المسلم والإنترنت، مخاطر ومحاذير

منذ 2019-04-11

جاء رجل إلى عبد الله بن المبارك فقال له: "أوصني" فقال:"راقب الله"، فقال الرجل:"وما مراقبة الله؟"، فقال:"أن تستحي من الله"

بن داود رضواني
لم يتنبأ أحد من الناس، بل حتى مخترعو الإنترنيت لحظة ابتكاره خلال ستينيات القرن الماضي، أن يصير العالم أسيرا له، ولم يتخيلوا أن تتحول حياة الكثير من الناس بلا معنى دونه، أو أن يعيشوا بعيدا عنه. بل ما لم يكن في الحسبان صار اليوم حقيقة، إذ انضم الإنترنيت بفعل التعلق الشديد به إلى قائمة المواد المدمن عليها- بفتح الميم الثانية -،على الرغم أن علم النفس - وحتى هذه اللحظة- مازال تحت تأثير صدمة الاكتساح الهائل لهذه الشبكة، ولم يخضع هذا النوع من الإدمان للدراسات النفسية والأبحاث السريرية بما يليق وحجم الظاهرة.
إن التعلق المرضي والارتباط السلبي بالفايسبوك والواتساب وتويتر...، وغيرها من وسائط التواصل الإلكتروني، لا يعني إلا صورة من صور الإدمان والتي يشعر فيها المدمن ألا وجود له إلا بوجود الإنترنيت، ولا عيش له إلا معه وبه، فالإهتمام بالذات يتلاشى أمامه، والعناية بالمحيط تفتر، والمناعة النفسية لمواجهة المشاكل اليومية تقل، هذا دون أن نغفل ما تحمله هذه الشبكة من مخاطر ومضامين سلبية مصاحبة، ابتداء من ترويج الأكاذيب وإذاعة الإشاعات، مرورا بازدراء الآخرين والسخرية منهم، وانتهاء بنشر الصور الفاضحة والأفلام الخليعة.
فما السبيل إلى تدبير علاقة أمثل، بين المسلم وعالم الإنترنيت؟
أولا: {ولا تقف ما ليس لك به علم}
إنها دعوة تحذيرية من الله جل جلاله، بأن يتحرى المرء ويتبين، قبل أن يلفظ كلاما أو يردد قولا لا علم له به، فكم من الرسائل المكتوبة والأخبار المنشورة، أباطيل وأكاذيب لا دراية لأحد بحقيقتها إلا مفتريها، بل إن المشكلة المضافة حين يتم تداولها بين من ينتمون إلى سلك الدعوة، استقبالا وترويجا، دون تثبت، جاء في البيان الإلهي من سورة آل عمران، الاية61 قوله تعالى ( {فنجعل لعنة الله على الكاذبين} )، وفي سورة غافر، الآية 28 ( {إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب} )، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث للبخاري ومسلم، "ومايزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا". أما ميدان علم الاجتماع فقد أوضح مخاطر نشر الأكاذيب، وحذر من إذاعة الإشاعات عبر الإنترنت، لما في ذلك من التعدي على الأمن الاجتماعي، والمس بسلامة الأفراد البدنية والمعنوية.
إن آفة الكذب هي أصل كل فجور وبدايته، سياسيا كان أو اجتماعيا أو إعلاميا...، والذي تتأجج نيرانه - اليوم وأكثر من أي وقت مضى- بفعل الكم الهائل من الأخبار والأنباء التي لا وجود لها على أرض الواقع، حتى صارت سمة العلاقات بين الناس الآن سلبية، وارتباطاتهم الإنسانية أوهن من بيت العنكبوت...
وفي اعتقادي، أن من يقف وراء صناعة الأكاذيب الإلكترونية هو أحد رجلين: إما رجل مهووس بالكذب، وحالته هاته يعبر عنها في التحليل النفسي بمرض "الميثومانيا"، أو رجل وصولي يبتغي بكذبه هدفا ما، قد يكون ماديا أو اجتماعيا أو سياسيا....
فما أحوج الناس عموما، والدعاة خصوصا - في هذا الزمان- إلى قلوب سليمة، وعقول واعية، وألسنة صادقة، وأفكار بناءة، تقف سدا منيعا في وجه هؤلاء الأفاكين المرضى، والكذابين الإنتهازيين، المتسترين خلف مواقع التواصل الاجتماعي.
ثانيا: لا يسخر قوم من قوم
وإلى جانب ما يذاع من ألوان الإفتراء، فهناك كم هائل من الرسائل والصور واللقطات المصورة، التي يتم تداولها بين فئة عريضة من الناس، مضمونها الشماتة والسخرية، لمجرد أن كلمة أو خطأ أو هفوة سقط فيها شخص ما. إن الأخلاق الفاضلة تنأى بصاحبها عن تشجيع هذه الممارسات المقيتة، والتي تتجاوز حدود المروءة، إلى إيذاء الآخرين نفسيا واجتماعيا... ما الفائدة أن ينشر على الشبكة الزرقاء وعلى نطاق واسع مشهد انزلاق رجل فوق أرضية مغطاة بالثلج، ومشهد لشخص يتكلم، لم يسعفه الحديث للنطق ببعض الكلمات في مناسبة ما...، إلا الاستهزاء المقيت بهما، المصحوب بالهمز واللمز، والغيبة والنميمة.
إن العديد مما يتداول من مشاهد السخرية، يكشف سوء الأخلاق، وضعف الوازع الديني، اللذين يعيشهما مدمن الإنترنيت، يقول الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيره لقول الله تعالى ( {لا يسخر قوم من قوم} )، "بكل كلام، وقول، وفعل دال على تحقير على الأخ المسلم، فإن ذلك حرام لا يجوز، وهو دال على إعجاب المرء بنفسه....فإن السخرية لا تقع إلا من قلب ممتلئ من مساوئ الأخلاق ".
ثالثا: " {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة} "
لا ينتهي خطر الإدمان، والاستخدام السيئ للإنترنيت عند حدود تداول الأكاذيب والسخرية من الآخرين، بل إن الخطر يتعاظم بتداول الصور والأفلام الإباحية، والتي تلقى على الشبكة عناية واهتماما من لدن شرائح عمرية مختلفة، ومستويات اجتماعية متنوعة.
لقد حرم الإسلام الممارسات الإباحية بشتى أنواعها، بداية من النظرة الحرام، وصولا إلى الوقاع المحرم، ( {قل للمومنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم} ) [سورة النور، الآية 30] ، ( {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا ً} )، [الإسراء، الآية 32] ، ويقول صلى الله عليه وسلم في حديث للبخاري ومسلم:" «لكل بني آدم حظ من الزنا، فالعينان تزنيان وزناهما النظر، والرجلان تزنيان وزناهما المشي، والفم يزني وزناه القبلة، والقلب يزني يهم أو يتمنى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه» ".
ومما لاشك فيه أن جرم الإباحية يتضاعف عند إشاعة مشاهدها عبر منصات الواتساب أو الفايسبوك أو.....، نظرا لدورها في نشر الفاحشة، والتطبيع مع الرذيلة، قال جل جلاله " {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة } "، [سورة النور، الآية 19] ، ويقول الشيخ الشعراوي رحمه الله: "الأسوأ من السيئة، إشاعتها بين الناس.".
سؤال التخلي والاستغناء.
وأمام هذه المخاطر والمحاذير، يبدو لدى البعض أن أسلم طريقة للتعامل مع الإنترنيت هي الاستغناء والتخلي عنه، نظرا لآثاره السيئة على النفس والمجتمع. لكن الصواب أن تدبير علاقة المسلم بالإنترنت لا تتم على هذا النحو، فالكثير مما أوجده الله في هذا الكون إلا ويحمل خيرا من وجه، وشرا من وجه آخر، يقول أبو جعفر الطحاوي فى كتابه المشهور بالعقيدة الطحاوية: "فإنه سبحانه لم يخلق شرا محضا، من جميع الوجوه والاعتبارات"، وعليه فالإنترنيت شأنه شأن العديد من الفتوحات العلمية، والكشوفات التقنية، تحمل في طياتها مزايا ومعايب، مصالح ومفاسد، خيرا وشرا...، لذا تبرز الحاجة ملحة وضرورية لتدبير أمثل لعلاقة المسلم بالإنترنت.
1 - فأين الله...؟
مر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بغلام يرعى الغنم، فطلب منه شاة بثمن - دون علم صاحبها - اختبارا لأمانة الراعي-، فأجاب الراعي: "فأين الله؟"، وجاء رجل إلى عبد الله بن المبارك فقال له: "أوصني" فقال:"راقب الله"، فقال الرجل:"وما مراقبة الله؟"، فقال:"أن تستحي من الله"، إنها عبارات جامعة لكل معاني الخير، دافعة لكل ألوان الشر، موصلة إلى مرضات الله ورضوانه، فمزال العبد بخير دينا ودنيا، ما لزم مراقبة الله، فهي التي تحجمه عن الكذب، ونشر الأراجيف، وتنزهه عن السخرية والاستهزاء بالغير إشاعة و تداولا، وتعفه عن الولوغ في براثن الإباحية، مشاهدة ونشرا...، مراقبة الله علاج للعديد من الأدواء النفسية والتربوية والاجتماعية..، مراقبة الله هي الغلاف الإحساني الذي يصون القربات من الزلل، وهي التعبير النبوي لمضمون الإحسان:"فإن لم تكن تراه، فإنه يراك."
2 - علاقة قاصدة
إذا كان قصد العديد من المواقع والمنصات الإلكترونية إشاعة القيم والأخلاق المبتذلة، فهي بالمقابل تمثل مرتعا من مراتع الدعوة إلى الله، ومساحة خصبة لنشر قيم الخير والمحبة والسلام، خصوصا وأنها أضحت من أكثر الوسائل الدعوية انتشارا، وأقلها كلفة، وأكثرها مردودية. ونظرا لهذه الأهمية، فهذا النوع من الدعوة يحتاج إلى تربية إيمانية مستمرة، وتكوين فكري وسطي، حتى تتحقق الغاية الإنسانية من الإستخدام المتنوع للإنترنيت، من خلال إنشاء المواقع، وغرف البالتوك، والمسنجر، الفايسبوك، والسكايب، والبريد الإلكتروني ....وغيرها.
3 - علاقة مقتصدة
"المياه الضحلة، ماذا يفعل الإنترنيت بعقولنا"، أول نتيجة توصل إليها المؤلف "نيكولا كار" في هذا الكتاب، هي ما إن تتصل بالإنترنت حتى تدخل في عالم القراءة السريعة والسطحية، والتي تشتت الانتباه، فالقراءة في الكتاب الورقي أفضل من الكتاب الإلكتروني، لأن هذا الأخير موصول بالشبكة ومنها تصلك الإشارات من الواتساب والفايسبوك... انتهى كلام المؤلف. والحاصل أن العلاقة بهذه الصورة بين المستخدم والشبكة عبثية، إذ يعلق المرء بين خيوطها ويتيه بين صفحاتها. لذا تحتاج العلاقة إلى ترشيد، من جهة اختيار المواقع والمنصات والمواضيع، وثانيا من جهة تقنين المدد الزمانية دون إفراط ولا تفريط..، لأن الغالب اليوم هو إسراف الوقت في الدردشة والتصفح، مع إهمال كبير للإلتزامات الأسرية، والتكاليف العلمية، والعملية...، حتى أضحت هذه المنصات مصدرا للقطيعة الأسرية والعائلية، بدل أن تكون أداة معززة للعلاقات الإنسانية، وسببا في الإهمال الدراسي، عوضا أن تصير دعامة للتفوق العلمي والنهوض الحضاري.

  • 41
  • 7
  • 16,139

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً