بين التكريم والتكليف
جميع صور الأحكام الشرعية، والمطالب الدينية، في جوهرها تشريف وتكريم لابن آدم، لا كما تبدو للبعض في الظاهر، إثقالا للكاهل، وسلبا للحرية.... فالعبودية لله تعالى تزيد العبد المؤمن تكريما إلى تكريم، وتفضيلا إلى تفضيل، وذلك حاله دون غيره من بني جنسه
كتب: بن داود رضواني
{ولقد كرمنا بني آدم} [سورة الاسراء، الآية 70] .
تباينت تعليلات أهل التفسير وتعليقاتهم حول مناط التكريم والتفضيل الذين خص الله بهما الإنسان دون سائر البريئة، والمثبوت في قول الله تعالى (و {لقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا } ).
فتعليلات قد أناطت هذا التكريم والتفضيل بخاصية العقل في الإنسان، وبعضها ردته إلى ميزة التمييز و سمة الإختيار لديه، وأخرى ربطته بصورته وهيئته،... والحاصل أن هذه الآراء - في الغالب - لا تحكى إلا طرفا من مظاهر تكريم الإنسان وتجلياته، ولا تبرز العلة التي تقف خلفه، و لا السبب المباشر الذي وراءه. فهذا التغليب - ومع ذلك - لا يعطل إدراك العلة الأساس إزاء هذا التكريم، كما الحال مع إبن قيم الجوزية في كتاب زاد المعاد40/1، إذ سطر رحمه الله كلاما نفيسا رد فيه الأمور كلها إلى انفراد الله بالخلق والإختيار قال : " فإن الله سبحانه وتعالى هو المنفرد بالخلق والإختيار من المخلوقات، قال الله تعالى ( {وربك يخلق ما يشاء ويختار} ) [القصص 68] .. فكما أنه المنفرد بالخلق، فهو المنفرد بالإختيار منه، فليس لأحد أن يخلق، ولا أن يختار سواه..."
ويضيف رحمه الله إغناء للبيان، وزيادة في التوضيح، قائلا : " فإنه سبحانه أعلم بمواقع اختياره، ومحل رضاه، ومايصلح للإختيار مما لا يصلح له، وغيره لا يشاركه في ذلك بوجه..".
ومادام الأمر كله لله سبحانه، فاصطفاء الإنسان بالتكريم، وتفضيله على كثير من الموجودات -إذن - هو اختيار إلهي، ومراد رباني، فحكمة الحكيم سبحانه اقتضت ألا صلاح للكون وللإنسان إلا بتكريم هذا الأخير، تكريم عدل كله، ورحمة كله، ومصالح كله، وحكمة كله. أما وحين يؤثر إبن آدم مسلك الشهوات ويتعلق بالشبهات، فيستبدل العدل بالجور، والرحمة بالقسوة، والمصلحة بالمفسدة، والحكمة بالعبث، فسلبه التكريم والتفضيل واقع لا محالة، فيضحى إثر ذلك نظيرا للأنعام، بل يصير أضل منها وأعمى.
إن السر في قول الله تعالى في آية التكريم ( {وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا } )، يكمن في أفضلية البشر على كثير من الموجودات ،وليس على جميعها، فالملحدون والمشركون والمنافقون وغيرهم...، ممن ضلوا طريق العبودية، فعلى الرغم من إنسانيتهم، ليسوا أفضل في ميزان التكريم الإلهي من الملائكة الأخيار، ولا من المؤمنين من أمة الجان. فالعبرة بمدى وفاء ابن آدم بمقومات التفضيل والتكريم الإلهي له، لا بسبب انتماءه للجنس الإنساني فحسب.!!.
تكريم و تكريم.
تجلي آية التكربم والتفضيل من سورة الإسراء نوعان من التكريم الإلهي للإنسان: تكريم النوع، وتكريم العبودية.
1- تكريم النوع أو تكريم العموم: وهو يهم جميع بني آدم، فالباري جل جلاله كرم الإنسان وفضله ابتداء، دونما التحقيق في أمره أو النظر في شأنه، لقد خلقه سبحانه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وسيده على العالم بدقيقه وجليله، وأوجد له الكون قبل أن يوجد، وأسبغ عليه نعمه وآلاءه، الظاهرة منها والباطنة، وخصه بالعقل والإختيار....( {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات} )، فهذه الصورة من التكريم تستغرق الناس جميعا دون استثناء او تمييز.
2- وأما تكريم العبودية أو تكريم الخاصة، فهو من نصيب صنف من بني آدم، صنف قد تعرف - أولا - على ذاته وهويته في أنه عبد مملوك لله عز وجل، و - ثانيا - نهض بوظيفته في هذا الكون، ممثلة في في حب الله تعالى والخضوع له، فإذا وقع التسليم بهذه الحقيقة كانت جميع صور الأحكام الشرعية، والمطالب الدينية، في جوهرها تشريف وتكريم لابن آدم، لا كما تبدو للبعض في الظاهر، إثقالا للكاهل، وسلبا للحرية.... فالعبودية لله تعالى تزيد العبد المؤمن تكريما إلى تكريم، وتفضيلا إلى تفضيل، وذلك حاله دون غيره من بني جنسه..
- التصنيف: