الكثلكة والدعوة الإسلامية، هواجس ومخاوف كنيسة روما
ملفات متنوعة
ونلحظ كذلك تراجعا للتدين المطبوع بطابع كنيسة روما إلى مستويات قياسية بين الأوساط الشعبية الغربية، لم يشهد التاريخ له مثيل
- التصنيفات: اليهودية والنصرانية -
بنداود رضواني.
اولا: الكثلكة، التاريخ والتحديات.
توثق تاريخ ظهور الكثلكة كمشروع توسعي للكنيسة الكاثوليكية ، بداية - وإن بشكل محتشم - مع ظهور كلمة "كاثوليكية" القادمة من اللغة اليونانية والمرتبطة بكلمة "كاثوليكس"، والتي ترادف جامعة أي كونية، لكن يبقى التجلي الأكثر وضوحا للكثلكة كمفهوم وممارسة في عصر الإصلاحات البروتستانتية والردود الكاثوليكية عليها. ثم تطورت إثر ذلك مضامينها مع تعاقب الأيام لتصطبغ بأشكال متعددة تواءم طبيعة الإكراهات الداخلية والخارجية التي تعيشها الكنيسة الكاثوليكية.
واليوم، نرصد مزيدا من الإرتداد الشعبي عن الطقوس المسيحية، فالمسيحيون الممارسون للشعائر الكاثوليكية أصبحوا أقلية في البلدان الغربية التي وقع فيها أهم ما في التاريخ المسيحي، ونلحظ كذلك تراجعا للتدين المطبوع بطابع كنيسة روما إلى مستويات قياسية بين الأوساط الشعبية الغربية، لم يشهد التاريخ له مثيل. هذا من جهة، ومن جهة ثانية وفي مقابل هذا التحلل لجوهر الدين في الغرب تكشف الإحصائيات والتقارير عن تنامي حركة التدين الإسلامي يوما بعد يوم، وقبولا بالمهاجرين المسلمين لدى فئات مهمة من المجتمع الغربي، على الرغم من حرب الإسلاموفوبيا التى تحمل رايتها بعض وسائل الإعلام العنصرية، وعددا من اليمنيين من أصحاب القرار السياسي.
لذلك، يبدو أن السؤال الأكثر إلحاحا هو عن ماهية العلاقة التي تحكم الكنيسة الكاثوليكية بالكثلكة كمشروع كوني جامع، يحاول تجاوز المشاكل والتحديات التي تتخبط فيها كنيسة البابا.
من الواجب أن ندرك أن كرونولوجيا الأحداث التي طبعت الفعل الكاثوليكي خصوصا مع بداية القرن الماضي، لأنها ستمدنا بالعديد من عناصر الإجابة عن هذا السؤال. فمع بروز الثورة البولشفية وصعود الفكر الشيوعي في كثير من الدول الأوربية وبعض دول الأطراف التابعة لها، ظهر حس نضالي واسع، وتأثر كبير بالماركسية في بعدها الاجتماعي، ولد انحياز الأساقفة الذين يقومون بالمهمة الرعوية نيابة عن البابا بالبلدان الإفريقية والأسيوية والأمريكولاتينية لمطالب الفئات المعدومة. هذه الأخيرة كانت تدرك بأن ليس ثمة كاثوليكية واحدة تسوس الكاثوليكيين بميزان المساواة والعدل، بل هي كاثوليكيات متباينة تحكمها النزعة العرقية والأهداف المصلحية بالدرجة الأولى. لقد رأت هذه الفئات في موالاة الكنيسة للنظام الرأسمالي ومحاربتها للشيوعية- آنذاك - ضربا لطموحاتها وآمالها في العيش الكريم. فكان رد فعل الكنيسة المركزية في روما تجاه هذه الحركة الإجتماعية، وطفو العديد من الإشكالات على سطح الأحداث الدولية، دور في انعقاد المجمع الفاتيكاني الثاني 1965م/ 1962م.
لقد شهد هذا المجمع المسكوني ولادة ما سمي بلاهوت التحرير، في محاولة لإخراج الكثلكة من الجمود نحو الحركة، ومن التصلب نحو المرونة، وحمل الكاثوليكية على التكيف مع هذا العالم المحروم والبائس الذي سمي بالعالم الثالث، ولو في الظاهر. لذا تمت صياغة مشاريع وبرامج رعوية تحت إشراف الكرسي الرسولي وتسارعت زيارات الباباوات للبلدان الفقيرة، فمثلا زار البابا يوحنا بولس الثاني 42 دولة من أصل 83 دولة بين عامي 1980م و 2000م، وزار 7 دول أكثر من مرة، ولم يكن بنديكت السادس عشر، ولا البابا الحالي فرنسيس خلافا لسلفهما، فالقاسم المشترك لهذه الزيارات هو إعلان التضامن مع الطبقات المحرومة والمهمشة!!!، في حين أنها تستبطن رسائل تبشيرية مفادها أن الخلاص من هذه المشاكل لن يتم إلا في ظل الكنيسة الكاثوليكية الجامعة.
ثانيا: لاهوت التحرير والتوسع الكاثوليكي.
الكثلكة كفلسفة رعوية بالمعنى اللاهوتي، هي بالطبيعة حاضنة لكل المشاريع الإيمانية والتبشيرية، ولاهوت التحرير هو وليد لهذه الفلسفة. وبالتالي فسماتها كيفما كانت إيجابية أم سلبية، تنتقل آليا من هذه الفلسفة بالوراثة إلى لاهوت التحرير، وسهام النقد التي تنال من الكثلكة كمشروع كوني توسعي يلغي التعددية والاختلاف، هي السهام نفسها التي تعري النفسية التي تحرك لاهوت التحرير والمرامي الحقيقية التي يستبطنها المشروع الأم، والمتمثل في الكثلكة.
فلاهوت التحرير في المحصلة، لا يعدو أن يكون آلية استيعاب وتطويع، والتي تنتهي آخر فصوله بفصل يحمل عنوان "الجميع في خدمة الكثلكة".
لقد عبرت الوقائع والأحداث منذ انعقاد مجمع نيقية 325م وحتى سنة 1962م عن الماهية الحقيقية للكنيسة الرومانية، إذ لم تكن في يوم من الأيام جدية في لملمة الشتات المسيحي بقدر ما كانت سببا في حدوث انقسامات لاهوتية وانحرافات أخلاقية، ولم تكن في الواقع لسانا معبرا عن الاحتياجات الإيمانية، ناهيك عن الإحتياجات والمطالب المعيشية والحياتية، فتاريخ الكنيسة لا ينفك عن تاريخ الملوك المستبدين والأغنياء الإقطاعيين أكثر من ارتباطه بتطلعات الشعوب المسيحية المحرومة. ولم يعكس سعيها يوما من الأيام على مدى هذا التاريخ الطويل صدى الحرمان لهذه الفئات، والمتمثل في مناهضة الديكتاتورية والإقطاعية والرأسمالية. بل سارت كنيسة روما دائما في الإتجاه المعاكس، منافحة ومبررة وممهدة لكل أشكال التسلط والقهر. ولعل هذه المآخذ هي أبرز المطاعن التي أفقدها تقدير واحترام المنتسبين والمخالفين على حد سواء.
ثالثا: مخاوف وهواجس.
تعالوا نتساءل، ما السر في هذه الوثبة الغير المسبوقة خلال المجمع الفاتيكاني الثاني تجاه مطالب الفئات المسيحية الفقيرة، والتي أنهكتها الأمراض، ومزقها الفقر والجوع كل ممزق؟.
لا نستطيع الوقوف على تفسيرات شافية ومقنعة فيما يخص هذه الحركة المحمومة للكثلكة إلا باستحضار التحديات التي كانت تعرفها برامج الانتشار والتوسع الكاثوليكي خصوصا في القارة الإفريقية والآسيوية والقسم الجنوبي من القارة الأمريكية. فإضافة إلى المد الشيوعي المتنامي الذي ذكرناه آنفا، والذي كان مصدر استفزاز لمشروع الكثلكة، تعرض لاهوت التحرير بعد سقوط جدار برلين إلى استفزاز من مصدرين مختلفين: - المصدر الأول هو مشروع الأنجلة وإعادة الأنجلة، - المصدر الثاني: هو مشروع الأسلمة.
لقد ظهر لاهوت التحرير كآلية كخلفية توسعية تتغيا مصادرة ومحاصرة كل الأشكال المسيحية الأخرى، خصوصا الأشكال التعبيرية للكنيسة الإنجيلية، هذه الأخيرة استطاعت أن تستوعب فئات مسيحية كثيرة، وأضحت مركز جذب شعبوي يعبر من خلاله عن آمال الفقراء، فكان من حصاد هذه المنافسة بسط نفوذها على مجالات إستراتيجية كانت بالأمس القريب حكرا على كنيسة روما، ومع ذلك ففي كثير من الأحيان حين تستعر حرب الإستقطاب بينهما، يصبح التفاوض أمرا واقعا من أجل قسمة عادلة بينهما للمجالات الحضارية المستهدفة.
أما بخصوص علاقة الكاثوليكية بالإسلام، فقد شكل لاهوت التحرير نوعا من الإدراك العميق لمنظومة القيم، خصوصا الإجتماعية منها، التي يتمتع بها الإسلام، فمنذ تفجيرات 11 شتنبر وحتى اليوم لا زال التضييق على الجمعيات الخيرية والإغاثية الإسلامية في الغرب، ومحاصرة نشطاءها ، -على الرغم من تدينهم الوسطي وفكرهم المعتدل-، وما هذه التصرفات في باطنها إلا تكبيلا لمشروع الأسلمة، ومزيدا من تضييق الخناق عليه، في مقابل التحرير الكامل لمشاريع الكثلكة والانجلة على حد سواء.
في ذات السياق نشرت صحيفة فيليت إم زونتاج الألمانية في بداية العقد الأول لهذا القرن، وبالضبط في 30 ماي 2004, تقريرا يكشف عن برنامج تنصيري كاثوليكي تقوده منظمة رابطة الرهبان لنشر الإنجيل، لوقف انتشار الإسلام حول العالم، وخصص له قدر هائل من المال. وحسب التقرير فإن أدوات المنظمة لتحقيق هذا الهدف متعددة، من أبرزها بناء المدارس ومرافق الخدمة العامة، خاصة الصحية منها التي تقدم خدمات اجتماعية مجانية...، واعتبر التقرير الذي حمل عنوان مليون ضد محمد، أن هذه المنظمة من أهم مؤسسات الفاتيكان مشيرا أنها تضم مليون فرد يعملون ليل نهار من اجل وقف انتشار الإسلام في العالم.
إن هذه الممارسات العدائية وغيرها، تفرز إشكالات أخلاقية تطبع الكثلكة كمشروع ديني يراد له أن يكون مشروعا كونيا، واستنادها إلى لاهوت التحرير بصورته الحالية في توسيع المجال الكاثوليكي يعد نسفا لكل مبادرات الحوار والتعايش، واختزالا مجحفا لكل المفردات الحضارية الأخرى داخل إطار الكنيسة المسكونية، كما عبر عن ذلك العالم اللاهوتي الكاثوليكي هانس كونغ.
لذا، وعلى الرغم من الإعلانات المتتالية لكنيسة روما من نوايا في الحوار والتفاهم، إلا أن الواقع يعبر عن خلاف تلك النوايا، بل الأكثر من ذلك نجدها اليوم تنتشر مستغلة واقع التشظي السياسي، والتناحر العسكري، والتخلف الاقتصادي داخل البلدان الفقيرة.
إن أي حوار جدي لا يتأتى حقيقة بالخطب الرنانة والمؤثرة، والمشاهد الدرامية وتراجيدية، بل بالأفعال الملموسة، تكون انطلاقتها الفعلية بتحرير اللاهوت من الممارسات العدائية والإقصائية، لا بلاهوت التحرير.
نعم، تكون البداية بتحرير اللاهوت الكاثوليكي من عقدتين، الأولى: هي عقدة الإرث التاريخي المتراكم الذي أفرزته نفسية القرون الوسطى، وأما العقدة الثانية: فلا تقل أهمية عن الاولى، إنها عقدة الإسلاموفوبيا التي تقتات على الهواجس والمخاوف من الإسلام ...، والتي باتت أكبر معوق للحوار الإسلامي المسيحي بعد معوق التنصير.