ثقافة الصّمت.. ثقافة الخلل!
أحمد بن عبد المحسن العساف
لذا فمن خير ما يعالج به وباء الصّمت، تكثير قنوات إبداء الرّأي وتنويعها، والإرشاد إلى فقه النّصيحة، ودليل المطالبة، وتعليم النّاس فنّ الكلام، ومهارة الكتابة
- التصنيفات: قضايا إسلامية -
تؤثّر الحكم والأمثال على ثقافتنا وتفكيرنا، ومن المقلق منح صفة العموميّة المطلقة لها، وإذا كانت الفتوى تتغيّر طبقًا للأحوال دون أن تستبدل حكمًا ثابتًا، أو تحرِف شريعة قطعيّة، فكيف بغيرها؟ وما نفعله مع أقوال البشر المحفوظة نكرّره مع نصوص مقدّسة بقلب معناها، أو إنقاصه.
من ذلك وصف الصّمت بأنّه دومًا من ذهب، ونقل الحديث الشّريف الذي يربط بين النّجاة والصّمت، مع إغفال النّص الأقوى الذي يأمر من يؤمن بالله واليوم الآخر بقول الحقّ أو الصّمت عن الباطل، وفيه توضيح للمراد بالنّجاة، وقاعدة ثابتة للمفاضلة ما بين الصّمت أو الكلام.
وكم جلب الصّمت من أخطاء، فالصّمت في العلاقة الزّوجية دليل على فتورها، وحياتها في الحوار والمصارحة، والصّمت بين الآباء والأبناء مظنّة شرخ تربوي فاجع، والصّمت بين المدير ومرؤوسيه يحرم المنظّمة من فرصة تطوير، أو يوقعها في مآزق وأخطاء، مع شيوع أجواء التّذمر والنّميمة والإشاعة، والصّمت أمام جلال الحقيقة خذلان لها، وموقف عار يحفظه التّاريخ، والصّمت عند بهاء الجمال غلظة وعياية.
ومن أبشع أحوال الصّمت، عجز المرء عن المطالبة بحقوقه، وتركها عرضة للتّفريط أو الضّياع، أو سلبيّته تجاه إيذاء الآخرين وظلمهم، والتّخلي عن نصرتهم ولو بكلمة رشد واحدة، وإنّ المرء الذي فيه بقيّة من دين، أو مزعة من حياء، أو قطرة من مروءة؛ ليتضاءل عند نفسه من هذه المهانة، وهذا المصير الرّديء.
كما يروي التّاريخ وقائع غاب عنها الصّمت السّلبي فكانت العاقبة انتشار الأمن، وتنامي القوّة، وحفظ المصالح، وحماية المقاصد، واستمرار النّماء، وبقاء الألفة، وشيوع التّعاون، وضمور الشّكوك، وسيادة العدل، وبمجرّد أن بلي النّاس بالصّمت الثّقيل البعيد عن الحكمة، تدهورت الأوضاع حتى اقتربت من القاع السّحيق، وربّما ارتطمت به.
وليس في الصّمت محمدة إلّا في أحوال منها الصّمت عن قول حرام، أو مشين، أو رأي ظالم، أو وصف فاحش، والصّمت عمّا يحدِث شرورًا أعظم، أو الصّمت في حضرة مقام يستحق التّوقير، أو صمات البكر ذات الحياء حين تُشاور فيمن طلبها زوجة، وإن كنت أشكّ في بقاء النّوع الأخير على قيد الحياة!
لذا فمن خير ما يعالج به وباء الصّمت، تكثير قنوات إبداء الرّأي وتنويعها، والإرشاد إلى فقه النّصيحة، ودليل المطالبة، وتعليم النّاس فنّ الكلام، ومهارة الكتابة، وتبصيرهم بحقوقهم التي كفلتها لهم شريعة الله، أو ضمنتها لهم الأنظمة، وتربية النّاشئة على ذلك من صغرهم، وسيكون الجيل مستعصيًا على سوقه كالنّعام إلى مسالخها إذ غرست فيه قيم الحريّة المنضبطة، وأهميّة الإصرار، ونبذ الخور، ومقاومة الجور، ورفض أيّ عوج، والسّعي لإصلاحه ولو كان ردم حفرة صغيرة في شارع مهجور إلى ما هو أكبر منها.
ولو سألنا أهل كثير من البلاد التي أصابها البلاء من أطرافه عن خلاصة ما أودى بهم إلى حال مزرية، لقالوا: سكوتنا عن إهدار حقوقنا، وإعراضنا عن فضح الباطل، وإخفاء حقيقة آرائنا، وانسجامنا مع لغة قلب الحقائق، وترك أراضينا ومساحاتنا مسرحًا للغرباء والأباعد يعيثون بها فسادًا، وهم أشدّ النّاس لنا عداوة، ولا يرون فينا إلا كنزًا يُنهب، أو عبدًا يُركب، أو نسمة زائدة جديرة بأن تُسلب ثمّ تُعطب!
وحين تذاكر قوم عقلاء الصّمت والمنطق، قال بعضهم: الصّمت أفضل، فقال الأحنف بن قيس: المنطق أفضل؛ لأنّ فضل الصّمت لا يعدو صاحبه، والمنطق الحسن ينتفع به من سمعه. ولذلك فعلى من يؤمن بالله واليوم الآخر، ويحب بلده وأناسه، أن يصرّح بما يعتقده نافعًا ومفيدًا، على ألّا يرجو من نشر مكنونه غير رضا الله، ونصرة بلاده، وخدمة مواطنيه؛ بعيداً عن المصالح الفئويّة أو الشّخصيّة، وبعيدًا بعيدًا عن الاصطياد في المياه العكرة التي لا يحسنها إلّا شياطين الإنس المردة الغششة.
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض
مدونة أحمد بن عبد المحسن العسَّاف