التوبة والإنابة في شهر الخير والرحمة
فيا غبطة من استيقظ من رقدته, وتنبه من غفلته, وندم على تقصيره, واعترف بذنبه, وتضرع طالباً المسامحة والعفو, فالعفو من أسمائه
فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي اختص شهر رمضان بإنزال القرآن, وجعل نهاره لصيام ثالث أركان الإسلام, وأغلق فيه أبواب النيران, وفتح فيه أبواب الجنان, وصفد فيه مردة الجن, ليقلّ الشر, ويكثر الخيرُ, رحمةً منه عز وجل بأمة محمد عليه الصلاة والسلام, فمن رُحِمَ فيه فهو المرحوم, ومن حُرِمَ خيره فهو المحروم, ومن لم يتزود فيه لمعاده فهو ملوم.
بلوغ شهر رمضان وصيامه وقيامه نعمة عظيمة, فكم ممن أمَّل أن يدرك هذا الشهر فخانه أملُهُ فصار قبلهُ إلى ظلمة القبور, مرتهن بعمله, لا يستطيع أن يقدم لنفسه شيئاً ينفعه في آخرته, فطوبي لمن أدرك هذا الشهر, وجاهد نفسه وترك شهوات نفسه لموعد غيب لم يره, فالأيام خزائن للناس ممتلئة بما خزنوه فيها من خيرٍ وشرٍّ, وفي يوم القيامة تُفتحُ هذه الخزائن لأهلها, فالمتقون يجدون في خزائنهم العزَّ والكرامة, والمذنبون يجدون في خزائنهم الحسرة والندامة.
مفتاح توبة المذنبين- وكلنا ذلك الرجل- استشعار عظمة من عصيناه, فمن كان عالماً بالله وعظمته وكبريائه وجلاله, فإنه يهابهُ ويخشاه, فلا يقع منه مع استحضار ذلك عصيانه, كما قال بعضهم: "لو تفكر الناس في عظمة الله, ما عصوه" فعقابه أليم, وبطشه شديد, قال الله تعالى: { {إن بطش ربك لشديد } } [البروج:12] وقال عز وجل : { {وأن عذابي هو العذاب الأليم } } [الحجر:50] والخوف من الله أصل كل خير, وما فارق الخوف قلباً إلا خرب, فهو سراج القلب الذي يبصر به الخير من الشر, والنفع من الضرِّ, وهو النار المحرق للشهوات, وإذا حل الخوف من الله الجليل في قلب العبد الضعيف فسوف يتخلص بتوفيق الله له من أسر الشهوة, التي ملكت عليه نفسه وأبعدته عن ربه, وسيستيقظ من غفلته التي جعلته غير مستعد لآخرته, وسيخرج من ظلمات المعاصي إلى نور الطاعة.
فيا أيُّها العاصي ! وكلنا ذلك الرجل, قد أمر الله سبحانه وتعالى عباده بالتوبة, فقال: { {وتوبوا إلى الله جميعاً } }[النور:31] ووعد القبول, فقال: { {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده} } [الشورى:25] وفتح باب الرجاء حتى لا يقنط العبد من رحمته مهما عظمت ذنوبه, فقال سبحانه وتعالى: { {قُل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفرُ الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم} } [الزمر:53] فالكريم بابه مفتوح للمذنبين, يدعوك إلى التوبة والإنابة ويعدك المغفرة والرحمة فأجب دعوة الكريم.
الناس في هذه الدنيا على سفر, فاستعد لسفرك, وتأهب لرحيلك, ولا تغتر بما اغتر به من كان قبلك من طول آمالهم, فندموا عند الموت أشد الندامة, وأسفوا لعدم التوبة والإنابة, فكن من الموت على وجل, فما تدري متى يهجمُ الأجل, قال لقمان لابنه: يا بني لا تؤخر التوبة فإن الموت يأتي بغتة.
تعرض لنفحات ربك في هذا الشهر, فإن لله فيه نفحات يُصيبُ بها من يشاءُ, فمن أصابته سعد بها آخر الدهر, فالمبادرة بالتوبة, والعجل قبل أن يندم المفرط على ما فعل, قبل أن يسأل الرجعة ليعمل صالحاً فلا يُجاب إلى ما سأل, قبل أن يحول الموت بين المؤمل وبلوغ الأمل, قبل أن يصير المرء مرتهناً في قبره بما قدم من عمل.
الإنابة الإنابة, قبل غلق باب الإجابة. والغنيمة الغنيمة, بانتهاز الفرصة في هذه الأيام العظيمة, فما منها عوض ولا لها قيمة, فمن أصبح أو أمسى وهو على غير توبةٍ, فهو على خطر, قال سبحانه وتعالى: { {ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون} } [الحجرات:11]
فيا غبطة من استيقظ من رقدته, وتنبه من غفلته, وندم على تقصيره, واعترف بذنبه, وتضرع طالباً المسامحة والعفو, فالعفو من أسمائه, وهو سبحانه يحب العفو عن عباده, وعفوه أحبُّ إليه من عقوبته, ولولا طمع المذنبين في العفو, لاحترقت قلوبهم باليأس من الرحمة, ولكن القلوب إذا ذكرت عفو الله, استروحت إلى برد عفوه.
يا من عزم على التوبة احذر من التسويف فإنه أكبر جنود إبليس, وأكثر صياح أهل النار من التسويف, والمسوف يبني الأمر على ما ليس إليه, وهو البقاء, فلعله لا يبقى, وإن بقى فربما لم يقدر على الترك غداً كما يقدر عليه اليوم, والإنسان كلما طال عمره زاد ضعفه, فمن عجز عن مقاومة الذنوب مع قوته, كيف يطمع في ذلك مع تقدم عمره, وضعف حاله؟! ثم إنك بتسويف التوبة آثرت المعصية على الطاعة فتعجلت الإثم, وفاتك عز التقوى ولذة الطاعة, واعلم أن تأخير التوبة في حال الشباب قبيح, وفي حال المشيب أقبحُ وأقبح, فصاحب الشيب لا ينتظر غير الموت, فقبيح منه الإصرار على الذنب حينئذٍ, أيقظنا الله وإياكم من رقدة الغفلة.
يا من عزم على التوبة إذا وسوس لك الشيطان أن توبتك تعنى ترك لذات المعاصي, فاعلم أنك مهما تركت من أجل التوبة من لذات, فستجد خيراً منها, فمن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه, وستجد زيادة على ذلك سعادة لم تعرفها من قبل, وستجد حلاوة للطاعة لم تذقها من قبل, وستجد عزة طالما فقدتها في المعصية, وستجد أنساً في نفسك, وطمأنينة في قلوبك, وانشراحاً في صدورك, ونوراً في وجوهك, وستذهب تلك الهموم والغموم, والأحزان المتوالية, والمخاوف المستمرة.
التوبة تعني: مقاطعة المعصية, ومكانها, ومن يزينها ويحسنها, ومن يدعو إليها من شياطين الإنس, قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: من أراد التوبة....فليدع مخالطة من كان يخالطه, وإلا لم ينل ما يُريدُ.
إخواني: تدبروا الأمور تدبر ناظر, وأصغوا إلى ناصحكم والقلب حاضر, واحذروا غضب الحليم, وهتك الساتر, هاجروا إلى دار الإنابة بهجران الجرائر, وصابروا عدوكم مصابرة صابر, وتهيأوا للرحيل إلى عسكر المقابر, قبل أن يبل وابل الدموع ثرى المحاجر, ويندم العاصي ويخسر الفاجر, وقبل أن يحال بينكم وبين التوبة, فالتوبة مبسوطة حتى معاينة قابض الأرواح, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) [أخرجه الترمذي» ]
كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ
**استفدت في إعداد هذا الموضوع من كتاب الحافظ ابن رجب "لطائف المعارف " وكتاب "صيد الخاطر" و"التبصرة" للإمام ابن الجوزي, وكتاب: مختصر منهاج القاصدين للمقدسي, رحمهم الله جميعاً, ونقلت منها بالنصِّ, ونقلت منها بتصرف.
- التصنيف:
- المصدر: