الزواج بنية الطلاق
مِن نوازل العَصر: السَّفرُ للنِّكاح مدَّة، ومِن ثمَّ الطلاق، فالبعضُ في الإجازة يذهب إلى بعض البلادِ الفقيرة، ويتزوَّج امرأةً أو أكثر مدَّةَ الإجازة، وفي نيته أن يُطلِّقها، ولعلِّي في الخُطبة الأولى أبيِّن حُكمَ أهل العِلم في هذه النازلة
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله مِن شُرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، مَن يهدِه الله فلا مضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } [الأحزاب: 70 - 71].
أمَّا بعدُ:
مِن نوازل العَصر: السَّفرُ للنِّكاح مدَّة، ومِن ثمَّ الطلاق، فالبعضُ في الإجازة يذهب إلى بعض البلادِ الفقيرة، ويتزوَّج امرأةً أو أكثر مدَّةَ الإجازة، وفي نيته أن يُطلِّقها، ولعلِّي في الخُطبة الأولى أبيِّن حُكمَ أهل العِلم في هذه النازلة.
فأقول: هذا النِّكاح خلاف النِّكاح الشرعيِّ الذي يُراد به الدوامُ والاستمرار؛ فلذا تجد الشخص لا يسألُ عن عِفَّة المرأة، ولا عن صلاحها وصلاح أهلها، إنَّما هَمُّه مُنصَبٌّ على جسدها، ومواضعِ المُتعة منها.
و لا يخلو الأمرُ من حالين:
الأولى: أن تكونَ المرأةُ ووليُّها لا يعلمون نيتَه، وأنَّه سوف يُطلِّق بعد فترة يسيرة، فهذا من الغِشِّ المحرَّم؛ فقد قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا يؤمنُ أحدُكم حتى يُحبَّ لأخيه - أو قال: لجاره - ما يحبُّ لنفسه»؛ (رواه البخاري: 13)، (ومسلم: 45).
فهذا الشَّخص لا يرضى هذا الفِعلَ لأُمِّه، ولا لأخته، ولا لابنته، فكيف يرضاه لبنات المسلمين؟! قد يقول هذا الشَّخصُ: لم أُكرهْهم، وهم راضون بذلك، وفي الحقيقة أنَّهم لم يَرضَوْا إلاَّ بسبب الحاجة إلى المال، ولو كانوا أغنياءَ ما قبلوا بتزويجه، ولو دَفَع لهم أضعافَ ما دفع؛ لذا فهؤلاءِ لا يذهبون إلى أغنياءِ أهلِ هذه البلاد يخطبون بناتِهم، إنَّما يقصدون المحتاجين منهم.
الحال الثانية: أن تكون المرأةُ ووليُّها يَعلمون أنَّه سوف يتزوَّج مدَّةَ الإجازة، ثم يُطلِّق بسبب العادة التي تتكرَّر كلَّ عام، فهذا عقدُ نكاحِ مُتعة محرَّمٌ، فالقاعدة عندَ أهل العلم: أنَّ "المعروف عُرفًا كالمشروط شرطًا"، فكأنَّه شَرَط لهم التوقيت، إضافةً إلى المفاسد التي تحصل مِن حمل بعض النِّساء، ثم يُسافر الرَّجل، ولا تعرف المرأة عنوانَه، فيُولَدُ له وَلدٌ، لا يَعرف أباه؛ ممَّا يُسبِّب ضررًا له ولأمِّه ولمجتمعه.
قد يقول قائل: أليس بعضُ الفقهاء أباحوا النِّكاح بنية الطلاق؟ فأقول: بلى، وهذه مِن المسائل الخلافيَّة بين أهل العِلم، فيُرجع إلى ما تقتضيه الأدلةُ، وقد أشرتُ إلى أنَّ الأدلة تقتضي تحريمَ هذا النوع من النِّكاح، وقد قال بعدم جواز النِّكاح بنية الطلاق الأوزاعيُّ، وهو الصحيحُ من مذهب الحنابلة، وهو قول للإمام مالك، وهو اختيار الشَّيخ محمد العثيمين (انظر الإنصاف: 8/163)، (والموافقات: 1/248)، ثم على قولِ مَن يرى جواز النِّكاح بنية الطلاق، فهم لا يقولون بجوازِ ما يفعله بعضُ الناس من السَّفر للزواج، ثم الطلاق، وإنَّما أشاروا إلى رجل سافر لأمرٍ، ثم أراد النِّكاح بنية الطلاق، أو تزوَّج في بلده، ولم يتعرَّضوا للسَّفر لقصد النِّكاح، والله أعلم.
قال الشَّيخ محمد العثيمين في "شرح منظومة القواعد" (ص: 289): "هذه المسألة لا تدخلُ تحتَ الخِلاف الذي فَرضَه أهلُ العِلم قطعًا؛ لأنَّ المسألة التي فَرَضها أهلُ العلم في الغريب يتزوج بنية الطلاق إذا فارق البلد، والغريب لم يسافرْ لأجل أن يتزوَّج، إنَّما سافر لحاجةٍ: طلبِ علمٍ أو مال، أو غير ذلك، واحتاج إلى النِّكاح، فتزوَّج، أمَّا هؤلاءِ، فقد قصدوا من الأصل أن يذهبوا إلى البلد ليتزوجوا بنيةِ الطلاق" ا.هـ.
وسأل سائلٌ اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (18/449) برئاسة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ:
- انتشر بين أوساط الشَّباب السفرُ خارجَ البلاد للزواج بنية الطلاق، والزواج هو الهدف من السَّفر؟
فكان الجواب:
الزواجُ بنية الطلاق زواجٌ مؤقَّت، والزواج المؤقَّت زواج باطل؛ لأنَّه متعة، والمتعة محرَّمة بالإجماع، والزَّواج الصحيح: أن يتزوَّج بنية بقاء الزوجيَّة والاستمرار فيها، فإن صلحت له الزوجة، وناسبت له وإلاَّ طلَّقها؛ قال تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229].
وبالله التوفيق، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّد وآله وصحبه وسلَّم. ا.هـ
البعضُ يتعلَّل بأنَّه صَدَرت فتوى من سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز بإباحة النِّكاح بنية الطلاق، وهذا القول ليس دقيقًا؛ فلم يُرخِّص في ذلك على الإطلاق، وإنَّما قيَّده للحاجة للمغتربين، صدرت الفتوى بإباحة ذلك لطائفةٍ سافرت للحاجة، وتخشى على نفسها الفِتنة.
قال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز في "فتاواه" (4/30): "صَدَر فتوى من اللجنة الدائمة وأنا رئيسها بجوازِ النِّكاح بنيةِ الطَّلاق، إذا كان ذلك بينَ العبد وبين ربِّه، إذا تزوَّج في بلادِ غُرْبة، ونِيتُه أنَّه متى انتهى مِن دراسته، أو مِن كونه موظَّفًا، وما أشبه ذلك، أن يُطلِّق - فلا بأسَ بهذا عند جمهور العُلماء، وهذه النِّية تكون بينَه وبين الله سبحانه - وليست شرطًا... وهذا مِن أسباب عِفَّته عن الزِّنا والفواحش.
الكاتب/ أحمد الزومان
- التصنيف:
- المصدر: