حسابية، روجعت عدة مرات ووجدت صحيحة. هب أن أستاذاً كلف طالباً معروفاً بنجابته في الرياضيات أن يحل مسألة رياضية معقدة، فحلها الطالب، وراجع حله عدة مرات فلم يجد فيه خطأ، ثم جاء شخص من أمثال هؤلاء الموسوسين فقال للأستاذ كيف تأمن أن يكون هذا الحل صحيحاً؟ إنك وطالبك بشر غير معصومين فكيف تأمنون أن يكون حلكم لهذه المسألة هو الحل الصحيح؟ فشرح له الأستاذ كيف أنه وطالبه راجعا حلهما عدة مرات، ولذلك وثقا من صحته. لكن الرجل ظل مصراً على احتمال وجود الخطأ، فتناول الأستاذ آلة حاسبة، وحل بها المسألة أمامه، فجاءت النتيجة موافقة لحل الطالب. لكن الرجل أصر على احتمال وجود الخطأ حتى على الآلة الحاسبة بحجة أنها من صنع بشر غير معصوم!
إن الذي يصر على احتمال وجود الخطأ في كل عمل بشري مهما رُوجع، يلزمه إن كان مسلماً أن لا تكون له ثقة بهذه المصاحف التي بين أيدينا، فهي بالطبع لم تنزل علينا مكتوبة هكذا من السماء، وإنما نسخها بشر من أمثالنا، فما الذي جعلنا نثقة بها، ونجزم بأنه لا خطأ فيها؟ وثقنا بها لأننا نعلم أنه لا ينسخ المصحف إلا رجل حافظ للقرآن الكريم، بصير بقواعد الرسم العثماني، وأن المصحف لا يُنشر إلا بعد أن يراجعه مراجعة دقيقة عدد وافر من القراء المتقنين المختصين بمعرفة الرسم القرآني، ويزد ثقتنا أن العالم مليء بحمد الله تعالى بأمثال أولئك الحفاظ المتقنين الغيورين على كتاب الله تعالى. فعدم اعتراضهم عليها دليل على أنهم لم يجدوا فيها خطأ.
على أن خلو كتاب ما من الخطأ ليس قاصراً على كتاب البخاري، أو المصاحف القرآنية، بلا يتطلب حتى أن يكون المرء مسلماً، ودعك أن يكون معصوماً!
هب أن كاتباً غير مسلم مختصاً بعلم الفيزياء قرر أن يؤلف كتاباً يجمع فيه ما يُعد حقائق أصولية في هذا العلم، ولم يشترط على نفسه استيفاء كل هذه الدقائق، لكنه اشترط ألا يدخل في كتابه هذا إلا ما يعده أرباب هذا العلم حقائق مقطوعاً بصحتها، وألا يدخل فيه من هذه الحقائق الفيزيائية التجريبية القطعية الأصولية، إلا ما اطلع هو نفسه على أوراقه الأصلية التي كتبها العلماء الذين أثبتوا هذه الحقائق. وهب أنه بعد أن ألف كتابه هذا، دفع به إلى عدد من علماء الفيزياء المختصين في فروعها المتعددة، وأن هؤلاء المختصين وافقوه على أن كل ما أدخله في كتابه هو فعلاً مما يعدونه حقائق فيزيائية أصولية مقطوعاً بصحتها، إلا أن عدداً قليلاً منها قرر أن يخرجه من كتابه. وهب أنه بعد أن نشره كتابه هذا أثنى عليه عدد كبير من العلماء المختصين بفروع الفيزياء المختلفة، وأجمعوا على أنهم لم يجدوا فيه ما لا يعدونه حقيقة تجريبية قاطعة. فهل يسوغ بعد هذا لإنسان أن يقول إن الكتاب ربما كانت فيه أباطيل ظنها هذا المصنف من علم الفيزياء لأنه رجل غير معصوم؟
وإذا كان هذا أمراً ممكناً في كتاب إنسان غير مسلم، وفي علم دنيوي، فما الذي يمنع تحققه في كتاب إنسان جمع الله تعالى له شرطي العدالة والضبط في أعلى صورتيهما؟ فمن المعروف عن الإمام البخاري أنه كان آية من آيات الله تعالى في جودة الحفظ، فقد قالوا عنه إنه كان يحفظ وهو صبي سبعين ألف حديث سرداً، وقال هو عن نفسه “كتبت عن ألف وثمانين رجلاً ليس فيهم إلا صاحب حديث” وأنه كان مثالاً للمسلم التقي الزاهد الورع، يكفيك في هذا قوله “خرجت كتاب الصحيح من ستمائة ألف حديث، وما وضعت فيه حديثاً إلا اغتسلت وصليت ركعتين” [9]
ولكن هب أن أولئك العلماء الجبال في علم الحديث كانوا قد أجمعوا على أن البخاري أخطأ في عدة أحاديث، فظنها صحيحة وهي في الواقع ضعيفة، وهب أن عدد هذه الأحاديث كان ثلاثين حديثاً، ثلاثون من زهاء ثلاثة آلاف، أي واحد بالمائة. فهل كان من الإنصاف في شيء أن نشيع القول بأنه ما كل ما في البخاري صحيح بسبب خطئه في واحد بالمائة مما جمع؟
إن الإنصاف حتى على افتراض وجود تلك النسبة من الأحاديث الضعيفة كان يقتضي أن نثني على الكتاب ونقول إن كل ما فيه صحيح إلا أحاديث ذوات عدد هي كذا وكذا وكذا. إن الفرق بين هذا القول المنصف وذلك القول الجائر، أن هذا الأخير يشكك في الكتاب كله ويزيل الثقة به، إذ أن سامعه من عامة المتدينين سيظن بكل حديث يُقال له إنه رواه البخاري أنه قد يكون غير صحيح، فمن باب أولى ما يرويه غيره، فتبطل بذلك الثقة بكل الأحاديث النبوية الشريفة، وهذه فتنة عظيمة، نسأل الله تعالى أن يُجنبنا إياها وسائر المسلمين.
[6] الإمام الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني: هدي الساري، مقدمة فتح الباري بشرح صحيح الإمام أبي عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري، المكتبة السلفية، ص 7
[7] الإمام النووي، ما تمس إليه حاجة القاريء لصحيح الإمام البخاري، تحقيق علي حسن علي عبدالحميد، دار الكتب العلمية، بيروت، ص 21
[8] المرجع السابق، ص 3
[9]انظر في كل هذا كتاب الشعب صحيح البخاري، مقدمة الناشر.