الحديث يشرح الحديث
كما أن القرآن يفسَّرُ بالقرآن، وهو أعلى درجات التفسير، فكذلك يفسَّرُ الحديثُ بالحديث، وهو من أعلى درجاته كذلك، ويسبقه تفسيره بالقرآن الكريم.
كما أن القرآن يفسَّرُ بالقرآن، وهو أعلى درجات التفسير، فكذلك يفسَّرُ الحديثُ بالحديث، وهو من أعلى درجاته كذلك، ويسبقه تفسيره بالقرآن الكريم.
ويكون ذلك من قبيل المجمَل والمبيَّن، والمطلق والمقيَّد، حسب حالِ الحديث ومجرى الكلام.
فهناك أحاديث قد تكون مشكلة، أو غامضة، غير واضحة، فتأتي أحاديث أخرى في الموضوع نفسه تبين ما غمض منها وتزيل إشكالها.
وهذه جولة قريبة، في إيجاز واختصار، بين ثلاثة أحاديث، مازال العلماء وشرَّاح الحديث يقلبون بعضها على وجوهها، ويوردون خلافاتها، وقد وردت أحاديث تبيِّن المراد منها.
وأولها: حديث مرض النبي صلى الله عليه وسلم وطلبه أن يكتب كتابًا... ففي حديث الشيخين (البخاري: 114، مسلم: 1637):
عن ابن عباس قال: لما اشتدَّ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم وجعهُ قال: «ائتوني بكتابٍ أكتبْ لكم كتابًا لا تَضِلُّوا بعده».
قال عمر: إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم غلبَهُ الوجع، وعندنا كتابُ اللهِ حسبُنا.
فاختلفوا، وكثرَ اللغط، قال: «قوموا عني، ولا ينبغي عندي التنازع».
فخرجَ ابنُ عباس يقول: إن الرزيَّةَ كلَّ الرزيَّة، ما حالَ بين رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وبين كتابه. اهـ.
قلت: الله سبحانه وتعالى أعلم بما كان سيمليه رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن يستنتج من الحديث التالي أن يكون المقصود هو تعيين الخليفة من بعده.
وسواء صحَّ هذا الاستنتاج أو لم يصح، فإنه قد ورد في حديث تعيين الخليفة، أو إرادةُ تثبيته.
والحديث (رواه مسلم في صحيحه: 2387)، (كما رواه ابن حبان: 6598)، (والبيهقي في السنن الكبرى: 16365)، ورواه البخاري بمعناه، وهو:
عن عائشةَ قالت: قالَ لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في مرضه:
"ادعِي لي أبا بكرٍ وأخاكِ حتى أكتبَ كتابًا، فإني أخافُ أنْ يتمنَّى متمنٍّ ويقولَ قائل: أنا أَولَى. ويأبَى اللهُ والمؤمنون إلّا أبا بكر".
والمعنى واضح، وقوله: «ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر» صريح جدًّا كما يلمسه القارئ.
وممن انتصر لهذا الرأي سفيان بن عيينة رحمه الله، كما أفاده الحافظ ابن حجر في الفتح 1/209.
وقد أوردَ ابن حجر هنا ما يُعترض به عليه، وهو أنه عليه الصلاة والسلام لم يكتبه، وكان قولها ذاك في أوائل مرضه.
قلت: قد نصَّ على اسمه في كلامه، أفلا يثبتُ الحكمُ بذلك؟
كما ذكر -رحمه الله- فيما يخص الحديث الأول، أنه عليه الصلاة والسلام عاش أيامًا ولم يعاودْ أمرهم بذلك، ولو كان واجبًا لم يتركه لاختلافهم، لأنه لم يترك التبليغ لمخالفة من خالف.
وهذا كلام قويّ، نفيس، يُرفَعُ به العتبُ عن عمر رضي الله عنه.
وثانيها: حديث الدعاء المستجاب في ساعة من الجمعة.
ففي الصحيحين، قوله صلى الله عليه وسلم: «إن في الجمعةِ لساعةً لا يوافقها مسلمٌ يسألُ الله فيها خيرًا إلا أعطاه إياه». (البخاري: 893)، (مسلم: 852).
وقد اختلف العلماء في تحديد هذا الوقت، وذهب كثير منهم إلى أنه من بعد العصر إلى ما قبل غروب شمس الجمعة، بينما تم تحديده في حديث آخر صحيح (رواه مسلم في صحيحه: 853) من حديث أبي بردة بن أبي موسى الأشعري قال:
قال لي عبدالله بن عمر: أسمعتَ أباكَ يحدِّثُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في شأن ساعةِ الجمعة
قال: قلت: نعم، سمعته يقول: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «هي ما بين أن يجلسَ الإمامُ إلى أن تُقضَى الصلاة».
وفي شرحه على (صحيح مسلم: 6/141) أورد الإمام النووي الآراء والاختلافات في توقيت الدعاء يومها، ثم قال: الصوابُ ما رواه مسلم من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنها ما بين أن يجلسَ الإمامُ إلى أن تُقضَى الصلاة.
وثالثها: سنة صلاة الفجر.
فقد ورد فيها من قولِ أمِّنا عائشة رضي الله عنها:
"أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يكنْ على شيءٍ من النوافلِ أشدَّ معاهدةً منه على ركعتينِ قبلَ الصبح". (صحيح مسلم: 724).
وهل يُفهمُ من هذا أنه عليه الصلاةُ والسلامُ أنه كان يُطيل فيهما؟ ليس في الحديثِ ما يدلُّ على قصرِ الركعتينِ أو طولهما.
ولكن ورد في قولٍ آخرَ لها رضي الله عنها، أن المقصودَ التخفيف، وذلك في (صحيح البخاري: 1118): "كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يخفِّفُ الركعتينِ اللتينِ قبلَ صلاةِ الصبح، حتى إني لأقول: هل قرأ بأمِّ الكتاب"؟.
فهذا الحديثُ وضَّح ذاك.
محمد خير رمضان يوسف
- التصنيف:
- المصدر: