خيانة الرّخاء …!
ومن الرخاء أن تكون الشريعة مصانة، والدين حمى مقدس، والفضيلة حصناً مكيناً، ثم تذهب الهيبة من النفوس بتلعب السفلة، وظهور الفسقة، فيلغ كل جاهل ومتعالم في منهل الشريعة المطهرة
يغلب على بني آدم الآنية، والانغماس في اللحظة الحاضرة، والتفاعل مع الصورة القائمة ولو كانت قاتمة؛ لأن الإلف والعادة يغلبان الإنسان ويضعفان الشعور؛ وينسى بنو أبينا الشيخ الكبير آدم عليه السلام الغد والمستقبل، وتباغت كل صورة أختها بالمسح والإزالة.
وبسبب هذه الخلة ينخفض مستوى إنتاجية وفعالية الإنسان، وينتقل من أسر لحظة أو حالة أو صورة إلى أسرٍ آخر، دون أن يشعر بهذا القيد أبداً، أو يفطن له، أو يخطر له على بال، فيتبلد حسه، وتنعدم ملاحظته؛ فلا يقوى على التمييز والإدراك كما ينبغي، ويحدِث هذا التبلد تكيفاً غير منطقي، يرى الإنسان بموجبه أن أوضاعه طبيعية مستقرة وغير قابلة للتغير أو التحول؛ فلا يفكر بالمراجعة والتجديد بله الشروع في التغيير.
وقد حثنا النبي _ صلى الله عليه وسلم _ على تجاوز أغلال الحاضر إلى التفكير بالمستقبل حين أمرنا قائلاً: “اغتنم خمساً قبل خمس…” الحديث، كما أرشدنا _ عليه الصلاة والسلام _ إلى ضرورة الإمساك بزمام المبادرة حين قال: “بادروا بالأعمال سبعاً …” الحديث، ولي مع هذين النصين الكريمين وقفات هي:
أولاً: من شروح هذين النصين الشريفين ما قاله القاري رحمه الله في مرقاة المفاتيح : ” اغتنم من الاغتنام وهو أخذ الغنيمة، خمساً أي من الأحوال الموجودة في الحال، قبل خمس أي من العوارض المتوقعة في الاستقبال، شبابك أي زمان قوّتك على العبادة، قبل هرمك بفتحتين أي قبل كبرك وضعفك عن الطاعة، وصحتك أي ولو في هرمك، قبل سقمك بفتحتين وبضم فسكون أي مرضك، وغناك أي قدرتك على العبادات المالية والخيرات والمبرات الأخروية في مطلق الأحوال ومن أعم الأموال، قبل فقرك أي فقدك إياه بالحياة أو الممات فإن المال في صدد الزوال، وفراغك قبل شغلك سبق بيان مبناه ومعناه وحياتك ولو في الكبر المقرون بالمرض والفقر الممكن فيه الإِتيان بذكر الله قبل موتك أي وقت إتيان أجلك وانقطاع عملك … ” انتهى.
وقال الحكمي رحمه الله في معارج القبول: “يعني أن هذه الخمس أيام الشباب، والصحة، والغنى، والفراغ، والحياة، هي أيام العمل والتأهب والاستعداد والاستكثار من الزاد، فمن فاته العمل فيها لم يدركه عند مجيء أضدادها، ولا ينفعه التمني للأعمال بعد التفريط منه والإهمال في زمن الفرصة والإمهال، فإن بعد كل شباب هرماً، وبعد كل صحة سقماً، وبعد كل غنى فقراً، وبعد كل فراغ شغلاً، وبعد كل حياة موتاً.. ” انتهى كلامه. وقال المباركفوري رحمه الله في تحفة الأحوذي: ” قوله قال بادروا بالأعمال سبعاً أي سابقوا وقوع الفتن بالاشتغال بالأعمال الصالحة واهتموا بها قبل حلولها.. ” الخ.
ثانياً: تدلنا هذه النصوص الشريفة إلى أن التفكير بالمستقبل واستشرافه، ومن ثم التخطيط له والاستعداد للتعامل معه، مطلب شرعي وواجب معيشي؛ وإهمال هذا الجانب يجعل مستقبل الإنسان مسرحاً لصدمات عنيفة قد يحار في التعامل معها؛ بسبب ركونه إلى رغد العيش ورخائه؛ وكم لهذا الرخاء من خيانة! وكم سبب الرغد من ترهل وجمود! كما ينبهنا الحديث الثاني إلى ضرورة أن تكون أفعالنا ابتدائية أو استباقية، وألا تكون ردود أفعال نتحرك حسب ماتقتضيه تحركات الطرف المقابل؛ فلا مناص من أن نكون مختارين لاستجابتنا، بمحض إرادتنا، دون أن نقع تحت سيطرة و تحكم عن بعد من عدو أو خصم.
ثالثاً: أن من الرخاء ما يكون شدة قياساً لغيره؛ ومن الشدة ما تكون رخاءً قياساً على غيرها، وقد تختلف الموازين باختلاف الأزمان، والأماكن، والأحوال، ولكل حالة لبوسها ووصفها الذي يقدره أهل الشأن من الأمناء الصادقين.
رابعاً: كم يعاني أهل الإسلام من خيانات الرخاء وهجمات الشدائد؛ من غير عبرة تؤخذ أو فائدة تكتسب، أو سياسة تتبع؛ لجلب نفع أو دفع مضرة! فمن الرخاء أن تكون بلاد الإسلام عزيزة منيعة، ثم تأتي سنون يصير منها المحتل والمهدد، والمضطرب، والمحصور والمقهور، فلم نستفد من رخائنا ولم نتفاعل مع شدتنا بالحكمة والحزم الذي يتطلبه الموقف.
ومن الرخاء أن تكون الشريعة مصانة، والدين حمى مقدس، والفضيلة حصناً مكيناً، ثم تذهب الهيبة من النفوس بتلعب السفلة، وظهور الفسقة، فيلغ كل جاهل ومتعالم في منهل الشريعة المطهرة، ويصير الدين والمتدينون كلأً مباحاً سائغاً لكل عييٍ، وغاوٍ، وشيطان مريد، ويُنادى على الرذيلة بصوت جهير وراية مرفوعة؛ ويصبح حملة الشرع المطهر والذابين عنه من السابقين أو المعاصرين مادة سهلة التناول من الصحفيين والكتبة بغير تؤدة ولا تحقق أو استحياء.
ومن الرخاء أن يكون للفتيا جهابذتها وأشياخها الكبار حتى إذا ما مضوا لربهم _ عليهم رحمة الله _ تصدى للتوقيع عن رب العالمين طلاب الدنيا والشهرة، بفتاوى تصف الغرور والتدليس والبهتان، ويضج من قبحها عامة المسلمين؛ بله أهل العلم والمعرفة. ومن الشدة عقب الرخاء الاضطراب في مفهوم التدين ما بين الغلاة والجفاة، حين يُقصى أتباع الوسط والقسطاس المستقيم؛ فينجم النفاق ويظهر الغلو، وفيهما من الشناعات والمخازي مالا يخفى.
خامساً: ومن واجب أهل البصيرة من المسلمين الاتحاد في رابطة عالمية لدراسة تاريخ المسلمين، ومراقبة حاضرهم، واستشراف مستقبلهم؛ لاستنباط السنن ومقارنة الأحداث ببعضها، مستفيدين من حالات الرخاء والشدة ليصنعوا _ بعد فضل الله وتوفيقه _ رؤية مستقبلية طموحة، يخرج بها أهل الدين الحق من التيه والهوان والتأخر، إلى حيث مكانهم الذي أراده الله لهم حين يتبعون أمره، ويسعون في مرضاته ويجتنبون نهيه، ويبتعدون عن مساخطه؛ فيكونوا سادة الدنيا، وقادة البشرية، وحماة الحق والفضيلة.
سادساً: أن على كل واحد من المسلمين واجب لاانفكاك من أدائه على الوجه الأكمل؛ ويشمل هذا الواجب العالم والحاكم، والجندي والعامل، والتاجر، والرجل والمرأة والطفل، وصاحب المهارة والحرفة، وذا الفكر والأدب والثقافة؛ فيجب على كل فرد منهم أن يكون مشروع نهضة، ورمز مقاومة وممانعة، وديوان عزة، وسجل كرامة ومجد، ولن يمضي الواحد من هؤلاء إلى ربه راشداً مرضياً إلا بأداء ما استوجبه الله عليه؛ فالله الله في نفوسكم، وفي أمة محمد صلى الله عليه وسلم وبلاد المسلمين.
وأخيراً؛ فالتحدي يوجد الاستجابة؛ والحاجة أم الاختراع؛ غير أن التفوق يتحقق حين تكون التحديات غير مفاجئة ولا مباغتة؛ بل متوقعة ومُستعد لها بالتصرفات الملائمة، والحلول العملية، بما يجعلها فرصة لمزيد من المكاسب؛ لا مصدراً للشقاء والتعاسة، وكم من شدة كانت طريقاً للرخاء؛ وكم من رخاء كان سبباً للشدة، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
أحمد بن عبد المحسن العساف- الرياض
مدونة أحمد بن عبد المحسن العساف
- التصنيف: