لذة العطاء
ملفات متنوعة
وَمَن ذَا الَّذِي يَجهَلُ أَنَّ أَقرَبَ طَرِيقٍ إِلى ذَلِكَ هُوَ الإِحسَانُ إِلى عِبَادِ اللهِ وَنَفعُهُم رَحمَةً بِهِم وَإِشفَاقًا عَلَيهِم ؟!
طَالَ الزَّمانُ أَو قَصُرَ ،، وَتَغَيَّرَ الدَّهرُ فَعَبَسَ أَو بَسَرَ ،، وَبَخِلَ مَن بَخِلَ رُكُونًا إِلى الدُّنيا وَإِيثارًا لِلحُطَامِ ،، فَلَيسَ لِلصِّعَابِ إِلاَّ رِجالُها ، ولا لِلأَحمَالِ إِلاَّ جِمَالُها ... وَيَبقَى الأَجوَادُ المُحسِنونَ هُم زِينَةَ الدُّنيَا وَجَمَالَ الحَيَاةِ ، وَيَبقَى الإِحسَانُ هُوَ أُنسَ النُّفُوسِ المُؤمِنَةِ ، وَرَاحَةَ القُلُوبِ المُطمَئِنَّةِ ، وَزِينَةَ الأَتقِيَاءِ وَحِليَةَ النُّبَلاءِ ... كُلَّمَا حَاوَلَ أَحَدُهُم كَفَّ نَفسِهِ عَنِ الاشتِغَالِ بِحَاجَةِ غَيرِهِ ، أَو أَرَادَ مَنعَ قَلبِهِ مِن حَملِ هُمُومِ الآخَرِينَ ، أَبَت عَلَيهِ لَذَّةٌ يَجِدُها في ابتِسَامَةِ مُحتَاجٍ قُضِيَت حَاجَتُهُ ، وَحَلاوَةٌ يَتَذَوَّقُها في دَعوَةِ مَكرُوبٍ فُرِّجَت كُربَتُهُ ...
هَذَا عَدَا أَنَّهُ يَعلَمُ أَنَّ لَهُ كَثِيرًا مِنَ الحَاجَاتِ ، وَأَنَّ أَمَامَهُ يَومًا عَبُوسًا قَمطَرِيرًا ذَا كُرُباتٍ ، تَتَقَطَّعُ فِيهِ النُّفُوسُ حَسرَةً عَلَى مَا فَاتَ ، ومَا زَالَ بِمَا وَقَرَ في قَلبِهِ مِنَ اليَقِينِ بِلِقَاءِ رَبِّهِ وَالتَّصدِيقِ بِمَوعُودِهِ يَرجُو أَن يَكُونَ لَهُ في قَضَاءِ حَاجَةِ كُلِّ مُسلِمٍ وَتَفرِيجِ كُربَتِهِ قَضَاءٌ لِحَاجَاتِهِ وَتَفرِيجٌ لِكُرُبَاتِهِ ، وَأَن يَكُونَ إِحسَانُهُ اليَومَ نَجَاةً لَهُ مِن أَهوَالِ ذَلِكَ اليَومِ العَسِيرِ .
وَمَن ذَا الَّذِي يَزعُمُ أَنَّهُ في غِنًى عَن رَحمَةِ رَبِّهِ وَإِحسَانِ مَولاهُ ؟!
وَمَن ذَا الَّذِي يَجهَلُ أَنَّ أَقرَبَ طَرِيقٍ إِلى ذَلِكَ هُوَ الإِحسَانُ إِلى عِبَادِ اللهِ وَنَفعُهُم رَحمَةً بِهِم وَإِشفَاقًا عَلَيهِم ؟!
قَالَ سُبحَانَهُ :
" {هَل جَزَاءُ الإِحسَانِ إِلاَّ الإِحسَانُ} "
وَقَالَ في الحَدِيثِ القُدسِيِّ :
" «أَنفِقْ يَا بنَ آدَمَ أُنفِقْ عَلَيكَ» "
وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ :
" «وَإِنَّمَا يَرحَمُ اللهُ مِن عِبادِهِ الرُّحَمَاءَ» "
أَفَيَحرِمُ عَاقِلٌ نَفسَهُ مِن إِحسَانِ اللهِ إِلَيهِ وَرَحمَتِهِ ؟!
أَوَيُمسِكُ تَقِيٌّ يَدَهُ عَنِ الإِنفَاقِ وَرَبُّهُ هُوَ الَّذِي يُنفِقُ عَلَيهِ ؟!
أَيَخشَى قِلَّةً أَو فَقرًا وَاللهُ هُوَ الَّذِي وَعَدَهُ أَن يُخلِفَ عَلَيهِ وَهُوَ لا يُخلِفُ المِيعَادَ فَقَالَ :
" {وَمَا أَنفَقتُم مِن شَيءٍ فهو يُخلِفُهُ} " ؟!
وَحَدِيثٌ آخَرُ عَظِيمٌ ، يَجِدُ فِيهِ المُحسِنُونَ سَلوَةً لَهُم ، وَوَقُودًا لِعَزَائِمِهِم ، وَدَافِعًا لَهُم لِتَفَقُّدِ مَن حَولَهُم ؛ لِيَبذُلُوا لَهُمُ النَّدَى ، وَيُزِيلُوا عَنهُمُ الأَذَى ... قَالَ الحَبِيبُ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ :
" «لَقَد رَأَيتُ رَجُلاً يَتَقَلَّبُ في الجَنَّةِ ، في شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِن ظَهرِ الطَّرِيقِ كَانَت تُؤذِي النَّاسَ» "
فَهَذَا رَجُلٌ أَزَالَ عَنِ المُسلِمِينَ أَذًى في طَرِيقٍ ، وَكَانَ بِإِمكَانِهِم أَن يَتَجَنَّبُوا هَذَا الأَذَى بِأَن يَمِيلُوا عَنهُ يَمنَةً أَو يَسرَةً وَيَنتَهِي الأَمرُ ، وَلَكِنَّ هَذَا المُحسِنَ الرَّقِيقَ القَلبِ ، لم يَرتَحْ وَثَمَّةَ أَذًى يَصِلُ إِلى النَّاسِ وَهُوَ يَقدِرُ عَلَى إِزَالَتِهِ ؛ فَبَادَرَ مُحتَسِبًا وَأَزَالَهُ عَنهُم ، فَأَصبَحَ يَتَقَلَّبُ في الجَنَّةِ وَيَنعَمُ بِنَعِيمِهَا بِإِزَالَةِ هَذَا الأَذَى ... فَكَيفَ بِأَذًى يُلازِمُ مُسلِمًا كُلَّمَا قَامَ وَقَعَدَ ، وَهَمٍّ يَمنَعُهُ نَومَهُ ، وَغَمٍّ يَحرِمُهُ لَذَّةَ أَكلِهِ وَشُربِهِ ، وَحَاجَةٍ تَتَلَجلَجُ في نَفسِهِ كُلَّمَا أَصبَحَ وَأَمسَى ، فَتُكَدِّرُ حَيَاتَهُ وَتُنَغِّصُ عَلَيهِ عَيشَهُ ، وَنَظرَةِ افتِقَارٍ مِن طِفلٍ بَائِسٍ أَو يَتِيمَةٍ مَكلُومَةٍ ، ثم يَحتَسِبُ جَوَادٌ شَهمٌ فَيُزِيلُ عَن هَذَا المُسلِمِ الأَذَى ، وَيُلقِي عَن كَاهِلِ ذَاكَ المَهمُومِ الهَمَّ ، وَيَكفِي ذَلِكَ المُحتَاجَ حَاجَتَهُ ، وَيُدخِلُ عَلَى البَائِسِ المَحزُونِ أُنسًا وَسُرُورًا ، وَيُبَدِّلُ تِلكَ اليَتِيمَةَ بِالغَمِّ فَرَحًا وَحُبُورًا ؟!
مَا أَعظَمَهَا مِن نِعمَةٍ عَلَى مَن صَبَرَ نَفسَهُ في هَذِهِ الجَادَّةِ وَإِن طَالَت !!!
وَمَا أَعظَمَ حَظَّ مَنِ استَمَرَّ في طَرِيقِ الإِحسَانِ إِلى النَّاسِ وَنَفعِهِم !!!
وَمَا أَسعَدَ مَن سَعَى في قَضَاءِ حَوَائِجِهِم !!!
وَهَنِيئًا لِمَن صَارَت رَاحَةُ نَفسِهِ في تَفرِيجِ كُرُبَاتِ إِخوَانِهِ وَوَضْعِ الأَحمَالِ عَنهُم !!!
وَأَخِيرًا أَخِي المُسلِمَ ،،، كُلَّمَا هَمَمتَ بِفِعلِ خَيرٍ لِوَجهِ اللهِ ، رَجَاءً لِمَا عِندَهُ ، وَتَصدِيقًا بِمَا وَعَدَ بِهِ ، فَجَاءَكَ هَاجِسٌ يَمنَعُكَ أَو يُخَوِّفُكَ ، أَو يَحمِلُكَ عَلَى التَّأجِيلِ ، أَو يُزَهِّدُكَ في العَطَاءِ وَالبَذلِ ؛ بِحُجَّةِ أَنَّكَ قَد بَذَلتَ مَرَّاتٍ كَثِيرَةً وَهِيَ كَافِيَةٌ ، أَو أَنَّكَ تُعطِي وَغَيرُكَ مُمسِكٌ ، أَو أَنَّكَ قَد أَحسَنتَ فَلَم تَجِدْ مِنَ النَّاسِ شُكُورًا ، فَاعلَمْ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ مِنَ الشَّيطَانِ ، وَتَأَمَّلْ قَولَ رَبِّكَ :
" {يَا أَيُّها النَّاسُ إِنَّ وَعدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللهِ الغَرُورُ . إِنَّ الشَّيطَانَ لَكُم عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إنَّما يَدعُو حِزبَهُ لِيَكُونُوا مِن أَصحَابِ السَّعيرِ} "
وَقَولَهُ في وَصفِ الأَبرَارِ :
" {إنَّمَا نُطعِمُكُم لِوَجهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنكُم جَزَاءً وَلا شُكُورًا} "
وَاعلَمْ أَنَّ عُثمَانَ بنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنفَقَ ثم أَنفَقَ ثم أَنفَقَ حَتَّى جَاءَتهُ البِشَارَةُ مِنَ الحَبِيبِ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ بِقَولِهِ :
" «مَا ضَرَّ عُثمَانَ مَا فَعَلَ بَعدَ اليَومِ» "
اللَّهُمَّ اجعَلْنَا مِن عِبَادِكَ المُبَارَكِينَ عَلَى أَنفُسِهِم وَعَلَى إِخوَانِهِم وَمُجتَمَعِهِم ...
اللَّهُمَّ وَأَعِنَّا عَلَى مَا يُرضِيكَ عَنَّا ...
اللَّهُمَّ وَجُدْ عَلَينَا إِنَّكَ جَوَادٌ كَرِيمٌ ...
عبدالله بن محمد البصري